كُنْ أبا ذرٍّ.. كُنْ أبا خيثمةٍ.. الصالحون لا يتخلفون
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ الذي هدانا صراطَه المستقيمَ، ويسَّر لنا تعاليمَ دينِه القويم، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ربُّنا الكريمُ وإلهنا الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صاحبُ الخلقِ العظيمِ، والقلبِ السليمِ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإيمانٍ وتسليمٍ، إلى يومِ البعثِ وإحياءِ الرميم. أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالمتقونَ سابقون للخيراتِ، عاملونَ للصالحاتِ، مبادرونَ للطيِّبِ من القولِ والفعلِ (قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
معاشرَ المؤمنين: رجعَ أبو خيثمةَ إلى أهلِه في يومٍ حارٍ؛ بعد ما سارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أياماً في مسيرِه إلى غزوةِ تبوك، فوجدَ امرأتينِ لهُ في عريشين لهما في حائطِه، قد رشَّتْ كلُّ واحدةٍ منهمَا عريشَها، وبرَّدَتْ فيه ماءً، وهيَّأتْ له فيه طعاماً، فلما دخلَ قامَ على بابِ العريشِ، فنظرَ إلى امرأتيه وما صنعتا لهُ؛ فقالَ أبو خيثمةَ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضَّحِّ والريْحِ والحَرِّ!، وأبو خيثمةَ في ظلٍّ باردٍ وطعامٍ مهيَّأٍ، وامرأةٍ حسناءَ في مالِه مقيمٌ؟ ما هذا بالنَّصَفِ! واللهِ لا أدخلُ عريشَ واحدةٍ منكما، حتى ألحقَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فهيِّئا زاداً؛ ففعلتا، ثم قدمَّ ناضحَه فارتحلَه، ثمَّ خرجَ في طلبِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى أدرَكَهُ حينَ نزلَ تبوك حتى إذا دَنَا مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ الناسُ: هذا راكبٌ على الطريقِ مقبلٌ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُنْ أبا خيثمة" فقالوا: يا رسولَ اللهِ هو واللهِ أبو خيثمةَ، فلمَّا بلغَ، أقبلَ فسلَّمَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ لهُ: "أولى لك يا أبا خيثمة"
ثم أخبرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الخبرَ؛ فقالَ: خيراً ودعا له بخيرٍ.
وتخلَّفَ أبو ذرٍّ وأبطأ به بعيرُه، وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: دعوهُ إن يكُ فيه خيرٌ فسيُلحِقُه اللهُ بكم، وإن يكُ غيرَ ذلك فَقَدْ أراحكمُ اللهُ منه، فتلوَّم أبو ذرٍّ على بعيرِه فلمَّا أبطأ عليه أخذَ متاعَه فجَعَلَهُ على ظهرِه ثم خرجَ يَتْبَعُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ماشياً، ونزلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعضَ منازلِه، ونظرَ ناظرٌ من المسلمِين فقالَ يا رسولَ اللهِ إنَّ هذا الرجلَ ماشٍ على الطريقِ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "كُنْ أبا ذرٍّ" فلما تأمَّلَه القومُ قالوا: يا رسولَ اللهِ: هو واللهِ أبو ذرٍّ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يرحَمُ اللهُ أبا ذرٍّ يمشي وحدَه ويموتُ وحدَه ويُبعَثُ وحدَه" .
في قصَّةِ هذينِ الصحابيينِ رضي الله عنهما مثالٌ وأيُّ مثالٍ للحاقِ بالصالحين، وعدمِ التخلفِ عن ركبِ المؤمنين، وإنْ عظمتِ الظروفُ وصَعُبَتِ الأحوالُ، وإنْ وُجدتِ الأعذارُ وساغتِ الأسبابُ، فالمسلمُ مأمورٌ بصحبةِ الصالحين، ومرافقتهم، والعملِ بعملِهم، ومجاهدةِ نفسِه على ذلك، فقد قال الله تعالى (واصبرْ نفسَك مع الذين يدعون ربَّهمْ بالغداةِ والعشيِّ يريدونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عيناكَ عنهم تريدُ زينةَ الحياةِ الدنيا) وكان من دعاءِ إبراهيمَ عليه السلامُ ( ربِّ هَبْ لي حكماً وألحقني بالصالحين) قال المفسرون: لأعملَ عمَلَهُم في الدنيا، وأكونَ معَهُم في الدارِ الآخرة. وكان من دعاءِ النبي ِّ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ) رواه الإمامُ أحمدُ وغيرُه عن رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه وصححه الألباني.
واللحاقُ بالصالحين لا يكونُ إلا لِمَنْ صَحِبَهُمْ في الدنيا؛ فأحبَّهم وعَمِلَ بعملهم.
معاشر المؤمنين: التخلُّفُ عن الصالحين شاملٌ لكلِّ تخلفٍّ عن واجبات الدِّيْنِ وعن كلِّ شُعبَةٍ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ، وأوضحُ صورِ التخلُّفِ عن ركبِ الصالحين؛ التخلُّف عن صلاةِ الجمَاعَةِ وهُجْرَانُ المساجدِ، الذي يُعَدُّ فاعلُه متصفاً بصفةٍ من صفاتِ النِّفاقِ والعياذُ بالله، فعنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: (مَن سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ علَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بهِنَّ، فإنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ سُنَنَ الهُدَى، وإنَّهُنَّ مَن سُنَنَ الهُدَى، ولو أنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ في بُيُوتِكُمْ كما يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّفُ في بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، ولو تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وما مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِن هذِه المَسَاجِدِ، إلَّا كَتَبَ اللَّهُ له بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عنْه بهَا سَيِّئَةً، وَلقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى به يُهَادَى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ) رواه مسلم، ولأجلِ ذا كان الصالحون إذا فاتتهم صلاةُ الجماعةِ حزنوا حُزناً شديداً، وربما اجتهدوا في تعويضِ الأجورِ التي فاتتهم لأجلِ اللّحاقِ بالصالحين، هذا عبدُ الله القواريريُّ شيخُ البخاريِّ ومسلمٍ قالَ: لم تكنْ تفوتني صلاةُ العشاءِ في جماعةٍ قطّ، فنزلَ بي ليلة ضيفٌ فشغلتُ بسببِه، وفاتتني صلاةُ العشاءِ في الجماعةِ، فخرجتُ أطلبُ الصلاةَ في مساجدِ البصرةِ فوجدتُ الناسَ كلَّهم قد صلوا وغُلّقِت المساجدُ، فرجعتُ إلى بيتي وقلتُ: وردَ في الحديثِ: الجماعةُ تزيدُ على صلاةِ الفردِ بسبعٍ وعشرين درجةً، فصليتُ العشاءَ سبعاً وعشرين مرةً ثم نِمْتُ فرأيتُ في المنامِ كأني مع قومٍ على خيلٍ وأنا أيضاً على فرسٍ ونحن نستبِقُ وأنا أركضُ بفرسٍ فلا ألحقُهم؛ فالتفتَ إلىَّ أحدُهُم فقالَ لي: لا تُتْعِبْ فرسَكَ فلنْ تلحقَنا، قال: لأننا صلينا العشاءَ في جماعةٍ وأنتَ صليتَ وحدَكَ، فانتبهتُ منْ منامي وأنا مغمومٌ حزينٌ.
ومن أعظمِ التخلُّفِ؛ التخلُّفُ عن صلاة الجُمُعَةِ، فقد اشتدَّ التحْذيرُ عن تركِها من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ) رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وصحَّحَهُ الألبانيُّ.
بارك اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما صرَّفَ فيهما من الآياتِ والحكمة.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ الذنوبِ والخطايا فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له إلاهُ الأولينَ والآخرين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولُه قدوةُ الثقلين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله : اتقوا الله (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
معاشر المؤمنين: التخلُّفُ عن رَكْبِ الصالحين مؤذنٌ بالهلاكِ واستحواذِ الشيطانِ على المرءِ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ؛ لا تقامُ فيهمُ الصَّلاةُ؛ إلَّا قدِ استحوذَ عليْهمُ الشَّيطانُ؛ فعليْكم بالجماعةِ؛ فإنَّما يأْكلُ الذِّئبُ القاصيةَ" رواه أبو داود والنسائيُّ وحسَّنه الألباني.
والتَّخلُّفُ عن رَكْبِ الصالحين يؤدي إلى الضلالةِ والانحرافِ، ومفارقةِ الجماعةِ، فعن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (إنَّ اللَّهَ لا يَجْمَعُ أمَّتي - أو قالَ: أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - علَى ضلالةٍ ويدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ) رواه الترمذيُّ وصححه الألباني.
والتَّخَلُّفُ عن رَكْبِ الصالحين يَحْرِمُ المرءَ من مجالَسَتِهم وصُحْبَتِهم، و يوقعُه في مجالسةِ السيئين، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ [يعطيك] وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.
وحينما توحي نفسُ المرءِ إليه بالاعتزالِ، وتركِ مُخالطَةِ الناسِ، والابتعادِ عنهم؛ فإنه يُحْرَمُ الخيريَّةَ وأجرَ الصّبرِ على الأذى، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) رواه الترمذيُّ وصححه الألباني
والمؤمن بطبْعِه يألفُ ويُؤلَفُ، ومن فَقدَ هذه الصَّفة؛ فَقَدَ خيراً كثيراً؛ فعن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (المؤمنُ يَألَفُ ويُؤلَفُ، ولا خيرَ فيمَنْ لا يَألَفُ ولا يُؤلَفُ) رواه الإمامُ أحمدُ وغيرُه وصحَّحَه الألباني.
وبعدُ عباد الله: اللحاقُ برَكْبِ الصالحينَ في كلِّ الأمور والشؤون؛ خيرٌ للعبد في نفسِه وقلبِه، فالصالحون لا يتخلفون عن اتباعِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومتابعتِه في شريعتِه وسنَّته ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)
هذا وصلوا وسلموا على رسول الهدى، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيه الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)