الخطبة الأولى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} أما بعد:
يدخلُ محمدٌ ﷺ فاتحًا لمكَّة، فيؤتى بمن حاصروه في الشِعب ثلاث سنين حتى أكلَ هو وأصحابه ورقَ الشَّجر، وبمن ألقوا عليه سلا الجزور وهو ساجدٌ أمامَ الكعبة يناجي ربَّه، يؤتى بمن طردوه من وطنه وأحبِّ البلاد إليه، فيقفون أمامه أسرى تعلوهم الرهبة وترهقهم الذلّة، فيقول لهم: ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟! فيقولون بعد كلِّ تلك الإساءات: خيرًا! أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم! فلا يعاتبهم بكلمةٍ واحدة، بل يصدرُ حينها أعظمَ قرارَ عفوٍ دوَّنه التَّاريخ: (اذهبوا فأنتم الطلقاء!) نعم هكذا انتهى تاريخُ سنينٍ من المعاناة والإساءات والمضايقات في لحظةٍ واحدة بكلمةٍ واحدة! تفهم بها طرفًا مِنْ قولِ الله (وإنَّك لعلى خُلقٍ عظيم).
يخرجُ ﷺ قبل ذلك إلى الطائف قاطعًا المسافات الطِوال مِنْ أجل أن يدعو أهلها إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، فيكذبونه ويشتمونه ويغرون به السفهاء؛ فيترصّد له السفهاء ويلقون عليه التراب ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه الشّريفة، فهام على وجهه ماشيًا لا يدري إلى أين يولّي، فما شعر بنفسه إلا بعد أن قطع ماشيًا على قدميه من الطائف إلى قرن الثعالب ما يقرب من 46 كيلو دون أن يشعر مِنْ شدّة الحزن والهمّ! فيأتيه بعد ذلك مَلَكُ الجِبال قائلًا: يا محمد لو شئتَ لأطبقتُ عليهم الأخشبين؟ فيقول نبيُّ العفو والرحمة ﷺ -ولعلّ جراحاته منهم لم تلتئم بعد-: (لا، لعلّ الله أن يخرجَ مِنْ أصلابهم من يعبد الله)!
ولم يكنْ نبيّنا ﷺ بدَعًا مِنْ الرسل في صفحه وعفوه، بلْ كانَ هذا دأبُ الأنبياء مِنْ قبله، فهذا يوسف الصدِّيق -عليه السلام- قد قصَّ اللهُ علينا كيفَ حسدَه إخوتُه حتى ألقوه في البئر، وفرّقوا بينه وبين أبيه، وباعوه كعبدٍ بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة، وتعرَّض للفتنة بسببهم، ومكث في السجن سنين عددا وهو الكريم ابن الكريم بسببهم، ثُمّ تمضي السنين ولا زالوا يشوّهون سمعته ويكذبون عليه ويتهمونه بأنه كان سارقًا بقولهم: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}
وبعدَ كلِّ هذ الإساءات على مرّ تلك السنين يأتونه وقد مسَّهم الضرّ واشتدّت بهم الحاجة يطلبون منه الصدقة، وهو حينها عزيزُ مصرَ بأكملها؛ فما وبّخهم بكلمة، ولم يرها فرصةً لتصفية حساباته معهم، ولم ينتقم لنفسه، بل ما زادَ على أن قالَ لهم: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}
وكما أنَّ العفو خلقُ الأنبياء، فكذلك هو خلقُ أتباعِ الأنبياء مِنْ بعدهم، فلمَّا تخلَّف عن أبي بكر الصديق هذا المقام العظيم، حينما كان ينفق على رجلٍ يُقال له مسطح، فلما ابتُلي مسطح بالوقوع في عِرضِ الحصان الرزان الصديقة بنت الصديق في حادثة الإفك الشهيرة حلفَ أبو بكرٍ ليقطعنَّ عنه النفقة! فأنزلَ اللهُ آيةً واحدةً يُكمِّل بها أبا بكرٍ الصديق ويرفعه مِنْ مقام الحقّ والعدل، إلى مقام الصفح والفضل فقال {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}
فكانت هذه الآية كافيةً لأبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه- بأن يصفح عمّن وقع في عرض ابنته ويقول: (بلى والله أحبُّ أن يغفر الله لي!) فغفر لمسطح وأعاد عليه النفقة على كلِّ ما قاله في ابنته الصدِّيقة!
ولكَ أن تقول -أيُّها المظلوم- بعد هذه القصص كلِّها: ولكنَّ هذا فضل ولا يلزمني العفو، نعم لك أن تقول هذا وليس لأحدٍ عليك سبيل في لومك أو تخطئتك، فهذا حقُّك الذي جعله الله حقًّا لك حينما قال: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيل}
ولكن أتدري أيها المظلوم ماذا سيكون لك مِنْ الجوائز والكنوز لو أنك تغلّبتَ على نفسك، واخترتَ الخيار الأصعب الذي قال الله عنه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور}؟!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه رحيمٌ غفور
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} أما بعد:
فهذه ثلاثة كنوز عظيمة، لمن اختار الخيار الأشقَّ والأصعب وعفا عمَّن ظلمه وأساء إليه:
الكنز الأول: ما ذكره ابنُ القيِّم -رحمه الله- بقوله: "وهو -سبحانه وتعالى- عفو يحب من يعفو عنهم، قابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده، ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجوداً وعدماً، فمن عفا عفا عنه، ومن غفر "غفر له، ومن سامح سامحه، ومن حاقق حاققه، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة؛ فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه".
فكلُّنا -أيُّها الكرام- له ذنوب ومعاصي يرجو أن يعامله الله فيها بالفضل لا بالعدل، فإذا أردنا أن يُعاملنا الله بالفضل لا بالعدل فعلينا أن نعفو عن عباد الله، راجين بذلك أن يعفو ربُّنا عنَّا كما عفونا عن خلقه وعباده.
الكنز الثاني: أنَّ اللهَ يرزقُ مَنْ يعفو راحةَ البال وانشراح الصدر وصفاء الذّهن، فيشتغل بتكميل نفسه وتحصيل معالي الأمور بدلًا مِنْ أن يشتغل قلبُه بالعداوات وطلب الانتقام فيضيّع على نفسه بذلك الاشتغال ما هو أعظم مِنْ المصيبة التي نالته منهم كما ذكرَ ابنُ تيمية -رحمه الله- .
وخذها مِنْ الإمام الشافعيّ -رحمه الله- الذي عركَ الحياةَ، ثُمَّ أعطاك خُلاصة تجربته في راحة البال بقوله:
لـمَّا عفوتُ ولم أحقدْ على أحدٍ *** أرحتُ نفسي مِنْ همِّ العداواتِ!
وأمَّا الكنز الثالث -وهو أجلُّها وأعظمها-: فهو أنَّ العافي عن الناس لن يُتعامل معه بالمعادلة المعروفة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وإنما سيكون أجره على الله سبحانه الذي هو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، ففي ذاك الموقف العصيب الذي يتمنّى كلُّ إنسانٍ فيه حسنةً واحدةً ينادي المنادي: ليقم مَنْ كان أجره على الله! فلا يقوم حينها سوى الصابرين والعافين عن الناس {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
فإذا أردتَّ أن تكونَ ممَّن يُنادى بذلك النداء المهيب في ذلك الموقف العصيب فـ:
كنْ قابلَ العذرِ واغفرْ زلَّةَ النَّاسِ *** ولا تطع يا لبيبًا أمرَ وسواسِ
فاللهُ يكرهُ جبَّارًا يشاركهُ *** ويكرهُ اللهُ عبدًا قلبُه قاسي
هلَّا تذكَّرتَ يومًا أنتَ مدركه *** يومًا ستُخرجُ فيه كلَّ أنفاسي
يومَ الرحيل عن الدنيا وزينتها *** يوم الفراق شديدَ البطشِ والباسي
ويوم وضعك في القبر المخيف وقد *** ردّوا الترابَ بأيديهم وبالفاسي
ويوم يبعثنا والأرضُ هائجةٌ *** والشمسُ محرقةٌ تدنو من الراسي
والناسُ في منتهى جوعٍ وفي ظمأٍ *** وفي شقاءٍ وفي همٍّ وإفلاسي
يفرُّ كلُّ امرئ مِنْ غيره فَرَقًا *** هل أنتَ ذاكرُ هذا اليوم أم ناسي؟
سيبعث اللهُ أملاكًا مناديةً *** هيا تعالوا لربٍّ مطعمٍ كاسي
هيا تعالوا إلى فوزٍ ومغفرةٍ *** هيا تعالوا إلى بِشْرٍ وإيناسي
أين الذين على الرحمن أجرهم؟ *** فلا يقوم سوى العافي عن الناسِ!
فاللهمَّ جمِّلنا بالعفو، وأعنَّا على المغفرة والصفح، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا، ولا تجعل في قلوبهم غلًا علينا.
اللهمّ عاملنا بفضلك وجودك وعفوك وإحسانك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار
اللهمّ اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين