"كان بيني وبينه شيء"
د. عبدالله بن حسن الحبجر
"كان بيني وبينه شيء"
ألقيت في 23 / 2 / 1444هـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، أَحْمَدُهُ تَعَالَى وَأْشَكْرُهُ عَلَى عَطَائِهِ الْوَفِير، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ وَهُوَ بِالْمَغْفِرَةِ جَدِير، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَنَزَّهَ عَنِ الشَّبِيهِ وَالنَّظِير، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهُ وَرَسُولُهُ، الْبَشِيرُ النَّذِيرُ، وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ، صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْمَصِير، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أمَّا بعدُ:
فَالتَّقْوَى عباد الله سَبِيلُ الرَّشَادِ، وَدَرْبُ السَّدَادِ
﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
عباد الله:
في بيت من بيوت العز المُسطر مجدُها ، حدثت حادثة قصيرة المباني ، لكنها عظيمة المعاني ، كبيرٌ أثرها ونفعها.
بطلاها زوجان في الدنيا كريمان ، وبالجنة مبشران .
أما الزوج فابن عم رسول الله ﷺ وصهره الذي نشأ في كنفه، عليّ رضي الله عنه وأرضاه.
وأما الزوجة فذات المقام الفاضل، والشرف الرفيع ، من خير النساء في الدنيا، وفي الجنة سيدة نسائها فاطمة بنت رسول الله ﷺ وأشبه الناس به مشية وكلاما رضي الله عنها.
في الصحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:
(جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِإِنْسَانٍ:
انْظُرْ أَيْنَ هُوَ ؟ فَجَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُهُ عَنْهُ ، وَيَقُولُ : قُمْ أَبَا تُرَابٍ ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ ) .
عباد الله:
في البيوت إن صفت مستراحٌ لأهلها، وأُنسٌ لقلوبهم وسُلوان ، لكنها لا تسلم من كدر ينغصها، وهذا البيت المبارك على عز أهله وشريف مقامهم، لم تكن حياتهم كلها صفاء، ولم تسلم من خلاف بَدَّل أحوالها.
وفي وقت من أوقات السكن، ومظنة احتواء البيوت رجالها، وقت القيلولة حين تُؤي المشقة والتعب أهلها لبيوتهم ، فيخفف ما هم فيه أُنْسُها وسكنها.
يأتي ﷺ بيت ابنته زائرا ومتفقدا حالها وزوجها ، فيجدها وحدها ولم يجد زوجها؛ ولغرابة غيابه في مثل هذا الوقت يسألها (أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟)
ذكَّرها بصلة قربه منها؛ لأن صلة القرابة بين الزوجين تعمق العلاقة، وتشد وثاقها،
فتجيبه بحصافة عقلها وحسن خطابها، جوابا أبانت به عذرها ولم تبح فيه بسرها:
(كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي،)
لم تذكر الخلافَ والمشكلةَ لأبيها ، ولم تستغل الحدث لتأليبه على زوجها،
ثم قالت ( فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي.)
هذا التصرف لوكان فيه ما يستدعي التنبيه وبيان الحكم، لجاء البيان من وحي السماء، كما حصل مع بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، حين أسرت حديثا فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض.
أيضا ظهرت حكمة علي رضي الله عنه، حين خرج ساكتا وأعرض عنها؛ مدافعةً للغضب، وخشيةَ أن يُسيء إليها أو يسمع ما لا يسره منها .
وهذا تصرف يخفف الكثير من وطأة النقاش بين الزوجين، ويقلل شحن النفوس بالضغائن،
ولم يَقِل عندها؛ لأن السكن الحقيقي هو مودة الزوجة وحبها، وجَعلِها للبيت أجمل مكان لهدوء الأعصاب، وراحة البال، وتنفيس الأوجاع للزوج، وهنا يحلو المقيل.
عباد الله:
لم يكن همه ﷺ تفاصيل جوابها فلم يستفصل عن الأسباب بجزئياتها
وما عاتب ولا حاسب ولا حقق ولا ناقش.
وما كان من رسول الله ﷺ إلا أن قال لإنسان: (انظر أين هو؟!)
ومن هنا نتعلم أن العلاقات الحساسة - ومنها العلاقات الزوجية - تحتاج إلى حلول سريعة؛ لأن طول الزمن فيها يباعد بين القلوب، ويُورِث الحقد، ويتيح الفرص لأهل الحسد.
جاء الرجل الذي أرسله ﷺ فقال:
(يا رسول الله، هو في المسجد راقد)
رقد رضي الله عنه ولم يعط القضية أكبر من حجمها، ولا صعدها لأبيها، بل سلك أيسر الطرق لعلاجها: جعل من المسجد مكانا للقيلولة، ولم يَقِل عندها.
أخرجه الخلاف من البيت ليعيش لحظات فقد فيها فراشه وغطاءه، لكنه لم يخسر زوجته.
فيأتيه ﷺ بشفقته وتواضعه ولطفه ورحمته فيجده مضطجعا قد سقط رداؤه عن شقه وَأَصَابَهُ تُرَابٌ
أتاه ﷺ مستصلحا شأنه مسترضيا له ، يمسح بيده الشريفة أثر التراب ، متلطفا ويقول ممازحا "قُمْ أَبَا تُرَابٍ ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ"
فتُبقي هذه الملاطفة أثرها عذبا في نفس علي رضي الله عنه، بل استمر سروره غامرا بها حتى كان أحب ما يدعى به " أبو تراب " قال سهل بن سعد رضي الله عنه : " ما كانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِن أبِي تُرَابٍ، وإنْ كانَ لَيَفْرَحُ به إذَا دُعِيَ بهَا "
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿لَّا خَیۡرَ فِی كَثِیرࣲ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَـٰحِۭ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ لِكَ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾
الـــخطبة الـثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ثم أما بعد:
عباد الله:
هذا الحديث الذي مر معنا، يعلمنا أن سكوت الزوج وانسحابه من مواطن إثارة الغضب: حكمة لا هروب، وقوة لا ضعف فيها.
يعلمنا هذا الحديث: أن كثيرا من المشاكل الأسرية العابرة حلها أن توأد في مهدها، بالإعراض عن تفاصيلها.
يعلمنا هذا الحديث: أن الولي الناصح العاقل يتصرف بحكمته وعقله، لا يكابر ولا تغلبه أنفته، ولا تهزمه عاطفته، يحفظ الحقوق ويقيمها.
يعلمنا هذا الحديث: أن التلطف للأصهار ولين الجانب معهم، منهج نبوي لإصلاح البيوت ورأب انصداعها.
أرأيتم عباد الله كيف أن النبي ﷺ أتاه بنفسه ، ولم يطلب قدومه عليه، ولاطفه واسترضاه ومازحه
فعل ذلك كله ﷺ ليقينه أن البيوت لا تُعمر ولا يَقر قرارها إلا برجالها.
اللهم أصلح أحوالنا وأعذنا من نزغات الشياطين، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين .....
منصور بن هادي
عضو نشطنفع الله بك وفتح عليك
تعديل التعليق