"كُف عليك هذا"

عبدالرحمن اللهيبي
1445/11/02 - 2024/05/10 01:51AM
من المنقول بتصرف
 

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن التقوى جماع الخيرات، وسبيل السعادة والنجاة، (وَتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)

عباد الله:

إن اللسان والكلام ، من أجل النعم التي أكرمنا الله بها ، فحق هذه النعمةِ أن تُشكر ولا تكفَر، وشكرها يكون بحفظ اللسان عن اللغو والآثام، فإن اللسان من أعظم الجوارح أثرًا، وأشدها في الإثم خطرًا ، وأعظمها في الخير ثوابا وأجرا

فإن استُعمل اللسان فيما يُرضي الحق ، وينفع الخلق كان اللسان من أعظم أسباب دخول الجنة ، وإن استعمل اللسان فيما يُسخِط الجبار، ويؤذي بالعباد .. كان اللسان من أعظم أسباب انكباب الناس على مناخرهم في النار

قال رسول الهدى ﷺ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((كف عليك هذا)) وأشار صلى الله عليه وسلم إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال ﷺ: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!))

ولذا عُني الإسلام كثيرا بأمر اللسان ، فقال جل وعلا: (وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)

ووصف الله أهل الفلاح من المؤمنين بأنهم عن اللغو معرضين، فقال عز شأنه: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ)

فحفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين ، وشعار لكمال الإيمان، قال ﷺ: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه))

بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول : اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).

أيها المسلمون: إن حفظ المرء للسانه، وقلة كلامه، وجميل منطقه وحسن ألفاظه ، لهو عنوان أدبه، وزكاء نفسه، واستقامة دينه ، وصلاح حاله ، ورجحان عقله، كما قيل في مأثور الحكم: "إذا تم الدين والعقل قل الكلام" 

قال ﷺ : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) أخرجاه في الصحيحين.

عباد الله: انتقوا أطايب الكلام كما تنتقوا أطايب الثمر فإن طيب الكلام بين الأقارب والأصحاب والإخوان.. وكذلك مع الزوجة والأولاد والخلان سببٌ لاستدامة الألفة والمودة والإحسان والمحبة ، ويسد الطريق على كل نمام وشيطان، ويُذهب الشحناء والضغائن ، ويسلل البغضاء والسخائم ، ويطفئ نار الخصومات ، وتُجبَر به الخواطر، كما قال سبحانه: (ادْفَعْ بِلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ)

أيها المسلمون:

إن للِّسان آفاتٍ عظيمةً، وإن للثرثرة وكثرة الكلام مساوئَ كثيرة، وقد قال الفاروق رضي الله عنه في التحذير من ذلك: (من كثر كلامه كثر سقطه)

فمن العقل والرشد حفظ اللسان واجتناب فضول الكلام

ولأجل ذلك كان سلف هذه الأمة وخيارُها يخشون خطر اللسان، ويحاذرونه غاية الحذر، فكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني شر الموارد)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.

فاللسان ـ يا عباد الله ـ حبل مرخي في يد الشيطان، إن لم يُلجمه صاحبه بلجام التقوى، فإنه يورده موارد الزلل والهلاك، ويوقعه في كبائر الإثم والموبقات، من غيبة ونميمة، وكذب وافتراء، وفحش وبذاءة، وشتم وتطاول على عباد الله بالسخرية والاستهزاء، والتنقص والازدراء، وتعداد المعايب، والكشف عن المثالب، وتلفيق التهم والأكاذيب

لا يحجزه عن ذلك دينٌ ولا مروءة ، كأنه لم يسمع قوله عز شأنه: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ) ، وقولَه سبحانه: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)

وقوله ﷺ: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء)) رواه الترمذي وحسنه،

وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)).

فاتقوا الله عباد الله، ولتحفظوا ألسنتكم، وسائر جوارحكم عما حرم الله عليكم، ولتتذكروا على الدوام قول الحق جل وعلا: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فيا عباد الله، إنَّه والله لَمِنَ الدين والعقلِ وحسن الخلق أن يحفظ المرءُ لسانه عن كل ما يؤذي به غيرَه، ويجرح به مشاعره، ففي الصحيحين، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"، وقد قدَّم النبي ﷺ اللسانَ في الحديث مع أن اليد أقوى إيلاما على الجسد؛ وذلك لأن جرح اللسان له ألم معنويٌّ ونفسيٌّ يطول أمده ويعظم على المرء كمده

 فيا خيبةَ رجل انفضَّ الناسُ من حوله، نفرة منه، وكرها له، وهربًا من سطوات لسانه..

قال ﷺ- بقوله: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ"(رواه البخاري.

 وقد قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ. صححه الألباني في صحيح الترغيب

فالحذرَ الحذرَ -يا مسلمون- من مغبَّة إيذاء الآخرين بالكلام وإيلامهم ، وإلحاق الضرر بهم؛ فإنَّ الله يقول :  وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

ألا فاتقوا الله أيها المسلمون وكفوا الأذى وامتلكوا زمام اللسان ، ولا تجرحوا المشاعرَ، بل جملوا الكلام واجبروا الخواطرَ

ثم اعلموا أنَّ أحقّ الناس بحسن الكلام وجبر الخواطر ومراعاة المشاعر هم الوالدان وأهلُ البيت من زوجة وأخ وولد ؛ ثم الأقرب فالأقرب من الأقارب والأرحام، ثم من أهل الحي والجيران ، وكذلك الأصحاب والخلان..

فإن من طيب خواطر الناس ، طيب الله خاطره

وقديماً قالوا: "من سَارَ بينَ النَّاسِ جابرًا للخَواطرِ أدركَه اللهُ في جَوفِ المَخاطرِ".

فاتقوا الله رحمكم الله، وتأدبوا بآداب أهل الإيمان، واحفظوا ألسنتكم عن اللغو والحرام، واستعملوا هذا اللسان في طاعة الرحمن، فمن استعمل لسانه في الذكر والبر والطاعة نال بذلك عظيم الأجر والثواب.

فهنيئا والله لمن استعمل لسانه في طاعة الرحمن من ذكر وتلاوة للقرآن ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ونصح وإرشاد وإصلاح بين الناس ، وجبر للخواطر وتأليف للقلوب وإدخال للسرور ..

ألا وصلوا وسلموا ـ عباد الله ـ على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً)

المشاهدات 1059 | التعليقات 0