قيمة الأمن 1437/10/17 هـ

عبد الله بن علي الطريف
1437/10/16 - 2016/07/21 22:07PM
قيمة الأمن 17/10/1437هـ
الحمد لله القائل فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا..
أيها الأحبة: إن وقفاتِ التأملِ والمراجعةِ للواقعِ الذي نعيشُه من النعمِ المتعددةِ مقروناً بالتأملِ بما صح من السنةِ المطهرةِ يجعلُ المسلمَ يعرفُ أسرارَها، ويستضيءُ بأنوارِها، فينشرحُ الصدرُ وتطمئنُ النفسُ.. وتحلوا الحياةُ.. ويتفتقُ البيانُ بآياتِ الحمدِ والثناءِ على المنعمِ المنانِ بما أعطى من نعمٍ لا حدودَ لها.
ومن عظيمِ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. وفي رواية: فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها.. رواه الترمذي وابن ماجة والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث حسن عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه....
الله أكبر أيها الإخوة: إنها كلماتٌ يسيراتٌ، حوت معنى الحياةِ الحقةِ.! وحوت أسبابَ البقاءِ فيها والسعادةَ "أمنٌ وعافيةٌ وقوتٌ" إنها كلماتٌ ترسمُ للمرءِ صورةَ الحياةِ بكلٍ تفاصيلِها.. حلوَها ومرَها.. وسهلَها وصعبَها، على أنها لا تتجاوز هذه المعاييرِ الثلاثةِ، والتي لا يمكنُ لأيِّ كائنٍ بشريٍ عاقلٍ أن يتصوّرَ الحياةَ الدنيويةَ الهانئةَ بدون توافرِها، وماذا في الدنيا أكثرُ من هذا..؟ عافيةُ
البدنِ.. وتوفرُ القوتِ الذي يشبعُه.. والمأوى الآمنِ.. ولو بحث الإنسانُ وراء ذلك لم يجدْ بعد ذلك شيئاً، فالدنيا كلُّها بين يديه بمتعُها.
إنها عباراتٌ سهلةٌ على اللسانِ، غير أن وصفَ النبي صلى الله عليه وسلم لها بكونِها تعادلُ حيازةَ الدنيا بحذافيرِها يجعلُ كلَّ واحدٍ منا يتأمّلُ ويدققُ النظرَ في أبعادِ هذه المعاني، وتنْزيلِها على واقعِ حياتِنا جميعاً، ومدى تأثيرِها فينا وجوداً وعدماً، إيجاباً وسلباً.
أمنُ المرءِ في سربِه أيها الأحبة: مطلبُ الفردِ والمجتمعاتِ على حدٍّ سواء، وهو الهدفُ المرتقبُ لكلِ المجتمعاتِ بلا استثناءٍ على اختلافِ مشاربِها، ثم إن إطراءَ الحياةِ الآمنةِ هو ديدنُ كافةِ المنابرِ؛ للصلةِ الوثيقةِ بينه وبين إمكانيةِ استقرارِ المجتمعاتِ، وإلا فما قيمةُ لقمةٍ يأكلُها المرءُ وهو خائفٌ، أو شربةٍ يشربُها الظمآنُ وهو متوجِّسٌ قلِقٌ، أو إغفاءةِ نومٍ يتخللُها يقظةٌ وسْنَانُ هلعٍ، وما قيمةُ علمٍ وتعليمٍ وسطَ أجواءٍ محفوفةٍ بالمخاطرِ..؟!
إن كلَّ مجتمعٍ يفقدُ الجانبَ الأمنيَ إنما هو في الحقيقةِ فاقدٌ لمعنى الحياةِ لا محالةَ، فما قيمةُ حياةٍ يتوجسُ فيها الفردُ ويخافُ من أن يكونَ عُرضةً لنهبِ الناهبين.. وجشعِ الطامعين..
يتوجسُ في الصباحِ الدوائرَ... ويبيتُ الليلَ مشغولَ الخاطرِ.. إذا أصبحَ حملَ همَّ المساءِ.. وإذا أمسى حملَ همَّ الصباحِ.. خائفٌ يترقبُ الدوائرَ.. ويخشى القوارعَ..
ومن أجلِ الأمنِ أحبتي: جاءت الشريعةُ الغراءُ بالعقوباتِ الصارمةِ والحدودِ الرادعةِ تجاهَ كلِّ مُخلٍ بالأمنِ كائناً من كان، بل وأغلقت أبوابُ التهاونِ في تطبيقِها، أيّا كان هذا التهاونُ، فقد شدد رسولُ اللهِ على من حدثه بحدٍ من حدودِ اللهِ قَالَت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ؛ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. رواه البخاري ومسلم. فأغلقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا القولِ كلَّ بابٍ سواءً كانَ في التوسطِ في إلغائها، أو في الاستحياءِ من الوقوعِ في وصمةِ نقدِ المجتمعاتِ التي تدعي الحضارةَ، ومعرّةِ وصفِهم للغيرِ بالتخلفِ بسببِ تطبيقِها.
وحين يدبُّ في الأمةِ داءُ التوجسِ الأمنيِ فإن المتسببين في ذلك يهيلون الترابَ على أمتِهم، ويقطعُون شرايينَ الحياةِ الآمنةِ على الأجيالِ الحاضرةِ والآمالِ المرتقبةِ.
أيها الإخوة: إن إصباحَ المرءِ المسلمِ آمناً في سربِه لهو من أوائلِ بشائرِ يومِه وغدِه، وما صحَّةُ البدنِ وقُوتُ اليومِ إلا مرحلةٌ تاليةٌ لأمنِه في نفسِه ومجتمعِه، إذ كيف يصحُّ بدنِ الخائفِ..؟! وكيف يكتسبُ من لا يأمنُ على نفسِه وبيتِه..؟!
ولأجلِ هذا كان لزاماً علينا أن نقدِّرَ حقيقةَ الأمنِ الذي نعيشُه، وأن نستحضرَه نصبَ أعينِنا بين الحينِ والآخرِ، حتى لا نكونُ مع كثرةِ الإمساسِ له فاقدي الإحساسِ به، ولاسيما حينما نطالعُ يمنةً ويسرةً لنرى بعضَ الأقطارِ الملتهبةِ بالصراعِ.. والتي يطحنُ بعضُها بعضاً من داخلِها، أو بما هو أدهى وأمرُ من خلال سطوةِ البغاةِ عليها واجتياحِ العدوانِ المسلّحِ لها، استباحةً لأرضِها، وانتهاكاً لحرماتِها.
أيها الأحبة: في نظري أن للأمنِ مصدران أساسيان، الأول: السلطةُ التنفيذيةُ والقوةُ القضائيةُ، ولن تتمكنَ أيُ دولةٍ مهما أوتيت من الإمكاناتِ البشريةِ والماديةِ والتقنيةِ أن تحفظَ الأمنَ على التمامِ بهذا المصدرِ وحده، إذا لم يصاحبْ هذه السلطةَ المصدرُ الثاني: وهو الوعيُ الشعبيُ بأهميةِ الأمنِ بصورتِه الكاملةِ.. والانتماءِ إلى الأمةِ والوطنِ.. وطاعةِ أولي الأمرِ بالمعروفِ.. والصدورِ بالأفعالِ عن أهلِ العلمِ والفتوى.. واعتبارِ ذلك من الدينِ.. واستجابةٍ لربِ العالمين القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59] بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا..


الثانية:
أما بعد أيها الإخوة يقول الله تعالى حاثاً على تقوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]
لقد مرَّ في هذا الأسبوعِ حدثٌ أشغلَ الناسَ ووسائلَ الإعلامِ وهي أحداثُ تركيا لن أتحدثَ عنه ولكني سأنقلُ لكم مشاعرَ أحدِ الدعاةِ الذي كان ماراً بمطارِ اسطنبول ليواصلَ رحلتَه الدعويةَ لإحدى الدولِ، قال وفقه الله بشيءٍ من التصرفِ: أحمدُ المولى سبحانه أن يسرَ الأمرَ، هانحن بانتظارِ الإعلانِ عن إقلاعِ الطائرةِ راجعونَ الى السعوديةِ بعد أيامٍ بقينا فيها اضطراراً في تركيا، حُبسنا في المطارِ أيامِ الشدائدِ والحصارِ عليه ورأيتُ هناكَ دروساً لا تنسى..!
وأهمُ هذه الدروسِ علمتُ عملياً نعمةَ الأمنِ الذي إذا تبدلَ تَبَدَّلَ كلُ شيء.! لأنه سريعُ التبدلِ، ويتبدلُ بأيسرِ مما تتوقعُ، وأقربُ مما تحتسبُ.! نعم لما اختلَ الأمنُ ظهرَ على وجوهِ الرجالِ الوجلُ وبدت في أعينِهم الحيرةُ، وغابَ عن محياهم البشرُ والسرورُ، وغابتْ البَسْمةُ، وتبدَّلت الفرحةُ، وصارتْ حالُ الناسِ بالمطارِ كحالِ المؤمنين في المدينةِ يومَ الخندقِ لما ضُرب عليهم الحصارُ، فقد قال الله عنهم: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:10،11]. وهناك سمعتُ عويلَ النساءِ، وبدى على وجوهِ الأطفالِ الوجومِ والكدرِ. نعم لقد تبدلت فرحةُ السفرِ.. بهمٍ وغمٍ وكدرٍ..
عرفتُ حينها كم نحنُ في نعمةٍ لا تقدرُ بثمنٍ.. إنها أمُ النعمِ وجالبةُ الأملِ، ولأجلِ صيانتِها والحفاظِ عليها علينا أن نصونَها حقَ صيانتِها، بطاعةِ الهَِ تعالى والبعدِ عن المعاصيِ وحفظِ شعيرةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، وأن نصبرَ على ما قد يعترينا من نقصٍ إلا أصلُ الدينِ.. وعرفتُ حينها لِم قال أهلُ الحكمةِ: "الخائفُ لا عَيشَ له"
أحبتي: الأمنُ مطلبٌ عزيزٌ، فهو قِوامُ الحياةِ الإنسانيّةِ وأسَاسُ الحضارةِ المدنيّةِ، تتطَلّعُ إليه المجتمعاتُ، وتتسابَقُ لتحقيقِه السُّلُطاتُ، وتتَنافسُ في تأمينهِ الحكوماتُ، تُسَخَّرُ له الإمكاناتُ الماديّةُ والوَسائلُ العلميّةُ وتُحشَدُ لَه الأجهزةُ المدنيّةُ والعسكريّةُ، وتُستَنفَرُ له الطَّاقاتُ البشريّةُ.
في ظلِّ الأمنِ تحفَظُ النّفوسُ، وتُصانُ الأعراضُ والأموَالُ، وتأمَنُ السّبُلُ، وتُقامُ الحدودُ، ويكبُرُ العمرانُ، وتنمُو الثّرواتُ، وتتوافَرُ الخيراتُ، ويكثُرُ الحرثُ والنّسلُ. في ظلِّ الأمنِ تقومُ الدعوةُ إلى الله، وتُعمَرُ المساجدُ، وتُقامُ الجُمَعُ والجماعاتُ، ويسودُ الشّرعُ، ويفشو المعروفُ، ويقلُّ المنكَرُ، ويحصُلُ الاستقرارُ النفسيُّ والاطمئنانُ الاجتماعيُّ.
والأمنُ بالدينِ يبقَى، والدينُ بالأمنِ يقوى، فاحتَموا من المعاصي مخافةَ البلاءِ كما تحتمون بالطيّباتِ مخافةَ الداءِ.. وجعلَ اللهُ الأمنَ مقروناً بالإيمانِ فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
وأخيراً الأمن أوَّل مَطلَب طلَبَه إبراهيمُ عليه السلام من ربِّه سبحانه بأنْ يجعل هذا البلدَ آمِنًا يعني مكة (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]، لقد طلبَ نبي الله إبراهيمُ تحقيقَ الأمن؛ حتى تتحقَّقَ له عبادةُ الله على الوجْه الصحيح (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)؛ لأنَّ الإنسان في حال الفِتنة والقلاقل يشغله الخوفُ عن عبادةِ ربِّه، وربما زاغَ كثيرًا عن الحقِّ، ألم يخبر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنَّ المتمسِّك بدينه في آخِرِ الزمان حين تكثُرُ الفتن كالقابض على الجمر..؟!
حمى اللهُ بلادَنا من كلِ سوءٍ وحفظَ لنا أمننَا وولاةَ أمرِنا قائمينَ بدينِك محكمين لشرعِك.


المشاهدات 1606 | التعليقات 0