كرم وبركة القرآن
عبدالله محمد الطوالة
1434/09/10 - 2013/07/18 21:15PM
الحمد لله البر الرحيم، *الجواد الكريم .. هدانا للإيمان، وعلمنا القرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما اجتبانا .. **
*وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أرسل إلينا أفضل رسله، واختصنا بخير كتبه، وهدانا لمعالم دينه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ..*
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ *أفضل نبي لخير أمة، نزل عليه أفضل كتاب .. قال عليه الصلاة والسلام:
"ما من الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلا أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كان الذي أوتيته وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم الْقِيَامَةِ"، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ؛ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأروا الله من أنفسكم خيراً في هذه الأيام المباركة؛ فإنكم تعاملون غنياً كريماً قديراً؛ جزيل العطاء ، عظيم الكرم ، لا يتعاظمه شيء أعطاه ولو عظم في نفوسكم ، فألحوا عليه بالدعاء، والزموا باب الرجاء؛ فلن يخيب عبدٌ أمله ورجاه : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ..
عباد الله: أنزل الله القرآنَ معجزةً خالِدة، تحدَّى به الثّقلَين، فأذعَن لفصاحَتِه البلَغاء، وخضع لقوته الحُكَمَاء، وانبَهَر بأسرَارِه العلماء ، كيف لا وهو كلام الحكيمِ الخبير الذي لا يطاوِله كلام ولا يجاريه أسلوب؟! قولُ موجز ولفظ معجز.
يسَّر الله ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للمدكرين، فهو للقلوبِ ربيعُها وللأبصارِ ضياؤها، إنه نورٌ مبين، وإلى النّور يهدِي، إنه الحقّ المبين وإلى الحقِّ يرشِد، إنه الصِراطُ المستقيم وإلى الجنّةِ يوصل، لا تملُّه القُلوبُ الصافية، ولا تشبع منه العلماء العاملة، ولا تنقضي عجائبه، ولاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد ..
القرآن الكريم دليلٌ ومنهج ، دُستور حياةِ ، هو كلِّيّةُ الشريعة، وعَمود الملّةِ، وينبوع الحكمة، وآيَة الرِّسالة ..
أعظم أنيس، وخير جليس، هو الحلاوة والجمال، والعِزّ والكمال ..
نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ بغَيره ..
مدح الله أهل تلاوته فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) ..
بل أمر بها فقال: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ) ، وذم المعرض عنه فقال : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) ..
وإذا كانَ الأمر كذلك .. لزِم مَن ينشد الهدَى والنّورَ، والسعادة في الدّارين .. أَن يتَّخِذه سَميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه رفيقه وجليسَه ، نَظرًا وعمَلاً، قولاً وفعلاً، ومن فعل ذلك فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطُلّبَة، وأن يجِد نفسَه معَ السّابقين من الرَّعيل الأوّل ..
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ..
معاشر الصائمين: لقد وفقكم الله تعالى لبلوغ شهر رمضان وإدراك خيراته والتماس أنواره وبركاته ..
وإنها لفرحة عظيمة تغشى عباد الله المؤمنين، يضيء لها محياهم، وتشرق بها حياتهم، وتستنير لها قلوبهم، ولكن فرحة رمضان إنما تكون بعمارته بالأعمال الصالحة، وإحيائه بالفضائل والصالحات، والاندراج في قافلة المسارعين في الطاعات، فإن ربكم تعالى يقول: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) ..
فسروركم برمضان يعنى الجد والعمل وترك التراخي والكسل، يعني استنفار كل الطاقات، واستغلال كل اللحظات والتنافس في الطاعات ، والمسارعة في الخيرات .. فالفرصة أيام معدودة، وساعات محدودة، سرعان ما تنقضي ..
وإن أفضل الأعمال استثمارا لأوقات رمضان، هو ذكر الله تعالى، فقد جاء في الحديث الحسن: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وارفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم"، قالوا بلى: قال: "ذكر الله تعالى".
ولا شك يا عباد الله أن أفضل الذكر هو قراءة القرآن، ورمضان شهر القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ..
والقرآن كريم، جد كريم، قرآن عجيب ذو كرم وسخاء، وجود وعطاء، استمع إلى الحق جل وعلا يقرر هذه الحقيقة الكبرى بعد قسم عجيب لم يرد في القرآن مثله ..
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ..
فالقسم عظيم والمُقسم عليه هو كرم القرآن وسخاؤوه، ثم إن هذا العطاء القرآني العظيم، على كثرته فهو مبارك أيضاً .. قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ..
*والشيء المبارك هو ما كان قليله يكفي ويغني .. أيّ أن قليل الشيء المبارك خيرٌ من كثير الشيئ الذي لا بركة فيه ..
فكيف إذ اجتمع الأمران .. فالقرآن كريمٌ كثيرُ العطاء، وهذا العطاء الكثيرُ فيه بركة*
روى الترمذي والحاكم بسند حسن عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حلِّه (يعنى صاحبه)، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب، زده، فيُلبَس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب، ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارتق، ويزداد بكل آية حسنة"
وعن أنس بن مالك رضي لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" فإذا كان القرآن الكريم المبارك سيوصل صاحبه إلى أن يكون من خواص ملك الملوك يوم القيامة فهل بعد هذا من كرم وبركة ..
من أجل هذا جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس تحسُّر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها" ..
يا معشر الصائمين: القرآن ربيع القلوب، ونور الصدور، وحُداء العابدين، وروضة القانتين: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
وإن لذائذ الدنيا لتهون عند لذة القرآن وفرحته وحلاوته: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) ..
أيها الصائمون، لقد كان صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم مُزدانًا بقراءة القرآن ذكرًا وتلاوة وتدبرًا، فقد كان القرآن سميره وأنيسه، وميدانه وبستانه، يذاكره جبريل عليه السلام القرآن كل رمضان، فيقف عند مواعظه ويتأمل أسراره ويتدبر معانيه وأحكامه ..
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ..
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وجنبنا الغفلة والعصيان. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
*
*
الحمد لله وكفى ..
وبعد: فقد أدرك سلفنا الصالح والتابعون لهم بإحسان سر عظمة القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظه وحلاوته، وفى المواسم الفاضلة يزداد التعلق ، ويشتد التسابق، وتشتعل الهمم والعزائم، وتبيت نفوس الصالحين في موكب القرآن هنيّة رضية .. طيبة نديّة : (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) ..
ومن ثم فلقد كان لهم أحوال عجيبة مع القرآن، ننقل إليكم بعضها لتكون حافزًا إلى الخيرات ..
*
يقول عبد الله بن مسعود: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون".
وقيل لأبي الدرداء وكان لا يفتر من الذكر: "كم تسبح في كل يوم؟ قال: مائة ألف إلا أن تخطئ الأصابع".
وقال سلام بن أبي مطيع: "كان قتادة يختم القرآن في سبع، فإذا جاء رمضان ختم القرآن في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة ".
وفي ترجمة ابن عساكر رحمه الله قال ابن القاسم: "كان أبي مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على كل لحظة تذهب في غير طاعة".
الله أكبر! ما أعلاها من همم، وما أكرمها من عزائم ..
قال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟! قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي ..
وقال محمد بن كعب: "كنا نعرف أهل القرآن بصفرة لونه"، يشير إلى سهره وطول تهجده ..
وقال الحسن رحمه الله: "والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته".
وقال وهيب رحمه الله: "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرقَّ للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره".
هكذا عرف السلف قدر القرآن، أيقنوا أنه مادة الحياة، فذابوا فيه، كشفوا أسراره، فما رضوا بسواه، وجدوا حلاوته فهانت كل اللّذائذ دونه ..
قال عثمان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
وقال ثابت البُناني رحمه الله: "كابدتُ القرآن عشرين سنة، وتمتعت به عشرين سنة".
أيها الصائمون: هذا شيء من كرم وبركة القرآن، وهي إنما تُدركُ بالتفهم والتدبر، وليس بالهذ والاستعجال، فلقد قرأ أقوام القرآن وأكثروا منه فلم يجاوز تراقيهم.
فاقرؤوا القرآن مرتلين متدبرين متعظين، وحركوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه، وتأملوا أسراره، فما وقع في القلوب منه فرسخَ نفع بإذن الله: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)
صلوا أحبابي في الله ..
*وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أرسل إلينا أفضل رسله، واختصنا بخير كتبه، وهدانا لمعالم دينه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ..*
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ *أفضل نبي لخير أمة، نزل عليه أفضل كتاب .. قال عليه الصلاة والسلام:
"ما من الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلا أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كان الذي أوتيته وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم الْقِيَامَةِ"، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ؛ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأروا الله من أنفسكم خيراً في هذه الأيام المباركة؛ فإنكم تعاملون غنياً كريماً قديراً؛ جزيل العطاء ، عظيم الكرم ، لا يتعاظمه شيء أعطاه ولو عظم في نفوسكم ، فألحوا عليه بالدعاء، والزموا باب الرجاء؛ فلن يخيب عبدٌ أمله ورجاه : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ..
عباد الله: أنزل الله القرآنَ معجزةً خالِدة، تحدَّى به الثّقلَين، فأذعَن لفصاحَتِه البلَغاء، وخضع لقوته الحُكَمَاء، وانبَهَر بأسرَارِه العلماء ، كيف لا وهو كلام الحكيمِ الخبير الذي لا يطاوِله كلام ولا يجاريه أسلوب؟! قولُ موجز ولفظ معجز.
يسَّر الله ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للمدكرين، فهو للقلوبِ ربيعُها وللأبصارِ ضياؤها، إنه نورٌ مبين، وإلى النّور يهدِي، إنه الحقّ المبين وإلى الحقِّ يرشِد، إنه الصِراطُ المستقيم وإلى الجنّةِ يوصل، لا تملُّه القُلوبُ الصافية، ولا تشبع منه العلماء العاملة، ولا تنقضي عجائبه، ولاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد ..
القرآن الكريم دليلٌ ومنهج ، دُستور حياةِ ، هو كلِّيّةُ الشريعة، وعَمود الملّةِ، وينبوع الحكمة، وآيَة الرِّسالة ..
أعظم أنيس، وخير جليس، هو الحلاوة والجمال، والعِزّ والكمال ..
نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ بغَيره ..
مدح الله أهل تلاوته فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) ..
بل أمر بها فقال: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ) ، وذم المعرض عنه فقال : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) ..
وإذا كانَ الأمر كذلك .. لزِم مَن ينشد الهدَى والنّورَ، والسعادة في الدّارين .. أَن يتَّخِذه سَميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه رفيقه وجليسَه ، نَظرًا وعمَلاً، قولاً وفعلاً، ومن فعل ذلك فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطُلّبَة، وأن يجِد نفسَه معَ السّابقين من الرَّعيل الأوّل ..
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ..
معاشر الصائمين: لقد وفقكم الله تعالى لبلوغ شهر رمضان وإدراك خيراته والتماس أنواره وبركاته ..
وإنها لفرحة عظيمة تغشى عباد الله المؤمنين، يضيء لها محياهم، وتشرق بها حياتهم، وتستنير لها قلوبهم، ولكن فرحة رمضان إنما تكون بعمارته بالأعمال الصالحة، وإحيائه بالفضائل والصالحات، والاندراج في قافلة المسارعين في الطاعات، فإن ربكم تعالى يقول: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) ..
فسروركم برمضان يعنى الجد والعمل وترك التراخي والكسل، يعني استنفار كل الطاقات، واستغلال كل اللحظات والتنافس في الطاعات ، والمسارعة في الخيرات .. فالفرصة أيام معدودة، وساعات محدودة، سرعان ما تنقضي ..
وإن أفضل الأعمال استثمارا لأوقات رمضان، هو ذكر الله تعالى، فقد جاء في الحديث الحسن: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وارفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم"، قالوا بلى: قال: "ذكر الله تعالى".
ولا شك يا عباد الله أن أفضل الذكر هو قراءة القرآن، ورمضان شهر القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ..
والقرآن كريم، جد كريم، قرآن عجيب ذو كرم وسخاء، وجود وعطاء، استمع إلى الحق جل وعلا يقرر هذه الحقيقة الكبرى بعد قسم عجيب لم يرد في القرآن مثله ..
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ..
فالقسم عظيم والمُقسم عليه هو كرم القرآن وسخاؤوه، ثم إن هذا العطاء القرآني العظيم، على كثرته فهو مبارك أيضاً .. قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ..
*والشيء المبارك هو ما كان قليله يكفي ويغني .. أيّ أن قليل الشيء المبارك خيرٌ من كثير الشيئ الذي لا بركة فيه ..
فكيف إذ اجتمع الأمران .. فالقرآن كريمٌ كثيرُ العطاء، وهذا العطاء الكثيرُ فيه بركة*
روى الترمذي والحاكم بسند حسن عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حلِّه (يعنى صاحبه)، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب، زده، فيُلبَس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب، ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارتق، ويزداد بكل آية حسنة"
وعن أنس بن مالك رضي لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" فإذا كان القرآن الكريم المبارك سيوصل صاحبه إلى أن يكون من خواص ملك الملوك يوم القيامة فهل بعد هذا من كرم وبركة ..
من أجل هذا جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس تحسُّر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها" ..
يا معشر الصائمين: القرآن ربيع القلوب، ونور الصدور، وحُداء العابدين، وروضة القانتين: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
وإن لذائذ الدنيا لتهون عند لذة القرآن وفرحته وحلاوته: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) ..
أيها الصائمون، لقد كان صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم مُزدانًا بقراءة القرآن ذكرًا وتلاوة وتدبرًا، فقد كان القرآن سميره وأنيسه، وميدانه وبستانه، يذاكره جبريل عليه السلام القرآن كل رمضان، فيقف عند مواعظه ويتأمل أسراره ويتدبر معانيه وأحكامه ..
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ..
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وجنبنا الغفلة والعصيان. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
*
*
الحمد لله وكفى ..
وبعد: فقد أدرك سلفنا الصالح والتابعون لهم بإحسان سر عظمة القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظه وحلاوته، وفى المواسم الفاضلة يزداد التعلق ، ويشتد التسابق، وتشتعل الهمم والعزائم، وتبيت نفوس الصالحين في موكب القرآن هنيّة رضية .. طيبة نديّة : (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) ..
ومن ثم فلقد كان لهم أحوال عجيبة مع القرآن، ننقل إليكم بعضها لتكون حافزًا إلى الخيرات ..
*
يقول عبد الله بن مسعود: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون".
وقيل لأبي الدرداء وكان لا يفتر من الذكر: "كم تسبح في كل يوم؟ قال: مائة ألف إلا أن تخطئ الأصابع".
وقال سلام بن أبي مطيع: "كان قتادة يختم القرآن في سبع، فإذا جاء رمضان ختم القرآن في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة ".
وفي ترجمة ابن عساكر رحمه الله قال ابن القاسم: "كان أبي مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على كل لحظة تذهب في غير طاعة".
الله أكبر! ما أعلاها من همم، وما أكرمها من عزائم ..
قال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟! قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي ..
وقال محمد بن كعب: "كنا نعرف أهل القرآن بصفرة لونه"، يشير إلى سهره وطول تهجده ..
وقال الحسن رحمه الله: "والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته".
وقال وهيب رحمه الله: "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرقَّ للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره".
هكذا عرف السلف قدر القرآن، أيقنوا أنه مادة الحياة، فذابوا فيه، كشفوا أسراره، فما رضوا بسواه، وجدوا حلاوته فهانت كل اللّذائذ دونه ..
قال عثمان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
وقال ثابت البُناني رحمه الله: "كابدتُ القرآن عشرين سنة، وتمتعت به عشرين سنة".
أيها الصائمون: هذا شيء من كرم وبركة القرآن، وهي إنما تُدركُ بالتفهم والتدبر، وليس بالهذ والاستعجال، فلقد قرأ أقوام القرآن وأكثروا منه فلم يجاوز تراقيهم.
فاقرؤوا القرآن مرتلين متدبرين متعظين، وحركوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه، وتأملوا أسراره، فما وقع في القلوب منه فرسخَ نفع بإذن الله: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)
صلوا أحبابي في الله ..
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
شيخ عبدالله طولت علينا ولا طول الله غيبتك على منتدانا مرة ثانية فأنت من فرسان هذه الميدان الفسيح الرحب الذي لا يكتمل سباقه إلا بك ومن غرس هذه الحديقة الغناء التي تؤتي أكلها بإذنه ربها يانعة طيبة مباركة والتي لا يكتمل ذوق طعمها إلا بذوقك
تعديل التعليق