"كف الأذى" خطبة مختصرة بتصرف من خطبة للشيخ الشريم
عبدالرحمن اللهيبي
الحمد لله فاطر السموات والأرض، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلواتُ ربي وسلامُه عليه، وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامينِ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، في سِرِّنا وجَهرِنا، وفِعلِنا وقَولِنا، ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(
عبادَ اللهِ : إن من أعظم سمات المسلم كف الأذى عن الآخرين، فالمسلم يجب أن يكون للناس مسالما ، فإنَّ من حق المسلم على أخيه أن يكون سِلْمًا له كافا للأذى عنه.
وكف الأذى – يا عباد الله- هو أن يترك المرء كلّ قول أو عمل من شأنه أن يُلحِق ضررًا وأذى بأخيه المسلم، سواء كان الضرر والأذى حسيًّا وجسديا أو كان الضرر والأذى معنويًّا ونفسيا ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ "
وقد نصَّ بعضُ أهل العلم على أنَّه إذا كان هذا الفضل في إزالة الأذى عن الطريق ، فإنَّ إزالتَه عن القلوب أعظمُ فضلًا، وأكثر ثوابا وأجرا
عباد الله: وإنَّه لا يمتهن الأذى إلَّا أرباب النفوس الدنيئة اللئيمة ؛ ولو أنَّ كل واحد منا استحضَر ألم الأذى الذي يُلحقِه بالآخَرِين، بنفس الأذى الذي يلقاه هو نفسه من الآخَرين لكان له ذلك رادعا إن كان مؤمنا صالحا.
قال ﷺ " والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ "
ألَا ويلٌ لمن ملئت صحائفه بأذية الآخرين وجرح مشاعرهم، والإساءة إليهم، فيؤذي هذا بلسانه ويؤذي هذا بسخريته وعيبه، ويؤذي ذلك بلمزه وهمزه ، ويؤذي آخر بكلمة نابية أو برسالة عبر الجوال جارحة ، أو يؤذي الآخرين بالشكاوى الكيدية والوشايات الكاذبة ، أو يؤذي الناس بالغيبة والبهتان والنميمة، ويلٌ له، ثم ويلٌ له، فيوم التغابن ستُشهر صحيفةُ إفلاسه؛ قال ﷺ أتَدْرُون ما المُفلِسُ؟ قالوا: المُفلِسُ فِينا مَن لا دِرهمَ له ولا مَتاعَ، فقال: إنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي يَأتي يوْمَ القيامةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسَفَك دَمَ هذا، وضَرَب هذا، فيُعْطى هذا مِن حَسَناتِه، وهذا مِن حَسَناتِه، فإنْ فَنِيَت حَسَناتُه قبْلَ أنْ يُقْضى ما عليه، أُخِذَ مِن خَطاياهم فطُرِحَت عليه، ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ
عباد الله: إنَّه والله لَمِنَ الدين والعقلِ والرشد وحسن الخلق أن يحفظ المرءُ لسانه عن كل ما يؤذي به غيرَه، ويجرح به مشاعره، أو ما يدخل به على أخيه من الهم والضيق والألم ، ففي الصحيحين، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"، وقد قدَّم النبي ﷺ اللسانَ في الحديث مع أن اليد أقوى إيلاما على الجسد؛ لأن جرح اللسان له ألم معنويٌّ ونفسيٌّ يطول أمده ويعظم على المرء كمده بينما جرح اليد سريعٌ برؤه
فيا خيبةَ رجل انفضَّ الناسُ من حوله، نفرة منه، وكرها له، وهربًا من سطوات لسانه..
ويا فوزَ رجل كف عن الناس أذاه لم يؤذِ أحدا ولم يجرح أحدا، ولم يُؤلم أحدا ، ولم يقع منه سوءًا إلى مسلم، قال ﷺ- بقوله: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ"(رواه البخاري.
وقد قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ. صححه الألباني في صحيح الترغيب
ألَا فاتقوا اللهَ -عباد الله- واعلموا أنَّ الرابح مَنْ كفَّ لسانَه عن الأذى، وطهَّر قلبَه من الحقد والغل والحسد ، إنْ لم يقل خيرا فعن الشر والسوء صمت ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت ))
ألا فاتقوا الله عباد الله وليحذر كل منا ألا يبيت مسلمٌ يكابد الألم والضيم من أذى قد تسببنا له به
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ..
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا كما أَمَرَ، وأصلِّي وأسلِّم على عبده ورسوله خير البشر.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ ثمة صدقة عظيمة تنفع المسلمَ وترفعه في الدنيا والآخرة، صدقةً لا تحتاج منه إلى مال، ولا إلى جهد بدني، ولا إلى لفظ قوليّ، إنَّها صدقةُ المرء بكفِّه الأذى والسوء عن الآخَرين، قَالَ ﷺ : "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ" (مُتَّفَقٌ عليه).
ثم اعلموا يا مسلمون أن الجزاء من جنس العمل ، فإن مَنْ آذى أخاه المسلم وآلمه لَحِقَه الأذى، عاجلًا أو آجِلًا، فالله تعالى يقول " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله"
واعلموا أن من تسلط على الناس بالأذى سلط الله عليه من يؤذيه ، قال الإمام مالك -رحمه الله-: "أدركتُ بالمدينة أقوامًا ليس لهم عيوب، فعابوا الناس فصارت لهم عيوب".
فالحذرَ الحذرَ -يا مسلمون- من مغبَّة إيذاء الآخرين وإيلامهم ، وإلحاق الضرر بهم؛ فإنَّ ذلك من العمل الخبيث الماحق، الذي يجلب الإثمَ المبينَ، والعذابَ المهينَ، قال الله في محكم التنزيل: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون وكفوا الأذى ، ولا تجرحوا المشاعرَ، بل أدخلوا عليهم السرور واجبروا الخواطرَ
ثم اعلموا أنَّ أحقّ الناس بكف الأذى وجبر الخواطر ومراعاة المشاعر وإدخال السرور هم الوالدان وأهلُ البيت من زوجة وأخ وولد ؛ ثم الأقرب فالأقرب من الأقارب والأرحام، ثم من أهل الحي والجيران ، وكذلك الأصحاب والخلان..
فإن من طيب خواطر الناس وأدخل عليهم السرور ، طيب الله خاطره وأدخل عليه السرور
وقديماً قالوا: "من سَارَ بينَ النَّاسِ جابرًا للخَواطرِ أدركَه اللهُ في جَوفِ المَخاطرِ".
اللهمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنتَ، واصرفْ عنَّا سيئَها لا يصرفُ عنا سيئَها إلا أنتَ.
هذا وصلوا -رحمكم الله-، على خير البرية، وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا ربَّ العالمينَ
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، ونسألك اللهم نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، يا ذا الجلال والإكرام. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
تركي العتيبي
خطبة مفيدة ومباركة
تعديل التعليق