كلمة بعد صلاة الخسوف
عبدالله البصري
1432/07/13 - 2011/06/15 15:38PM
إخوتي في الله ، هذه كلمة أصلها للشيخ / علي بن عبدالرحمن الحذيفي ـ حفظه الله ـ وقد ألقاها في المسجد النبوي مرتجلاً بعد صلاة الكسوف في شهر المحرم من العام الماضي (1431) .
وقد استعنت الله ـ جل وعلا ـ وفرغتها من الشبكة ، وأجريت عليها من التعديل شيئًا يسيرًا ، أسأل الله أن ينفع بها .
وهي وإن لم تكن كما أردتُ ، لكنْ ضيق الوقت أرضاني بنشرها على وضعها الحالي ، إذ إدراك بعض الفائدة خير من تركها كلها .
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
أَمَّا بَعدُ ، فيا أيها المسلمون ، إن آيات الله ـ عز وجل ـ في الكون لا تعد ولا تحصى ، وكل آية من آياته توقظ القلوب وتحيي النفوس وتحرك الضمائر ، وتحث على الازدياد من فعل الخير وتزجر عن اقتراف الشر ، وتدعو للتأمل والنظر في العواقب ومآلات الأمور .
وإن هذا الكسوف والخسوف الذي يحصل للشمس والقمر بين فترة وأخرى قد جعله الله ـ تبارك وتعالى ـ تخويفًا للعباد وزجرًا لهم ؛ ليتذكروا نعم الله عليهم ، ويتأملوا ما سخره لهم في هذا الكون ، فيقبلوا عليه ليزيدهم من فضله ، وينكفوا عن معصيته ؛ لئلا تفسد معايشهم ؛ إذ الطاعات هي سبب تنزل الخيرات وتوالي الرحمات ، والمعاصي هي سبب كل شر وبلاء فتنة " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بما كَانُوا يَكسِبُونَ . أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ . أَوَ أَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُون "
وإن هذه الحالة التي تمر بالكون من خسوف أو كسوف ، يشاهدها المؤمن والكافر ويراها البر والفاجر ، وتمر بالجميع طائعهم وعاصيهم ، غير أنه لا ينتفع بها إلا المؤمنون ، الذين هم أصحاب القلوب الحية والفطر السليمة ، الأتقياء الأنقياء " الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون "
ولذا تراهم حين يشاهدون كسوفًا أو خسوفًا يفزعون كما فزع إمامهم وقائدهم وأعلم الناس بربه وأتقاهم له محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد كسفت الشمس في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم مات ابنه إبراهيم ، فقام يجر رداءه ، وأرشد الأمة إلى أن يفزعوا إلى الصلاة ، وقال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله ـ عز وجل ـ بهما عباده ، وإنهما لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى يكشف ما بكم " وقد قال ذلك ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليخرج ما في قلوب الناس من الشرك ، وليقرر التوحيد لرب العالمين .
وقد خشي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما رأى الكسوف أن يكون ذلك من العذاب الذي ينزل بأمته ، فَقَامَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُصَلِّي حَتَّى لم يَكَدْ أَن يَركَعَ ، ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى لم يَكَدْ أَن يَرفَعَ رَأسَهُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَجَعَلَ يَتَضَرَّعُ وَيَبكِي وَيَقُولُ : " رَبِّ أَلَم تَعِدْني أَلاَّ تُعَذِّبَهُم وَأَنَا فِيهِم ، أَلَم تَعِدْني أَلاَّ تُعَذِّبَهُم وَنَحنُ نَستَغفِرُكَ " ثم وعظهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين صلى بهم موعظة عظيمة بليغة ، كان مما جاء فيها قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " إنه ليس من شيءٍ تُوعَدُونَهُ إلاَّ وقد رأيتُهُ في صلاتي هذه ، ولقد جِيءَ بالنار حين رأيتموني تأخَّرتُ مخافَةَ أن يُصيبَني من لفحِها حتى قُلتُ : يَا رَبِّ وَأَنَا فِيهِم ؟ ورأيتُ فيها صاحِبَ المِحجَنِ يَجُرُّ قُصبَهُ في النار ، كان يَسرِقُ الحَاجَّ بِمَحجَنِهِ ، فَإِنْ فُطِنَ به قال : إنما تَعَلَّقَ بِمِحجَني ، وإن غُفِلَ عنه ذَهَبَ به ، حتى رأيتُ فيها صاحبةَ الهِرَّةِ التي ربطتها فلم تُطعِمْها ولم تتركْها تأكُلُ من خَشَاشِ الأرضِ حتى ماتت جوعًا ، وجِيءَ بالجنةِ فذلك حين رأيتُمُوني تَقَدَّمتُ حتى قُمتُ في مقامي فمَدَدتُ يَدَي وأنا أُرِيدُ أن أتناولَ من ثمرِها شيئًا لتنظروا إليه ، ثم بدا لي أن لا أفعل " وعَن أَسمَاءَ بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَت : أَتَيتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي . فَقُلتُ : مَا شَأنُ النَّاسِ ؟ فَأَشَارَت إِلى السَّمَاءِ ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ . فَقَالَت : سُبحَانَ اللهِ . قُلتُ : آيَةٌ ؟ فَأَشَارَت بِرَأسِهَا أَي نَعَم . فَقُمتُ حَتَّى تَجَلاَّني الغَشْيُ ، فَجَعَلتُ أَصُبُّ عَلَى رَأسِي المَاءَ ، فَحَمِدَ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَثنَى عَلَيهِ ، ثُمَّ قَالَ : " مَا مِن شَيءٍ لم أَكُن أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيتُهُ في مَقَامِي حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَأُوحِيَ إِليَّ أَنَّكُم تُفتَنُونَ في قُبُورِكُم مِثلَ أَو قَرِيبَ ـ لا أَدرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَت أَسمَاءُ ـ مِن فِتنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ ، يُقَالُ : مَا عِلمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ ؟ فَأَمَّا المُؤمِنُ أَو المُوقِنُ ـ لا أَدرِي بِأَيِّهِمَا قَالَت أَسمَاءُ ـ فَيَقُولُ : هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَالهُدَى ، فَأَجَبنَا وَاتَّبَعنَا ، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاثًا ، فَيُقَالُ : نَم صَالِحًا ، قَد عَلِمنَا إِنْ كُنتَ لَمُوقِنًا بِهِ ، وَأَمَّا المُنَافِقُ أَو المُرتَابُ ـ لا أَدرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَت أَسمَاءُ ـ فَيَقُولُ : لا أَدرِي ، سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيئًا فَقُلتُهُ " رواه البخاري وغيره .
فيا عباد الله ، إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ، إن أمامكم أهوالاً عظيمة ، وإن أمامكم سؤالاً كبيرا ، من نجا منه سعد وفاز ، ومن لم يجب عنه على ما يحب الله ويرضى خاب وخسر وشقي ، وإن الإعداد لذلك إنما هو في هذه الدنيا بالعمل الصالح ، إذ اليوم عمل ولا حساب ، وأما الآخرة فليس فيها إلا جزاء " فَأَقِمْ وَجهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَومَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ . مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ "
وإن لله علينا نعمًا عظيمة ، نعمًا نعلمها وأخرى لا نعلمها ، نعمًا نراها وأخراها لا نراها ، وإن هذه الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، جعل الله ـ عز وجل ـ فيهما منافع ، وقد خلقهما الله ـ عز وجل ـ لأجل مسمى ، إذا انتهى الأجل فإنهما تتغيران وتتحولان عن مسارهما ، قال ـ سبحانه ـ :" وَسَخَّرَ الشَّمسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى " كما أنه ـ تعالى ـ خلق هذا الكون وهذا الخلق المشاهد لأجل مسمى " وَمَا خَلَقنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لاعِبِينَ . مَا خَلَقنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ . إِنَّ يَومَ الفَصلِ مِيقَاتُهُم أَجمَعِينَ . يَومَ لا يُغني مَولىً عَن مَولىً شَيئًا وَلا هُم يُنصَرُونَ . إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ " " إِنَّ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ . الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " " وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "
نعم ـ أيها الإخوة ـ لقد خلق الله السماوات والأرض لأجل مسمى ، فإذا جاء ذلك الأجل تفطرت السماء وتشققت وذهبت ، وغُيِّرَتِ الأرضُ وَبُدِّلَت " يَومَ نَطوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلكُتُبِ " " يَومَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ . وَتَرَى المُجرِمِينَ يَومَئِذٍ مُقَرَّنِينَ في الأَصفَادِ . سَرَابِيلُهُم مِن قَطِرَانٍ وَتَغشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ . لِيَجزِيَ اللهُ كُلَّ نَفسٍ مَا كَسَبَت إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ " فالله عز وجل سخر لنا الشمس ، وسخر لنا نعمه ، وسخر الليل والنهار وجميع النعم " اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ في البَحرِ بِأَمرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دَائِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "
أيها الإخوة ، إن ما على وجه الأرض إنما هو متاع " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَاب " " إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرضِ زِينَةً لها لِنَبلُوَهُم أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلاً . وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا " " وَاضرِبْ لَهُم مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أَنزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضِ فَأَصبَحَ هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقتَدِرًا . المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلاً "
هذه الدار من اغتر بها ورضيها وركن إليها واطمأن بها ونسي الآخرة ، فإنها تنقضي ولا ينفعه ما تمتع به وإن أتاه كل ما يريد ، قال ـ تعالى ـ : " ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبكما كنتم تفسقون " وقال ـ تبارك وتعالى ـ : " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " وقال ـ سبحانه ـ : " إِنَّ الَّذِينَ لا يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بها وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النَّارُ بما كَانُوا يَكسِبُونَ . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهدِيهِم رَبُّهُم بِإِيمَانِهِم تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهارُ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ . دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين " وفي صحيح مسلم : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له : يا ابن آدم ، هل رأيت خيرًا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ في الجنة صبغة ، فيقال له : يا ابن آدم ، هل رأيت بؤسًا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ما مر بى بؤس قط ولا رأيت شدة قط "
وإنه لو جرب أحدنا بأن يضع يده على نار في عود صغير ، فإنه ينسى كل ما مضى من النعم التي مرت عليه ، فكيف بنار جهنم التي هي مضاعفة من نار الدنيا سبعين مرة .
نعم ـ أيها الإخوة ـ إن هذه الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها تذهب على أصحاب القبور كساعة من نهار ، يقول الله عن أصحاب القبور : " وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَالإِيمَانَ لَقَد لَبِثتُم في كِتَابِ اللهِ إِلى يَومِ البَعثِ فَهَذَا يَومُ البَعثِ وَلَكِنَّكُم كُنتُم لا تَعلَمُونَ . فَيَومَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعذِرَتُهُم وَلا هُم يُستَعتَبُونَ " وقال ـ سبحانه ـ : " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " وقال : " وَيَومَ يَحشُرُهُم كَأَن لم يَلبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَينَهُم قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ " فتفكر كيف يكون عمرك أيها الإنسان في عمر الدنيا إذا كان أهلها المبعوثون من القبور يرونها ساعة ؟! فاغتنم أيها المسلم هذه الحياة ، اشكر الله على نعمه ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول : " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " هذه النعم خلقها الله ـ عز وجل ـ لتستعين بها على طاعته ، لتعبد الله ، ولتتمتع بها في حلال وفيما يرضي الله ـ عز وجل ـ من غير أن تستعين بها على معصية .
إيها المسلمون ، إن هذا الخسوف والكسوف ليذكرنا بقول الله ـ عز وجل ـ : " قُلْ أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبصِرُونَ . وَمِن رَحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ " وفي شمال الأرض وجنوبها يمتد النهار أيامًا بل شهورًا ، حتى إن أهل تلك البلاد ليتمنون بأن يأتي الليل الذي يطمئنون فيه ويستريحون ، ثم يمتد الليل كذلك فيتمنون النهار الذي يرون فيه طرقاتهم وينطلقون إلى أعمالهم ، فاشكروا ـ أيها المسلمون ـ نعمة الصحة والفراغ ، وتعمة توالي الليل والنهار بمقادير معلومة ، واستغلوا ذلك ووظفوه فيما يرضي الله ، وفيما ينفعكم في دينكم ودنياكم ، اعملوا لدنياكم واطلبوا معايشكم وابتغوا من فضل الله وسيروا في الأرض وامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ، ولكنْ ، اجعلوا نصب أعينكم العمل للآخرة ، فإنما هذه الحياة الدنيا متاع قليل وظل عما قليل زائل ، والآخرة هي الدار الباقية في حياة أبدية وعيشة سرمدية ، فاعملوا لتلك الدار ، واحذروا من النار ، فإنها دخولها خزي وعار .
لا تغرنكم هذه الحياة الدنيا بزخارفها ولا ببهرجها ، وانظروا فيمن مضى ممن تتمتع بها على أتم الوجوه كيف صاروا مرتهنين في تلك الحفر المظلمات ، لا يستطيعون نقصًا من السيئات ولا زيادة في الحسنات ، وأما المؤمن فإنه يجري له أجره ويناله من دعاء المسلمين خير كثير ، وأما الكافر والمنافق فإنه لا ينفعه الندم ، وإنكم ستفتنون في قبوركم ، وتسألون عن ربكم ونبيكم ودينكم ، فكونوا عقلاء يقظين ، ولا تبيعوا ما يبقى بما يفنى ، أحيوا القلوب بذكر الله ، أحيوا القلوب بالقرآن ، أحيوا القلوب بالطاعات ، أحيوها بترك المعاصي ، فإن المعصية تنكت في القلب نكتة سوداء ، حتى إذا لم يُطَهِّرِ الإنسان قلبه تراكمت عليه فصار قلبه أسودَ مُربَادًّا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا ، وقد قال الله في أقوام لم يطهروا قلوبهم : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "
وإن هذه الآيات ـ أيها الإخوة ـ وإن أصبحت في هذا العصر معروفة بأسبابها ، كسوفا وخسوفا ، غير أن رهبة الكسوف والخسوف تبقى ، وتبقى الذكرى والعظة والعبرة ، وأن الله على كل شيء قدير ، فعال لما يريد ، وأن هذا كله بأسباب من بني آدم ؛ فإن صلاح الكون له ارتباط بصلاح ابن آدم ، وإن ما يحصل فيه من فساد وتغيرات فإنه مرتبط بفساد بني آدم ، قال ـ تعالى ـ : " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " فاصلحوا مابينكم وبين الله يصلح الله ما بينكم وبين الناس ، ويصلح الله لكم دنياكم وأخراكم .
اللهم اغفر لنا واعف عنا وتجاوز عن سيئاتنا ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعلنا ولا بما فعل السفهاء منا ، اللهم إني نعوذ بك من شر ما عملنا وشر ما لم نعمل بعدُ ، اللهم إني نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا ، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفنا غير مفتونين . اللهم احفظنا بالإسلام قائمين ، واحفظنا بالإسلام قاعدين ، واحفظنا بالإسلام راقدين ، ولا تشمت بنا عدوا ولا حاسدا ، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك ، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كلها ، اللهم أنعشنا واجبرنا واهدنا لصالح الأعمال والأخلاق ، فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت ، اللهم أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا حتى تجعلهما الوارث منا ، وعافنا في ديننا وفي أجسادنا ، وانصرني ممن ظلمنا حتى ترينا فيه ثأرنا ، اللهم إنا أسلمنا نفوسنا إليك وفوضنا أمرنا إليك وألجأنا ظهورنا إليك ، وخلينا وجوهنا إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنا برسولك الذي أرسلت ، وبكتابك الذي أنزلت ، اللهم إنا نسألك العفة والعافية في دنيانا وديننا وأهلنا وأموالنا ، اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا ، وعن أيماننا وعن شمالنا ، ومن فوقنا ونعوذ بك أن نغتال من تحتنا ، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ، ما علمنا منه وما لم نعلم ، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ، اللهم إنت نسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيك ، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا . اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد .
وقد استعنت الله ـ جل وعلا ـ وفرغتها من الشبكة ، وأجريت عليها من التعديل شيئًا يسيرًا ، أسأل الله أن ينفع بها .
وهي وإن لم تكن كما أردتُ ، لكنْ ضيق الوقت أرضاني بنشرها على وضعها الحالي ، إذ إدراك بعض الفائدة خير من تركها كلها .
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
أَمَّا بَعدُ ، فيا أيها المسلمون ، إن آيات الله ـ عز وجل ـ في الكون لا تعد ولا تحصى ، وكل آية من آياته توقظ القلوب وتحيي النفوس وتحرك الضمائر ، وتحث على الازدياد من فعل الخير وتزجر عن اقتراف الشر ، وتدعو للتأمل والنظر في العواقب ومآلات الأمور .
وإن هذا الكسوف والخسوف الذي يحصل للشمس والقمر بين فترة وأخرى قد جعله الله ـ تبارك وتعالى ـ تخويفًا للعباد وزجرًا لهم ؛ ليتذكروا نعم الله عليهم ، ويتأملوا ما سخره لهم في هذا الكون ، فيقبلوا عليه ليزيدهم من فضله ، وينكفوا عن معصيته ؛ لئلا تفسد معايشهم ؛ إذ الطاعات هي سبب تنزل الخيرات وتوالي الرحمات ، والمعاصي هي سبب كل شر وبلاء فتنة " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بما كَانُوا يَكسِبُونَ . أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ . أَوَ أَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُون "
وإن هذه الحالة التي تمر بالكون من خسوف أو كسوف ، يشاهدها المؤمن والكافر ويراها البر والفاجر ، وتمر بالجميع طائعهم وعاصيهم ، غير أنه لا ينتفع بها إلا المؤمنون ، الذين هم أصحاب القلوب الحية والفطر السليمة ، الأتقياء الأنقياء " الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون "
ولذا تراهم حين يشاهدون كسوفًا أو خسوفًا يفزعون كما فزع إمامهم وقائدهم وأعلم الناس بربه وأتقاهم له محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد كسفت الشمس في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم مات ابنه إبراهيم ، فقام يجر رداءه ، وأرشد الأمة إلى أن يفزعوا إلى الصلاة ، وقال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله ـ عز وجل ـ بهما عباده ، وإنهما لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى يكشف ما بكم " وقد قال ذلك ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليخرج ما في قلوب الناس من الشرك ، وليقرر التوحيد لرب العالمين .
وقد خشي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما رأى الكسوف أن يكون ذلك من العذاب الذي ينزل بأمته ، فَقَامَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُصَلِّي حَتَّى لم يَكَدْ أَن يَركَعَ ، ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى لم يَكَدْ أَن يَرفَعَ رَأسَهُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَجَعَلَ يَتَضَرَّعُ وَيَبكِي وَيَقُولُ : " رَبِّ أَلَم تَعِدْني أَلاَّ تُعَذِّبَهُم وَأَنَا فِيهِم ، أَلَم تَعِدْني أَلاَّ تُعَذِّبَهُم وَنَحنُ نَستَغفِرُكَ " ثم وعظهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين صلى بهم موعظة عظيمة بليغة ، كان مما جاء فيها قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " إنه ليس من شيءٍ تُوعَدُونَهُ إلاَّ وقد رأيتُهُ في صلاتي هذه ، ولقد جِيءَ بالنار حين رأيتموني تأخَّرتُ مخافَةَ أن يُصيبَني من لفحِها حتى قُلتُ : يَا رَبِّ وَأَنَا فِيهِم ؟ ورأيتُ فيها صاحِبَ المِحجَنِ يَجُرُّ قُصبَهُ في النار ، كان يَسرِقُ الحَاجَّ بِمَحجَنِهِ ، فَإِنْ فُطِنَ به قال : إنما تَعَلَّقَ بِمِحجَني ، وإن غُفِلَ عنه ذَهَبَ به ، حتى رأيتُ فيها صاحبةَ الهِرَّةِ التي ربطتها فلم تُطعِمْها ولم تتركْها تأكُلُ من خَشَاشِ الأرضِ حتى ماتت جوعًا ، وجِيءَ بالجنةِ فذلك حين رأيتُمُوني تَقَدَّمتُ حتى قُمتُ في مقامي فمَدَدتُ يَدَي وأنا أُرِيدُ أن أتناولَ من ثمرِها شيئًا لتنظروا إليه ، ثم بدا لي أن لا أفعل " وعَن أَسمَاءَ بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَت : أَتَيتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي . فَقُلتُ : مَا شَأنُ النَّاسِ ؟ فَأَشَارَت إِلى السَّمَاءِ ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ . فَقَالَت : سُبحَانَ اللهِ . قُلتُ : آيَةٌ ؟ فَأَشَارَت بِرَأسِهَا أَي نَعَم . فَقُمتُ حَتَّى تَجَلاَّني الغَشْيُ ، فَجَعَلتُ أَصُبُّ عَلَى رَأسِي المَاءَ ، فَحَمِدَ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَثنَى عَلَيهِ ، ثُمَّ قَالَ : " مَا مِن شَيءٍ لم أَكُن أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيتُهُ في مَقَامِي حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَأُوحِيَ إِليَّ أَنَّكُم تُفتَنُونَ في قُبُورِكُم مِثلَ أَو قَرِيبَ ـ لا أَدرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَت أَسمَاءُ ـ مِن فِتنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ ، يُقَالُ : مَا عِلمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ ؟ فَأَمَّا المُؤمِنُ أَو المُوقِنُ ـ لا أَدرِي بِأَيِّهِمَا قَالَت أَسمَاءُ ـ فَيَقُولُ : هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَالهُدَى ، فَأَجَبنَا وَاتَّبَعنَا ، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاثًا ، فَيُقَالُ : نَم صَالِحًا ، قَد عَلِمنَا إِنْ كُنتَ لَمُوقِنًا بِهِ ، وَأَمَّا المُنَافِقُ أَو المُرتَابُ ـ لا أَدرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَت أَسمَاءُ ـ فَيَقُولُ : لا أَدرِي ، سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيئًا فَقُلتُهُ " رواه البخاري وغيره .
فيا عباد الله ، إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ، إن أمامكم أهوالاً عظيمة ، وإن أمامكم سؤالاً كبيرا ، من نجا منه سعد وفاز ، ومن لم يجب عنه على ما يحب الله ويرضى خاب وخسر وشقي ، وإن الإعداد لذلك إنما هو في هذه الدنيا بالعمل الصالح ، إذ اليوم عمل ولا حساب ، وأما الآخرة فليس فيها إلا جزاء " فَأَقِمْ وَجهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَومَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ . مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ "
وإن لله علينا نعمًا عظيمة ، نعمًا نعلمها وأخرى لا نعلمها ، نعمًا نراها وأخراها لا نراها ، وإن هذه الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، جعل الله ـ عز وجل ـ فيهما منافع ، وقد خلقهما الله ـ عز وجل ـ لأجل مسمى ، إذا انتهى الأجل فإنهما تتغيران وتتحولان عن مسارهما ، قال ـ سبحانه ـ :" وَسَخَّرَ الشَّمسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى " كما أنه ـ تعالى ـ خلق هذا الكون وهذا الخلق المشاهد لأجل مسمى " وَمَا خَلَقنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لاعِبِينَ . مَا خَلَقنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ . إِنَّ يَومَ الفَصلِ مِيقَاتُهُم أَجمَعِينَ . يَومَ لا يُغني مَولىً عَن مَولىً شَيئًا وَلا هُم يُنصَرُونَ . إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ " " إِنَّ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ . الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " " وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "
نعم ـ أيها الإخوة ـ لقد خلق الله السماوات والأرض لأجل مسمى ، فإذا جاء ذلك الأجل تفطرت السماء وتشققت وذهبت ، وغُيِّرَتِ الأرضُ وَبُدِّلَت " يَومَ نَطوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلكُتُبِ " " يَومَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ . وَتَرَى المُجرِمِينَ يَومَئِذٍ مُقَرَّنِينَ في الأَصفَادِ . سَرَابِيلُهُم مِن قَطِرَانٍ وَتَغشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ . لِيَجزِيَ اللهُ كُلَّ نَفسٍ مَا كَسَبَت إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ " فالله عز وجل سخر لنا الشمس ، وسخر لنا نعمه ، وسخر الليل والنهار وجميع النعم " اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ في البَحرِ بِأَمرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دَائِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "
أيها الإخوة ، إن ما على وجه الأرض إنما هو متاع " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَاب " " إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرضِ زِينَةً لها لِنَبلُوَهُم أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلاً . وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا " " وَاضرِبْ لَهُم مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أَنزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضِ فَأَصبَحَ هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقتَدِرًا . المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلاً "
هذه الدار من اغتر بها ورضيها وركن إليها واطمأن بها ونسي الآخرة ، فإنها تنقضي ولا ينفعه ما تمتع به وإن أتاه كل ما يريد ، قال ـ تعالى ـ : " ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبكما كنتم تفسقون " وقال ـ تبارك وتعالى ـ : " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " وقال ـ سبحانه ـ : " إِنَّ الَّذِينَ لا يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بها وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النَّارُ بما كَانُوا يَكسِبُونَ . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهدِيهِم رَبُّهُم بِإِيمَانِهِم تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهارُ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ . دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين " وفي صحيح مسلم : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له : يا ابن آدم ، هل رأيت خيرًا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ في الجنة صبغة ، فيقال له : يا ابن آدم ، هل رأيت بؤسًا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ما مر بى بؤس قط ولا رأيت شدة قط "
وإنه لو جرب أحدنا بأن يضع يده على نار في عود صغير ، فإنه ينسى كل ما مضى من النعم التي مرت عليه ، فكيف بنار جهنم التي هي مضاعفة من نار الدنيا سبعين مرة .
نعم ـ أيها الإخوة ـ إن هذه الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها تذهب على أصحاب القبور كساعة من نهار ، يقول الله عن أصحاب القبور : " وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَالإِيمَانَ لَقَد لَبِثتُم في كِتَابِ اللهِ إِلى يَومِ البَعثِ فَهَذَا يَومُ البَعثِ وَلَكِنَّكُم كُنتُم لا تَعلَمُونَ . فَيَومَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعذِرَتُهُم وَلا هُم يُستَعتَبُونَ " وقال ـ سبحانه ـ : " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " وقال : " وَيَومَ يَحشُرُهُم كَأَن لم يَلبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَينَهُم قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ " فتفكر كيف يكون عمرك أيها الإنسان في عمر الدنيا إذا كان أهلها المبعوثون من القبور يرونها ساعة ؟! فاغتنم أيها المسلم هذه الحياة ، اشكر الله على نعمه ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول : " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " هذه النعم خلقها الله ـ عز وجل ـ لتستعين بها على طاعته ، لتعبد الله ، ولتتمتع بها في حلال وفيما يرضي الله ـ عز وجل ـ من غير أن تستعين بها على معصية .
إيها المسلمون ، إن هذا الخسوف والكسوف ليذكرنا بقول الله ـ عز وجل ـ : " قُلْ أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبصِرُونَ . وَمِن رَحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ " وفي شمال الأرض وجنوبها يمتد النهار أيامًا بل شهورًا ، حتى إن أهل تلك البلاد ليتمنون بأن يأتي الليل الذي يطمئنون فيه ويستريحون ، ثم يمتد الليل كذلك فيتمنون النهار الذي يرون فيه طرقاتهم وينطلقون إلى أعمالهم ، فاشكروا ـ أيها المسلمون ـ نعمة الصحة والفراغ ، وتعمة توالي الليل والنهار بمقادير معلومة ، واستغلوا ذلك ووظفوه فيما يرضي الله ، وفيما ينفعكم في دينكم ودنياكم ، اعملوا لدنياكم واطلبوا معايشكم وابتغوا من فضل الله وسيروا في الأرض وامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ، ولكنْ ، اجعلوا نصب أعينكم العمل للآخرة ، فإنما هذه الحياة الدنيا متاع قليل وظل عما قليل زائل ، والآخرة هي الدار الباقية في حياة أبدية وعيشة سرمدية ، فاعملوا لتلك الدار ، واحذروا من النار ، فإنها دخولها خزي وعار .
لا تغرنكم هذه الحياة الدنيا بزخارفها ولا ببهرجها ، وانظروا فيمن مضى ممن تتمتع بها على أتم الوجوه كيف صاروا مرتهنين في تلك الحفر المظلمات ، لا يستطيعون نقصًا من السيئات ولا زيادة في الحسنات ، وأما المؤمن فإنه يجري له أجره ويناله من دعاء المسلمين خير كثير ، وأما الكافر والمنافق فإنه لا ينفعه الندم ، وإنكم ستفتنون في قبوركم ، وتسألون عن ربكم ونبيكم ودينكم ، فكونوا عقلاء يقظين ، ولا تبيعوا ما يبقى بما يفنى ، أحيوا القلوب بذكر الله ، أحيوا القلوب بالقرآن ، أحيوا القلوب بالطاعات ، أحيوها بترك المعاصي ، فإن المعصية تنكت في القلب نكتة سوداء ، حتى إذا لم يُطَهِّرِ الإنسان قلبه تراكمت عليه فصار قلبه أسودَ مُربَادًّا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا ، وقد قال الله في أقوام لم يطهروا قلوبهم : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "
وإن هذه الآيات ـ أيها الإخوة ـ وإن أصبحت في هذا العصر معروفة بأسبابها ، كسوفا وخسوفا ، غير أن رهبة الكسوف والخسوف تبقى ، وتبقى الذكرى والعظة والعبرة ، وأن الله على كل شيء قدير ، فعال لما يريد ، وأن هذا كله بأسباب من بني آدم ؛ فإن صلاح الكون له ارتباط بصلاح ابن آدم ، وإن ما يحصل فيه من فساد وتغيرات فإنه مرتبط بفساد بني آدم ، قال ـ تعالى ـ : " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " فاصلحوا مابينكم وبين الله يصلح الله ما بينكم وبين الناس ، ويصلح الله لكم دنياكم وأخراكم .
اللهم اغفر لنا واعف عنا وتجاوز عن سيئاتنا ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعلنا ولا بما فعل السفهاء منا ، اللهم إني نعوذ بك من شر ما عملنا وشر ما لم نعمل بعدُ ، اللهم إني نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا ، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفنا غير مفتونين . اللهم احفظنا بالإسلام قائمين ، واحفظنا بالإسلام قاعدين ، واحفظنا بالإسلام راقدين ، ولا تشمت بنا عدوا ولا حاسدا ، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك ، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كلها ، اللهم أنعشنا واجبرنا واهدنا لصالح الأعمال والأخلاق ، فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت ، اللهم أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا حتى تجعلهما الوارث منا ، وعافنا في ديننا وفي أجسادنا ، وانصرني ممن ظلمنا حتى ترينا فيه ثأرنا ، اللهم إنا أسلمنا نفوسنا إليك وفوضنا أمرنا إليك وألجأنا ظهورنا إليك ، وخلينا وجوهنا إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنا برسولك الذي أرسلت ، وبكتابك الذي أنزلت ، اللهم إنا نسألك العفة والعافية في دنيانا وديننا وأهلنا وأموالنا ، اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا ، وعن أيماننا وعن شمالنا ، ومن فوقنا ونعوذ بك أن نغتال من تحتنا ، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ، ما علمنا منه وما لم نعلم ، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ، اللهم إنت نسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيك ، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا . اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد .
فهد بن غنيم
بارك الله فيك
وشكرا لك
تعديل التعليق