كف الأذى

الخطيب المفوه
1433/02/12 - 2012/01/06 07:22AM
كف الأذى
خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
ألقاها : د / سعد بن عبدالعزيز الدريهم .

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
الكعبةُ البيتُ الحرامُ أَيُّهَا الأحبة في الله ، لها منزلةٌ ومكانةٌ عظيمةٌ عند الله سبحانه وتعالى ؛ فمن رامها بسوء ، أو همَّ فيها بإلحاد بظلم أذاقه الله العذابَ المعجل في الدنيا ، غيرَ ما يدخره له في الآخرة ، وهذا أمرٌ لا يكاد يخفى عليكم ، أو تغيبُ رسومُه عنكم ؛ لذا الناس يُجلون هذا البيت ويحفظون له مكانته وكرامتَه ، وهذا أمر يبعث على الغبطة والسرور ؛ لأن هذا الإجلال وهذا التكريم للبيت ، هو إجلال لله سبحانه وتعالى ، وكلُّنا يُجلُّ ربنا ، وكلنا يتمنى لو توجه الخلق لله ربنا إجلالاً وإكراماً، وكفى به سبحانه مستحقاً لذلك .. فسبحانك ربنا ما قدرناك حق قدرك ! وما عبدناك حق عبادتك ؛ فلك الحمد ربنا حمداً حمداً ، ولك الشكر ربنا شكراً شكراً ..
رُغْمَ أن الناس أيها الأحبة في الله ، يحفظون لهذا البيت العتيق حرمتَه ومكانته ؛ إلا أنَّهم مفرطون ومقصرون في مراعاة ما هو أشدُّ حرمةً ومكانة من البيت المقدس ؛ ذلكم هو الإنسانُ المؤمنُ .. نعم ، أيها الأحبة ، فالبيت له حرمته ومكانته ، ولكنَّ المؤمنَ أكثرُ حرمة ومكانة من الكعبة ، وهذا عند الله سبحانه وعند رسوله r . يقول النبي r : « ما أطيبَك وأطيبَ ريحَك ! ما أعظمَك وأعظم حرمتك ! والذي نفسُ محمَّدٍ بيده ، لحرمةُ المؤمن أعظم عند الله منك , مالُه ودمُه ، وأن نظن به إلا خيراً » الحديث رواه ابن ماجه.
أرأيتم أيها الجمع المبارك ، إلى أيِّ مدى تبلغ حرمة المؤمن ؟ وإلى أي مدى تبلغُ مكانتُه عند الله ؟ وكيف أن الإنسان يتهاون في أمر ـ هو عند الله ـ عظيمٍ وجليلٍ ؛ فانتقاص المؤمن وانتهاكُ حرمته وأذيته بقول أو فعل من العظمة بمكان ، لكنَّ أكثرَ الناس في غفلة من هذا ، وعلى جانبٍ عظيم من التطاولِ عليه والاستهتارِ به ؛ لذا سُفِكَتِ الدماء ، وأُهْدِرت الأعراض ونيل منها ، واستُخِفَّ بالغيبة والنميمة ، وأضحى الآدميُّ حِمى مباحاً لكل والغ فيه ، ولا تجد من يفعل ذلك تَطْرُفُ له عين ، أو يدركه شيء من الندم ، وهذا والله من سوء التوفيق وقلة الدين ، ولو عقلنا أيها الجمع الكريم ، لكان لنا في الرب الكريم خيرُ موجه في مراعاةِ حُرْمَةِ المؤمن وعدمِ إلحاق الأذى به ولو كان يسيراً ، حيث يقول سبحانه في الحديث القدسي : « وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته » الحديث رواه البخاري . فالموت سنة من سنن الله في الخلق ، وقد توطنت النفوسُ عليه وعلى حتميته ، ولكنه رغم ذلك مُبْغَضٌ للنفوس الآدمية ومكروهٌ لها ، والربُّ لأجل ذلك يتردد في إيقاعه على النفوس لكرهها له احتراماً لهذه النفس المؤمنة .
والأذى أيها الأحبة في الله ، ليس قاصراً ما هو محسوس ظاهر مما ينال الجسد ، بل ربما كان ما ينال الروح أكثرَ خطراً ووطأة وأثراً من الأذى الجسدي ، فجرح اللسان كما قيل أبلغ أثراً من جرح السنان ؛ لذا تجد الوعيد على ذلك فيه نوع من الترهيب ؛ خاصة عندما يكون كذباً . يقول الحقُّ سُبحانه : ) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( ، وربما وضعت الحواجز المنفرة دون حمى الأعراض لئلا يقع فيها واقع بقول أو فعل من الأذى ؛ لذا عندما ذُكِرَت الغيبة في الكتاب العزيز ، جعلت في قالب تشمئز النفوس من قُربانه ، أو الدنوِ منه ، فقال سبحانه : ) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لحَمَ أَخْيْهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ( . وعذابُ الآخرة وربي أشدُّ وأبقى ، وهل هناك أشدُّ على النفس من أنك تحكِّم غيرك في حسناتك ؛ يأخذ منها ما يريد ، وإن لم يكن لك حسناتٌ أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليك ، ثم طُرحت وإياها في النار .. نعوذ بالله من ذلك ..
ولا بد أن تدركوا أيها الأحبة ، أنه كلما كان الإنسان أقربَ إليك نسباً أو سبباً ، كلما كان الوزرُ أعظمَ ، كما أنها تكتسبُ مسمَّى له وقعٌ على النفوس ؛ فأذية الوالدين عقوق ، وأذية القرابة قطيعة ، وأذية الزوجين سوء عشرة ، وأذية الجار سوء جوار ، وهلم جرا ، وهذا التغيُّرُ في الدلالة يتبعه تغير في المصير والمآل ؛ لذا عندما سُئل النبي r عن تلك المرأة التي تكثر من الصلاة والصيام ونوافل الطاعات ، ولكنها تؤذي جيرانها ، قال : هي في النار ، وعلى العكس من ذلك تلك المرأة التي ليس لها مزيد عمل ، غير أنها تكف أذاها عن جيرانها ، فقال : هي في الجنة ، وعلى هذا يمكن أن نقول : إن العمل اليسير مع حفظِ الحقوق وكفِّ الأذى يورد صاحبه الجنان ، كما أن كثرة العمل من الأذى موجب للنار ، نعوذ بالله من شر ذلك ..
ولا تحقرن أيها المحب ، شيئاً من الأذى ولو كان يسيراً ولو حتى بالرائحة الخبيثة يجدها منك أخوك المسلم ؛ لذا نُهِيَ عن قربان المسجد لمن تلبس برائحة خبيثة، وأُمِرَ بِأخذ الزينة ) يَا بَنِيْ آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ( ..
وتبلغ الشفافية في الإسلام مبلغها ، عندما يُنْهَى عن سب من مات على أمر منكر ؛ لأن ذلك يفضي إلى أذية من كان حياً ، يقول النبي r : « لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء » ، الحديث رواه أحمد .
وإنك لتعجب أيها المحب ، أشد العجب عندما تدرك أن كفَّ الأذى وتعلُّمَه من أولويات الدين ، ومن أسسه الراسخة ، جاء رجل إلى النبي r فقال : « يا رسول الله ، علمني شيئاً ينفعني الله به ، فقال : انظر ما يؤذي الناس ؛ فاعزله عن طريقهم » الحديث رواه أحمد .
قال ابن رجب رحمه الله : « تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه ؛ من قول أو فعل بغير حق » .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسله ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأيها الأحبة في الله ، تعظم الأعمال حسناً أو قبحاً بسبب توجهها إلى الخلق نفعاً أو ضَراً ، فما كان حسناً نافعاً ، فهو في منزلة عند الله عظيمة ، وما كان قبيحاً ضاراً ؛ فهو عند مقيت ، قال النبي r : « عرضت علي أعمال أمتي : حسنِها وسيئِها ؛ فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن» الحديث رواه مسلم .
بل إن عملاً لا يؤبه به ، يُدْخل صاحب الجنان ؛ لأنه اجتث أذى كاد يقع على مسلم قال النبي r : « مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق ، فقال : والله ، لأنحينَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم ؛ فأُدخل الجنة » الحديث رواه البخاري ومسلم . وإماطة الأذى عن الطريق كما أخبر النبي r شعبة من شعب الإيمان ..
ومن الأذى البالغ الذي يَلحق بالمسلمين ما يفعله الطلاب في الأيام القادمة من أذية الناس في أعراضهم ، بعد انتهاء فترة الاختبارات ، حيث تجدهم يتراكمون عند مدارس البنات يتتبعون عوراتهن يبغونهن الفتنة ، والإيقاع بهن ، ورجال الحِسبة وفقهم الله لهم دورٌ في ذلك ، ولكنَّ الدور الفعالَ وذا الأثر الحسنِ منبثقٌ من أولياء الأمور ، فلو قام كلُّ ولي بمراقبة ابنه وتفقدِه ؛ لكان حامياً لهذا الابن من نزغات الشيطان ، وحامياً لبناته من شر الأشرار ؛ ليكن كل واحد منا إيجابياً ، فنحن في سفينة واحدة ، كل ثقب فيها يهدد سكانها ..
كما أن من الأذى الظاهر في شوارعنا ما نراه من اصطفاف سيارتين أو أكثر في وسط الشوارع ، وتبادلِ سائقيها الأحاديث بينهم ، دون مبالاة بالغادي والرائح ، وهذا فوق كونه أذى وتضييقٌ على الناس في معابرهم ، فهو قلة ذوق ، ودِلالة على التخلف لدى فاعلي هذا الأمر ، وأعيذكم بالله أن تكونوا منهم . فيجب علينا إن رأينا ذلك أن نتواصى في إزالته ، ورفعه للجهات ذات الاختصاص ، ولا يكن أحدنا سلبياً يمر وكأن الأمر لا يعنيه، وهذه حال كثير منا وللأسف ، بل لا بد من الأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء وقمعهم حتى يستبينَ لهم الحق . وبالتواصي بالحق أيها الأحبة في الله ، وبالصبر عليه يزول الأذى وتقمع المنكرات ..
وهنا أمر يجدر بي ألا أغادرَ هذا المكان حتى أفصح عنه ، وهو أنك أيها الفاضل، ربما تُنْقَلُ لك عن فلانٍ أو فلانٍ كلمة ، ربما تسوؤك وتكدر خاطرك .. ما ضرك لو ذهبت لهذا الرجل ؛ فتحققتَ من كلمته هذه ؛ فربما كُذبت عليه ، وعندها تقع في سوء الظن في أخيك المسلم ، ومن فعل ذلك لا ريب أنه من الحكمة بمكان ، ولو فعلنا ذلك لأقلع الكَذَبَةُ عن كذبهم ، ولتحروا الصدق في نقلهم ، وبهذا نستأصل شأفة الأذى القولي من مجتمعنا.
المرفقات

كف الأذى.doc

كف الأذى.doc

المشاهدات 4299 | التعليقات 1

جزاكم الله خيرا