قيم الإسلام وذوقه العام في بيوت اللّه

محمد بن سليمان المهوس
1444/11/10 - 2023/05/30 20:03PM

الخُطْبَةُ الأُولَى

الْحَمْدُ للهِ الْمَحْمُودِ بِكُلِّ لِسَانٍ، الْمَعْبُودِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، مُدَبِّرِ الأَكْوَانِ، وَخَالِقِ الإِنْسِ وَالْجَانِّ، أَحْمَدُهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنَ الإِيمَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآنِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدِ اعْتَنَى دِينُنَا الإِسْلاَمِيُّ بِجَانِبِ الْقِيَمِ وَالذَّوْقِ الْعَامِّ عِنَايَةً بَالِغَةً، وَعَدَّهَا مِنَ الرَّكَائِزِ الأَسَاسِيَّةِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الدِّينُ الصَّحِيحُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام : 161]؛ قَالَ السِّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «يَأْمُرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ وَيُعْلِنَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ الدِّينِ الْمُعْتَدِلِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْعَقَائِدِ النَّافِعَةِ، وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالأَمْرِ بِكُلِّ حَسَنٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، الَّذِي عَلَيْهِ الأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ..» انتهى .

وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ رَسُولُنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ» [ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِي ]

فَالأَخْلاَقُ الْحَسَنَةُ، وَالْقِيَمُ الرَّفِيعَةُ: رُوحُ الأُمَّةِ وَذَوْقُهَا، وَعِزُّهَا وَفَخْرُهَا، فَإِذَا صَحَّتِ الرُّوحُ ؛ عَاشَتِ الأُمَّةُ قَوِيَّةً عَزِيزَةً عَالِيَةَ الْجَانِبِ؛ كُلٌّ يَتَمَنَّى الاِنْتِسَابَ إِلَيْهَا وَالاِعْتِزَازَ بِهَا.

 وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاَقُ مَا بَقِيَتْ *** فَإِنْ هُمُو ذَهَبَتْ أَخْلاَقُهُمْ ذَهَبُوا

وَمِنْ هَذِهِ الْآدَابِ الْجَميِلَةِ وَالْأَذْواقِ الرَّفِيعَةِ:

احْتِرَامُ بُيُوتِ اللهِ وَتَوْقِيرُهَا؛ وَمِنْ ذَلِكَ:

الْمَشْيُ لَهَا بِطَهَارَةٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَإِخْلاَصٍ لِلْعَزِيزِ الْغَفَّارِ؛ قَالَ ‏-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ؛ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً»

[رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَلَكِنِ ائْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».

وَمِنَ الآدَابِ الْجَمِيلَةِ وَالأَذْواقِ الرَّفِيعَةِ تِجَاهَ بُيُوتِ اللهِ: التَّجَمُّلُ لَهَا بِلُبْسِ الْمَلاَبِسِ النَّظِيفَةِ، وَالتَّطَيُّبُ، وَاسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِهِ: «يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلاَةِ، وَلاَ سِيَّمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْعِيدِ، وَالطِّيبُ لأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ».

قَالَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ أُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: «أَلَمْ أَكْسُكَ ثَوْبَيْنِ؟» فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَرْسَلْتُكَ إِلَى فُلَانٍ أَكُنْتَ ذَاهِبًا فِي هَذَا الثَّوْبِ؟» فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: «اللَّهُ أَحَقُّ مَنْ تَزَيَّنُ لَهُ أَوْ مَنْ تَزَيَّنْتَ لَهُ».

فَلَيْسَ مِنَ الأَدَبِ، وَالذَّوْقِ الْعَامِّ: ارْتِدَاءُ مَلاَبِسِ النَّوْمِ أَوِ الرِّيَاضَةِ أَوِ الْمَلاَبِسِ الَّتِي تَحْمِلُ عِبَارَاتٍ أَوْ صُوَرًا أَوْ أَشْكَالاً تَخْدِشُ الْحَيَاءَ، أَوِ الذَّوْقَ الْعَامَّ لِبُيُوتِ اللهِ أَوِ الأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ.

وَمِنَ الآدَابِ الْجَميِلَةِ وَالأَذْواقِ الرَّفِيعَةِ تِجَاهَ بُيُوتِ اللهِ :

تَجَنُّبُ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَمِنْهَا الثُّومُ وَالْبَصَلُ فَإِنَّهُمَا أَذِيَّةٌ لِلْمُصَلِّي وَالْملاَئِكَةِ؛ قَالَ ‏-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْـمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يتأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]

وَمِنَ الآدَابِ الْجَميِلَةِ وَالأَذْواقِ الرَّفِيعَةِ تِجَاهَ بُيُوتِ اللهِ:

تَجَنُّبُ الْبُصَاقِ فِي الْمَسْجِدِ وَالَّذِي عَدَّهَا رَسُولُ اللهِ ‏- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خَطِيئَةً؛ لأَنَّ فِيهَا امْتِهَانًا لِبُيُوتِ اللهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي السَّاحَاتِ الْخَارِجِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ، فَمِنَ الذَّوْقِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُصَلِّي مَنَادِيلُ يَسْتَعْمِلُهَا لِهَذَا الْغَرَضِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَضَعُهَا فِي النُّفَايَاتِ الْمُخَصَّصَةِ فِي الْمَسَاجِدِ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا مِنَ الأَعْمَالِ أَخْلَصَهَا وَأَزْكَاهَا، وَمِنَ الأَخْلاَقِ أَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ الآدَابِ الْجَمِيلَةِ وَالأَذْواقِ الرَّفِيعَةِ تِجَاهَ بُيُوتِ اللهِ: الاِبْتِعَادُ عَنْ كُلِّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْمُصَلِّي؛ مِنْ تَخَطِّي الرِّقَابِ، أَوِ الزِّحَامِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، أَوِ الإِزْعَاجِ بِالْكَلاَمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: «اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ» [صححه الألباني في صحيح أبي داود].

وَمِنْ الآدَابِ الْجَمِيلَةِ وَالأَذْواقِ الرَّفِيعَةِ تِجَاهَ بُيُوتِ اللهِ:

الإِحْسَاسُ بِالآخَرِينَ، وَاحْتِرَامُ الْمُصَلِّينَ؛ فَلَيْسَ مِنَ الأَدَبِ وَالذَّوْقِ الْعَامِّ: الْوُقُوفُ الْعَشْوَائِيُّ لِلسَّيَّاراتِ فِي مُحِيطِ الْمَسَاجِدِ، أَوْ مُنْتَصَفِ الشَّوَارِعِ، أَوْ أَمَامَ أَبْوَابِ الْمَنَازِلِ الْمُحِيطَةِ بِالْمَسْجِدِ خِلاَلَ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ، أَوْ أَمَامَ مَدْخَلِ ذَوِي الاِحْتِيَاجَاتِ الْخَاصَّةِ.

وَلَيْسَ مِنَ الأَدَبِ وَالذَّوْقِ الْعَامِّ : تَكَدُّسُ الأَحْذِيَةِ أَمَامَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَعَدَمُ وَضْعِهَا فِي الأَمَاكِنِ الْمُخَصَّصَةِ لَهَا! أَوِ الْعَبَثُ بِمَفَاتِيحِ الإِضَاءَةِ وَالتَّكْيِيفِ! أَوْ مُزَاحَمَةُ كِبَارِ السِّنِّ أَوِ الْمَرْضَى أَوْ ذَوِي الاِحْتِيَاجَاتِ الْخَاصَّةِ عَلَى الْكَرَاسِي الْمُخَصَّصَةِ لَهُمْ، أَوْ سَمَاعُ أَصْوَاتِ الْمُوسِيقَى فِي بُيُوتِ اللهِ عَبْرَ نَغَمَاتِ الْهَاتِفِ الْمَحْمُولِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: جَمِيلٌ أَنْ نَرَى أَوْلاَدَنَا الصِّغَارَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَالأَجْمَلُ تَعْلِيمُهُمْ أَدَبَ الْمَسَاجِدِ وَاحْتِرَامَهَا ، وَاحْتِرَامَ الْمُصَلِّينَ فِيهَا؛ مَعَ التَّلَطُّفِ وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ لِيَأْلَفُوا بُيُوتَ اللهِ وَيُحِبُّوهَا.

فاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- وَتَخَلَّقُوا بِأَخْلاَقِ دِينِكُمُ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ كَامِلٌ فِي عَقَائِدِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلاَتِهِ، وَذَوْقِهِ الْعَامِّ.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].

المرفقات

1685466231_قيم الإسلام وذوقه العام في بيوت الله.doc

المشاهدات 1759 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا