قيود الأوهام

يوسف العوض
1439/07/19 - 2018/04/05 16:55PM
الخطبة الأولى:
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى وبعد ..
عباد الله: يقال في الأسطورة: إنّ الوباءَ – وهو الطاعونُ- مرَّ برجلٍ! فقالَ له الرجلُ: إلى أينَ أنتَ ذاهبٌ؟ قالَ: ذاهبٌ إلى قريةِ كذا وكذاة ، لأُهلكَ خمسةَ آلافِ رجلٍ قدْ أُمرتُ بإهلاكهم، وفعلاً انتشر الطاعونُ في تلكَ القريةِ ولكن مات خمسونَ ألفاً بدلاً من خمسةِ آلافٍ ، ثمَّ رجعَ الوباءُ فمرَّ بالرجلِ، فقالَ لهُ: منْ أينَ أتيتَ ؟ قالَ: منْ قريةِ كذا وكذا ، قالَ: إنكَ كذبتني! أخبرتني أنكَ سوفَ تقتلُ خمسةَ آلافٍ ، والواقعُ أنّكَ قتلتَ خمسينَ ألفاً فقالَ له الوباءُ : كلا ! أنا قتلتُ خمسةَ آلافٍ ، أمّا الباقونَ فقدْ قتلهم الوهمُ ، أي: من شدةِ الخوفِ من هذا المرضِ!!توهموا أنهم أُصيبوا بجرثومتهِ، فما زالت بهم الأوهامُ حتى جعلتهم على فرشهم، وأودتْ بهم إلى مراقدهم وإلى قبورهم.
أما في الحربِ العالميةِ الثانيةِ فوجیء الرئيسُ الألماني هتلرُ ، بأن هناك ثلاثةَ ضباطٍ خالفوا أوامره ، فقرّرَ معاقبتهم بطريقةٍ غريبةٍ .
وضعَ هتلرُ كلَّ ضابطٍ في سجنٍ وحده ، وقيّدهُ وجعلَ أمامهُ ماسورةَ مياهٍ تنزلُ منها المياهُ نقطةً نقطةً ببطءٍ وقالَ لهم إنّ في كلِّ سجنٍ هناكَ تسربٌ لغازٍ سام ٍ سيقتلهم خلالَ ستِ ساعاتٍ ، وبعدَ أربعِ ساعاتٍ فقط ! ذهبَ ليتفقدَ الضباطَ ، فوجدَ اثنينِ منهم قد ماتوا ! والثالثَ يعاني تشنجاتٍ ويلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ ، والمفاجأةُ كانت أنّ موضوعَ الغازِ لم يكن إلا "خدعةٌ و وهمٌ "، ليجعل َعقولَهم هي التي تقتلهم!  واتضحَ أنَّ فكرةَ الغازِ القاتلِ جعلتْ أجسامَهم تفرزُ هرموناتٍ تؤثرُ سلباً على القلبِ وأجهزةِ الجسمِ !!
لقد أُصيب الكثيرون بالأوهامِ واستسلموا لها فحطمت نفوسَهم ودمّرت حياتَهم .. وإذا ما خافَ المرءُ شيئا لاحَ له الموتُ كاملاً في كلِّ أُفُقٍ فيخافُ من الكبشِ يحسبه حيةً ، ويرى كلَّ سوداءٍ فحمةً وكلَّ بيضاءٍ شحمةً ويستسمنُ  ذا الورم!!
تَوَلَّعَ بالوَّهمِ حتَّى وَهَن *** ونَالَ منَ الهمِّ ضِيْقَ العَطَنْ
أتَتْهُ الغمُومُ على غِرةٍ *** ليَدْفَعَ إِثْرَ الْغُمُومِ الثَّمَنْ

عباد الله : ولذلك تجدون بعضَ الناسِ يعيشون أوهاماً لا حقيقةَ لها، يعيشون وهمَ المرضِ فإذا أحسَّ أحدُهم بألمٍ في رأسه أو بطنه توهمَ أنه المرضُ الخطيرُ القاتلُ فيأخذُ بمراجعةِ المستشفياتِ والمصحاتِ وأخذِ التحاليلِ وهلمَّ جرا ، ومنهم من يترك الخيرَ وفعلَه وينزوي عن الناسِ خوفاً من العين ، فهو يعلق كلَّ داء ٍأو مرضٍ بالعينِ أو يظنُّ بأنه مسحورٌ ، كما أن بعضَهم يشكُ دائماً فيمن حولَه كالزوجةِ أو الأولادِ أو الجيرانِ أو الأصدقاءِ أو الأقاربِ والأرحام ِ بلا بينةٍ ولا برهانٍ .
يظنُّ بهم والظنُّ لا يغني من الحقِّ شيئاً، فيظن بزوجته السوءَ ، وبأقاربه الحسدَ وبجيرانه الكيدَ وكلُّ ذلك من الشيطانِ ، فزوجته غافلةٌ ، وجيرانه صالحون وأقاربُه يحبون له الخيرَ ولكنه الشيطانُ.
أوهامٌ على إثرها أوهامٌ ، عينٌ! مرضٌ! سحرٌ! كيدٌ! مكرٌ! كلامٌ فارغٌ أملاه الشيطانُ على النفوسِ المريضةِ الضعيفةِ.
وصدقَ اللهُ القائلُ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وقد قال الرسولُ صلى اللهُ عليه وسلم (إيَّاكُمْ والظَّنَّ ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحدِيث ) رواه البخاري.
عبادَ اللهِ : يظنُ بعضُ المسلمينَ أنَّ عملَ الشيطانِ محصورٌ في محاولةِ إيقاعِ الإنسانِ بالمعصيةِ ، والزلةِ والكبيرةِ ، والفاحشةِ أو بتركِ الإنسانِ الواجبات ِكالصلاةِ والصيام ِوالزكاةِ مثلاً والحقُّ أنَّ الحربَ أوسعُ والعداوةَ أشملُ ، فإنّ للشيطانِ أعمالٌ كثيرةٌ كالأوهامِ والتخويفِ وإدخالِ الشكِّ والظنِّ على الواحدِ منَّا ، فقدْ يعجزُ عن أحدنا في جانبِ الطاعةِ، أو فعلِ المنكرِ فيأتيه من جانبِ الوهمِ والظنِّ والخوفِ من الموتِ أو المرضِ والألم ِأو العينِ والحسدِ  أو السحر ِ والحقد ِ أو غير ِذلك.

عباد الله: متى استسلمَ الانسانُ للأوهامِ والخيالاتِ التي تجلبُ الافكارَ السيئةَ وانفعلَ قلبُه للمؤثراتِ كالخوفِ من الامراض وغيرِها ومن التشويشِ والغضبِ من الاسبابِ المؤلمةِ ومن توقعِ حدوثِ المكارهِ وزوالِ المحابِّ أوقعه ذلك في الهمومِ والغمومِ والأمراضِ القلبيةِ والبدنيةِ والإنهيارِ العصبي ! فكم مُلئت المستشفياتُ من مرضى الأوهامِ والخيالاتِ الفاسدةِ ، وكم أثرت هذه الأمورُ على قلوبِ كثيرٍ من الأقوياءِ فضلاً عن الضعفاءِ وكم أدت إلى الحُمقِ والجنونِ ، فنسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ ..

الخطبة الثانية :
بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..
كيف الخلاصُ والنجاةُ من الأوهام ِ؟!
أولا : العلمُ بأنّ الأوهامَ من الشيطانِ لتخويفِ المسلمِ وتحزينِه قال اللهُ تعالى : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) فإذا سوَّل لكم وأوهمكم : فتوكلوا على الله والجؤوا إليه ، فإنه كافيكم وناصركم عليه ، كما قال تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .
ثانيا: اليقينُ بأنَّ من جعلَ اللهَ وليّاً له : لم يكن للشيطانِ عليه سبيلٌ ومن تخلى عن ولايةِ اللهِ فقد جعلَ الشيطانَ وليّاً له ! قال اللهُ تعالى : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) فالطريقُ إلى السلامةِ من شرِّه هو الالتجاءُ إلى اللهِ والاستعاذةُ به من شرِّه ، معتمداً بقلبه على اللهِ في صرفه عنه ، مجتهداً في دفعِ وساوسهِ وأفكارهِ الرديئةِ .
ثالثا: التعوذُ بكلماتِ الله التامات من شرّ ما خلق، تكرارا ومرارا والتعوذُ باللهِ خاصةً من الشيطانِ الرجيم وطرحُ الشكوك ِ ، وسؤالُ اللهَ العافيةَ من ذلك.
رابعا:المحافظةُ على أداءِ الفرائضِ في أوقاتها .
خامسا:المحافظةُ على أذكارِ الصباحِ والمساءِ.
سادسا:عدمُ الاسترسالِ مع الأفكارِ السيئةِ وقطعِها حالا ً والأنشغالُ بما هو مفيدٌ ونافعٌ والتواصلُ مع الآخرين بالعلاقاتِ الاجتماعيةِ والمناسباتِ .
سابعا: الدعاءُ ثم الدعاءُ ثم الدعاءُ .
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار ِ..
المشاهدات 1977 | التعليقات 0