كم نحن بحاجة للدعاء

عبد الله بن علي الطريف
1446/10/11 - 2025/04/09 23:40PM

كم نحن بحاجة للدعاء 1446/10/13هـ

أيها الإخوة: من فضلِ اللهِ تعالى على عبادِهِ أنَّهُ فتحَ لهم بابَ مسألَتِهِ ودُعَائِهِ، بل جَعَلَ الدُّعاءَ هُو العِبادةُ، وهُو من أفضلِ العباداتِ التي يُحِبُها اللهُ تعالى ويريدُها خَالِصَةً لَهُ لا يَصْرِفُها العبدُ إلى غيرِهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالَ عَزَّ من قائِلٍ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60] قالَ ابنُ كثيرٍ: وَقَوْلُهُ: (عَنْ عِبَادَتِي) أَيْ: عَنْ دُعَائِي وَتَوْحِيدِي، (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أَيْ: صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ..

والدُعَاءُ: هُو الصِلَةُ الحقيقيةُ الوَصِلَةُ بين العبدِ وربِهِ، فَبِهِ يَبُثُ الدَاعِي لربِهِ ما يُشغلُ فِكرَهُ ويُقلقُ قلبَهُ، وبهِ يتضرعُ إلى ربِهِ برغباتِهِ وحاجاتِهِ.

وبالدعاءِ: يتجدَّدُ ويتعزَّزُ إيمانُ العبدِ ويقِينُهُ بأنَّهُ مخلُوقٌ ضَعِيفٌ محتاجٌ لرحمةِ الله تعالى ونَعْمَائِهِ..

وبالدعاءِ: يَجْمَعُ العَبدُ بَينَ الافْتِقارِ والانْكِسارِ والاضْطِرارِ، ويَتَجَلَى إِيمانُهُ بأنَّ اللهَ تعالى هُو الغنيُ، وبيدِهِ الخيرُ وهُو على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ..  وإذا دَعا المؤمنُ ربَه بصِدقٍ وإِخلاصٍ واثِقًا في قُدرتِهِ تَعَالَى ورحمتِهِ وإِجابتِهِ تحققَ له التَّوازنُ النَّفسِيُ الضروريُ لحياتِهِ.

أيها الإخوة: والدُعَاءُ: دَلِيلٌ عَلى امتِلاءِ قَلْبِ المؤمنِ بالثِّقةِ باللهِ سُبحانه.. يقول ابن القيم، رحمه الله "والدعاءُ من أَنْفَعِ الأدويةِ، وهو عدُو البلاءِ يدافِعُهُ ويُعَالِجُهُ ويمنعُ نزولَهُ ويَرفَعُهُ، أَو يُخَفِفُه وهُو سِلَاحُ المُؤمِنِ".

بل إِنَّ الدُعاء أعظمُ سِلاحٍ وأيسرُهُ وأفتَكُهُ.. فهو سِلاحٌ في متناولِ أيدِينا لا يحتاجُ إلى تصريحٍ، ولا إلى تدريبٍ خَاصٍ.. سِلاحٌ يُطلقُ في كلِ وقتٍ.. ومن كلِ مكان عن قربٍ وعن بعدٍ.. ويمكن إطلاقه من الذكرِ، والأنثى والكبيرِ، والصغيرِ.. لكن المؤسفَ أنَّ كثيرًا منا قد قَصَّرَ في الأخذِ به.. ليسَ جَهلاً منَّا بأثرِهِ، ولكن لغفلةٍ منا، وصرفٍ عنه من الشيطانِ الرجيم.. إنَّ سِلاحَ الدعاءِ سِلاحٌ خفيٌ فتاكٌ ذو تأثيرٍ كبيرٍ وأَثَرٍ وَفِيرٍ.. يقول عنه الإمام الشافعي رحمه الله:

أَتَهْزَأُ بِالدُّعَــــــــــاءِ وَتَــــــــزْدَرِيهِ ***وَمَا تَدْرِي بِما صَنَعَ الدُّعَاءُ

سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ*** لها أمدٌ وللأمدِ انقضـــــــــاءُ

أيها الإخوة: اعلموا أَنَّ الرَكِيزَةَ الكُبرَى، والقاعِدَةَ الأَسمَى للدعاءِ الْمُستجابِ هي التعلقُ باللهِ ربِ العالمين، والانطراحُ بين يديه بِصدقٍ وإخلاصٍ. ولقد كان النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- أشَدَ النَاسِ تَعَلُّقًا بربِه في دعائِه خصوصًا في أيامِ الحُرُوبِ، والأزماتِ، ومُقارعةِ الخطوبِ، ففي ليلةِ معركةِ بدرٍ نَامَ الصحابَةُ -رضي الله عنهم وأرضاهم-وباتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- تلك الليلةَ يُصلي إلى جذعِ شجرةٍ، ويُكثِرُ في سجودِه أن يقول: "يا حيُّ يا قيوم" يكررُ ذلك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ-، ويسألُ اللهَ النصرَ، وحين رَأى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- جُنْدَ قُريشٍ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلائِهَا، وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ، وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ اللَّهُمَّ فَأَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ".

وهكذا كان المجاهدون السابقون يتوجهون للحي القيوم بالدعاءِ، والرجاءِ، والاستغاثةِ بأن ينصرَهم، ويخذلَ عدُوَهم، ويُهيئ لهم من أَمرِهم رشداً.. وتاريخُ الأمةِ مَلِيءٌ بالمواقف منها: كان مع قتيبةَ بنِ مسلمٍ لما كان واليًا على خُرَاسان في إحدى معاركِه مع التركِ الإمامُ محمدُ بنُ واسعٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فبعثَ قتيبةُ إلى المسجدِ لينظرَ من فيه، فقيلَ له: ليسَ فيه إلا محمدُ بنُ واسعٍ رافعًا أُصْبُعَهُ، فقال قتيبةُ: أُصْبُعُهُ تلك أحبُّ إليَّ من ثلاثين ألفَ فارس.. رواه أبو نعيم في حلية الأولياء..

وفي هذه الأيام كم نحن بحاجةٍ لِتَقِيٍ خَفِيٍ لا يَدْرِي عنه أَحَدٌ، يَرْفَعُ للبَارِي دعوةً هي خيرٌ من هذه الجيوشِ كلِها، أو يعينُها.. وفي الأمة ولله الحمد منهم كثير.. وقد اشتُهِرَ أنَّ السلطانَ نورَ الدين الشهيد -رَحِمَهُ اللهُ- كان يكرمُ العلماءَ والصلحاءَ والفقراءَ ويقدمُهم، فقيل له: تكرمُ هؤلاء، وإذا قاتلَك العدوُ كانوا في فُرشِهم؟ فقال: إنهم يقاتلون معنا بسهامٍ نافذةٍ وهم في فُرُشِهم.. يعني: الدعاء..

واعلموا بأنَّ الدعاء يُستجابُ وقت اشتدادِ المعركةِ، وشدَّةِ التحارب بين المؤمنين والكافرين، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ-: «‌ثِنْتَانِ ‌لَا ‌تُرَدَّانِ، ‌أَوْ ‌قَلَّمَا تُرَدَّانِ الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» أي: حين تشتبك الحرب بينهم، رواه أبو داود، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني.

وقد علَّمنا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ-: أنَّه «‌لَا ‌يَرُدُّ ‌الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ» رواه الترمذي عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-وحسَّنه الألباني. وأخبرنا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ: «لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». رواه الحاكم والطبراني في الدعاء وحسنه الألباني -رَحِمَ اللهُ الجَمِيعَ -عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-. أسأل الله بمنه وكرمه أن يعزَ دينَه وكتابَه وسنةَ نبيه وينصر جنده، اللهم عليك الصهاينة المحتلين واللهم اقتلهم قتل عاد وإرم.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد...

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أمرَ بالدعاءِ ووعدَ عليه الإجابة، فسبحانه من كريم جواد رؤوف بالعباد. وأشهد ألا إله اللهُ الملكُ الوهاب وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..

أما بعد: أيها الإخوة اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن دعاء المؤمنِ لأخيه بظهرِ الغيبِ من عبوديات القلب العظيمة، وفيها من الإخلاصِ والتجردِ والصدقِ والرحمةِ وإسداءِ النفعِ وتفريجِ الكُربِ ما لا يخطر على البال.. فكم من بلوى كُشِفت، وكُربَةٍ فُرِجَت بدُعَاءِ مُخْلِصٍ وافق تأمين مَلَك.. فَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ-: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: ‌آمِينَ ‌وَلَكَ ‌بِمِثْلٍ» رواه مسلم..

ادعوا لبعضِكم بالأسماءِ وادعوا اللهَ لشفاءِ فلان، وبقضاءِ دينِ فلان، وسترِ فلانة.. وتفريجِ كُربَةِ فلان وكَشْفِ غَمْهِ.. فقد «كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ [أي من الركوع] يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.. ثم يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَيَقُولُ: ‌اللَّهُمَّ ‌أَنْجِ ‌الْوَلِيدَ ‌بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ». رواه البخاري.. وقال أبو الدرداء: ‌إني ‌لأدعو ‌لسبعين ‌أخًا ‌من ‌إخواني وأنا في الصلاةِ أسميهم بأسمائهم وأسماءِ آبائهم. رواه البيهقي. فلما قيل له في ذلك قال: أفلا أرغبُ أن تدعوَ لي الملائكةُ..

تقربوا إلى الله بلهفتِكم على أحبابِكم واملؤوا سجداتِكم بدعائكم ومناجاتِكم فلكم بالمثل.. وتعرضوا لنفحات المولى في جميع الأوقات بالدعاء والرجاء، فَمَنْ دَعَا رَبَهُ بقلبٍ حاضرٍ بدعاءٍ مشروعٍ، ولم يكن فيه مانع يمنع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة.. والدعاء: من أعظم أسبابِ النصرِ على الأعداءِ، وخاصَّةً إذا كان من ضعفاءِ المؤمنين، قال النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ» رواه النسائي وصححه الألباني..

ورفعُ اليدين بالدعاءِ في زمنِ الكوارثِ والْمُلماتِ، من أعظم المؤثرات.. فلعل أكفًا بيضاءَ نقية رُفِعت بالدعاءِ من قلوبٍ صادقة وفيَّة، وأعينٍ باكيةٍ تقيَّة تخففُ تلك المآسي التي تصيبُ المسلمين، وتُقِضُّ مضاجعَهم، افْزَعَوا إلى اللهِ أحبتي بالدعاءِ والتضرع.. واعلموا علم اليقين أن الله تعالى يأخذُ عبادَه بالبأساءِ والضراءِ ليتضرعوا إليه ويسألوه.. وكم نغفل عن هذه العبادة الجليلة في أوقات الرخاء.. لكن لا ينبغي لنا أن نغفلَ عنها في أوقات البلاءِ والمحنةِ.. ومن المحن العظيمة ما يتعرض له إخواننا في أرض فلسطين لآن.. فقد أتى الصهاينةُ عليهم بقضهم وقضيضهم وأجلبوا عليهم بعتادهم العسكري المتطور وخيلائهم، وقالوا لا غالب لنا اليوم من الناس، فأغلقوا المعابر وقصفوا المساكن والمخيمات بالمدافع والطائرات.. وتناثرت أشلاء الضحايا وجثث القتلى في كل مكان.. وصمت آذان الأحياء من أزيز الطائرات وهدير الدبابات وقوة الانفجارات، كل هذا البطش بشعب أعزل قد أنهكه الحصار وقهره الفُجار؛ فبحت أصواتُ الثكالى، وخَفَتَ أنين الجرحى، وجفت دموع الصبايا والأطفال من النوح والفقد والضر.. فيا الله ما أعظمه من مصاب وما أشده من كرب.. فما بَالُنَا بالدعاء لهم مقلين أو مقصرين..

 

المشاهدات 400 | التعليقات 0