كلمات خير من الذهب والفضة
محمد مرسى
1436/01/25 - 2014/11/18 05:22AM
كلمات خير من الذهب والفضة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134].
روى الإمام أحمد والترمذي مختصرًا، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا كنـز الناس الذهب والفضة فاكنـزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب))[1].
فهذه الكلمات الطيبات المباركات خير من الذهب والفضة بنص كلام النبوة ((إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات))؛ لأنها من الباقيات الصالحات، وكل ما كان من الباقيات الصالحات، أي: التي ينتفع بها في الدنيا والآخرة - فهي خير مما ينتفع به في الدنيا وحدها، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].
والذهب والفضة ينفد، وما عند الله عز وجل لا ينفد، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
وقد روي أن سليمان بن داود - عليهما السلام - مر في موكبه ومعه الإنس والجن والطير فهم يوزعون، على حرَّاث فقال الحراث: لقد أوتي سليمان بن داود ملكًا عظيمًا.
فأتاه سليمان فقال له: تسبيحة واحدة خير من ملك سليمان بن داود؛ لأن التسبيحة تبقى، وملك سليمان يفنى.
وعن ثوبان قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تبًّا للذهب والفضة)).
فقالوا: يا رسول الله، فما نتخذ؟
قال: ((ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة صالحة تعين أحدكم على إيمانه)).
وقال بعضهم: إنما سمي الذهب ذهبًا؛ لأنه يذهب، وسميت الفضة فضة؛ لأنها تنفض، يعني: تنفض بسرعة فلا بقاء لها.
وقال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار؛ لا ينفعانك حتى يفارقانك.
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: نِعْمَ كنزُ الصعلوك البقرةُ وآل عمران؛ يقوم بهما من آخر الليل.
وفي بعض الآثار: كنز المؤمن ربه، يعني: أنه لا يكنز سوى طاعته وخشيته ومحبته والتقرب إليه، ومَن كان الله كنزه، فقد ظفر بالغنى الأكبر.
كما قال بعضه: من استغنى بالله أمِن مِن العدو، ومن لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم.
أما الكلمات التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكنزها، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر))، والعبد مطالب بالثبات في ثلاثة مواطن:
الموطن الأول في الدنيا: كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)).
وقيل إنما سمي القلب قلبًا لتقلبه، فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الموطن الثاني عند الموت: كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
والاستقامة هي التقوى والمداومة على التقوى؛ لأن العبد قد يتقي في وقت ولا يتقي في آخر.
قال بعضهم: الذين قالوا ربنا الله كثير، والذين استقاموا قليل.
وكان الحسن إذا سمع هذه الآية يقول: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
الموطن الثالث: بعد الموت وعند سؤال القبر، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
وفي الصحيح: أنها نزلت في سؤال القبر، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - أن العبد في قبره يدخل عليه ملكان أسودان أزرقان، معهم مطراق، ويجلسانه ويسألانه عن ربه ودينه ورسوله، فقالوا: يا رسول الله، ما أحد يقف عليه ملك إلا هيل؛ أي: فزع فلا يستطيع أن يجيب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
فالعبد مطالب بالثبات في قبره، وإنما يثبته في القبر إيمانه وعمله الصالح.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد.
والعزيمة: هي القصد الجازم، والرشد: هو طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرشد أن تعرف الحق وتتبعه كما قال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة: 256].
والعزيمة عزيمتان: عزيمة في البدايات، وعزيمة في النهايات.
فعزيمة البدايات: هي التي يترك بها العبد طريق المعاصي والشهوات، ويسلك طريق الطاعة وطلب رضى رب الأرض والسماوات.
وأما عزيمة النهايات: فهي العزيمة التي يستمر بها العبد على طاعة الله عز وجل، ويترقى بها من حال كامل إلى حال أكمل.
وعلى قدر عزيمة العبد تأتيه المعونه من الله عز وجل.
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
فمن عزم على أن يقرأ في اليوم جزءًا من القرآن أتته المعونة على قدر عزيمته، ومن عزم على قراءة عشرة أجزاء أتته المعونة على قدر ذلك، كما ورد في الحديث: ((تأتي المعونة من السماء على قدر المؤنة، وينزل الصبر على قدر المصيبة))[2].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك))[3].
والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فالقلب لمعرفة النعمة ومعرفة المنعم، واللسان للتحدث بالنعم وحمد الله عز وجل، والجوارح لاستعمال النعمة في طاعة الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
وهناك بند رابع للشكر قل من تنبه له أو نبه عليه، وهو أن تشكر من أتت النعمة على يديه كما ورد في الحديث: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله))[4].
وقوله: ((وحسن عبادتك)) وإنما سأل حسن العبادة؛ لأن الثواب على العمل الصالح يكون بمقدار حسن العبادة؛ ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو دبر كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))[5].
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((وأسألك قلبًا سليمًا)) [6].
والقلب السليم: هو الذي سلم من عبودية غير الله عز وجل، واتباع غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسَلِمَ مع ذلك من الشبهات والشهوات.
وهو الذي لا يدخل الجنة إلا من أتى الله عز وجل به: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
وقوله: ((وأسألك لسانًا صادقًا)) والصدق أساس الإيمان، كما أن الكذب أساس النفاق.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا))[7].
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم))[8].
فهذا من الأدعية الجامعة التي كانت تعجب نبينا، صلى الله عليه وسلم.
كما كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم))[9].
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب))[10].
ختم الدعاء بالاستغفار كما يختم بذلك سائر الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].
قاموا من الليل فإذا كان وقت السحر جلسوا يستغفرون الله عز وجل.
وقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
وقوله: ((لما تعلم)) يعم جميع الذنوب، ما يذكره العبد وقت الاستغفار وما لا يذكره، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
[1] أحمد (16491)، والترمذي (3407) وضعفه الألباني، انظر: "ضعيف الجامع" (5281).
[2] "مسند الشهاب" (2/ 83) وحسنه الألباني بشواهده في "الصحيحة" (4/ 225).
[3] سبق، وهو في الترمذي (3329)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5218).
[4] صحيح: أبو داود (4177)، وصححه الألباني، انظر: "صحيح الترمذي" (2037).
[5] صحيح: أبو داود (1301)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
[6] النسائي (1287)، وضعفه الألباني في "المشكاة" (955)، و"ضعيف الترمذي" (3648).
[7] مسلم (4721).
[8] ضعيف: الترمذي (3648).
[9] ابن ماجه (3836) من حديث عائشة، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1542).
[10] ضعيف: الترمذي (3648).
المصدر: "المسك والورد والعنبر في خطب المنبر"د. أحمد فريد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134].
روى الإمام أحمد والترمذي مختصرًا، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا كنـز الناس الذهب والفضة فاكنـزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب))[1].
فهذه الكلمات الطيبات المباركات خير من الذهب والفضة بنص كلام النبوة ((إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات))؛ لأنها من الباقيات الصالحات، وكل ما كان من الباقيات الصالحات، أي: التي ينتفع بها في الدنيا والآخرة - فهي خير مما ينتفع به في الدنيا وحدها، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].
والذهب والفضة ينفد، وما عند الله عز وجل لا ينفد، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
وقد روي أن سليمان بن داود - عليهما السلام - مر في موكبه ومعه الإنس والجن والطير فهم يوزعون، على حرَّاث فقال الحراث: لقد أوتي سليمان بن داود ملكًا عظيمًا.
فأتاه سليمان فقال له: تسبيحة واحدة خير من ملك سليمان بن داود؛ لأن التسبيحة تبقى، وملك سليمان يفنى.
وعن ثوبان قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تبًّا للذهب والفضة)).
فقالوا: يا رسول الله، فما نتخذ؟
قال: ((ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة صالحة تعين أحدكم على إيمانه)).
وقال بعضهم: إنما سمي الذهب ذهبًا؛ لأنه يذهب، وسميت الفضة فضة؛ لأنها تنفض، يعني: تنفض بسرعة فلا بقاء لها.
وقال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار؛ لا ينفعانك حتى يفارقانك.
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: نِعْمَ كنزُ الصعلوك البقرةُ وآل عمران؛ يقوم بهما من آخر الليل.
وفي بعض الآثار: كنز المؤمن ربه، يعني: أنه لا يكنز سوى طاعته وخشيته ومحبته والتقرب إليه، ومَن كان الله كنزه، فقد ظفر بالغنى الأكبر.
كما قال بعضه: من استغنى بالله أمِن مِن العدو، ومن لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم.
أما الكلمات التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكنزها، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر))، والعبد مطالب بالثبات في ثلاثة مواطن:
الموطن الأول في الدنيا: كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)).
وقيل إنما سمي القلب قلبًا لتقلبه، فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الموطن الثاني عند الموت: كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
والاستقامة هي التقوى والمداومة على التقوى؛ لأن العبد قد يتقي في وقت ولا يتقي في آخر.
قال بعضهم: الذين قالوا ربنا الله كثير، والذين استقاموا قليل.
وكان الحسن إذا سمع هذه الآية يقول: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
الموطن الثالث: بعد الموت وعند سؤال القبر، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
وفي الصحيح: أنها نزلت في سؤال القبر، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - أن العبد في قبره يدخل عليه ملكان أسودان أزرقان، معهم مطراق، ويجلسانه ويسألانه عن ربه ودينه ورسوله، فقالوا: يا رسول الله، ما أحد يقف عليه ملك إلا هيل؛ أي: فزع فلا يستطيع أن يجيب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
فالعبد مطالب بالثبات في قبره، وإنما يثبته في القبر إيمانه وعمله الصالح.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد.
والعزيمة: هي القصد الجازم، والرشد: هو طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرشد أن تعرف الحق وتتبعه كما قال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة: 256].
والعزيمة عزيمتان: عزيمة في البدايات، وعزيمة في النهايات.
فعزيمة البدايات: هي التي يترك بها العبد طريق المعاصي والشهوات، ويسلك طريق الطاعة وطلب رضى رب الأرض والسماوات.
وأما عزيمة النهايات: فهي العزيمة التي يستمر بها العبد على طاعة الله عز وجل، ويترقى بها من حال كامل إلى حال أكمل.
وعلى قدر عزيمة العبد تأتيه المعونه من الله عز وجل.
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
فمن عزم على أن يقرأ في اليوم جزءًا من القرآن أتته المعونة على قدر عزيمته، ومن عزم على قراءة عشرة أجزاء أتته المعونة على قدر ذلك، كما ورد في الحديث: ((تأتي المعونة من السماء على قدر المؤنة، وينزل الصبر على قدر المصيبة))[2].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك))[3].
والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فالقلب لمعرفة النعمة ومعرفة المنعم، واللسان للتحدث بالنعم وحمد الله عز وجل، والجوارح لاستعمال النعمة في طاعة الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
وهناك بند رابع للشكر قل من تنبه له أو نبه عليه، وهو أن تشكر من أتت النعمة على يديه كما ورد في الحديث: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله))[4].
وقوله: ((وحسن عبادتك)) وإنما سأل حسن العبادة؛ لأن الثواب على العمل الصالح يكون بمقدار حسن العبادة؛ ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو دبر كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))[5].
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((وأسألك قلبًا سليمًا)) [6].
والقلب السليم: هو الذي سلم من عبودية غير الله عز وجل، واتباع غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسَلِمَ مع ذلك من الشبهات والشهوات.
وهو الذي لا يدخل الجنة إلا من أتى الله عز وجل به: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
وقوله: ((وأسألك لسانًا صادقًا)) والصدق أساس الإيمان، كما أن الكذب أساس النفاق.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا))[7].
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم))[8].
فهذا من الأدعية الجامعة التي كانت تعجب نبينا، صلى الله عليه وسلم.
كما كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم))[9].
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب))[10].
ختم الدعاء بالاستغفار كما يختم بذلك سائر الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].
قاموا من الليل فإذا كان وقت السحر جلسوا يستغفرون الله عز وجل.
وقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
وقوله: ((لما تعلم)) يعم جميع الذنوب، ما يذكره العبد وقت الاستغفار وما لا يذكره، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
[1] أحمد (16491)، والترمذي (3407) وضعفه الألباني، انظر: "ضعيف الجامع" (5281).
[2] "مسند الشهاب" (2/ 83) وحسنه الألباني بشواهده في "الصحيحة" (4/ 225).
[3] سبق، وهو في الترمذي (3329)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5218).
[4] صحيح: أبو داود (4177)، وصححه الألباني، انظر: "صحيح الترمذي" (2037).
[5] صحيح: أبو داود (1301)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
[6] النسائي (1287)، وضعفه الألباني في "المشكاة" (955)، و"ضعيف الترمذي" (3648).
[7] مسلم (4721).
[8] ضعيف: الترمذي (3648).
[9] ابن ماجه (3836) من حديث عائشة، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1542).
[10] ضعيف: الترمذي (3648).
المصدر: "المسك والورد والعنبر في خطب المنبر"د. أحمد فريد