قيام ليال رمضان

الحمد لله الذي جعل الصلاة راحة للمؤمنين، ومفزعاً للخائفين، ونوراً للمستوحشين، والصلاة والسلام على إمام المصلين المتهجدين، وسيد الراكعين والساجدين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
إخوة الإيمان والعقيدة ... لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو التمسك بكتاب الله الكريم وسنة نبيه المطهرة , فحينما التزم أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم بمنهج نبيهم عزوا وشرفوا وسادوا العالم . ففتحوا الأقطار ناشرين كلمة التوحيد في البلاد , وهذا هرقل حاكم الروم حينما بلغه خبر قدوم المسلمين إلى بلاده أصبح يسأل عن أحوالهم فقيل له : رهبان بالليل وفرسان بالنهار.
نعم .. فقد ولى عهد النوم وبدأ عهد الجد والعمل, عهد التغيير والجهاد على رفعة الناس , منذ أن صدر التوجيه الرباني والأمر الإلهي إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابِه ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) وهكذا ففي هذه الآيات يحث ربُّنا على قيام الليل، وما ذلك إلا لأن القيام له آثار كبيرة وفوائد جمة , لذا شمر إمام المرسلين وقدوة العالمين عن ساعديه , وشد مئزره وقام حتى تفطرت قدماه . وبهذه الآيات أعد الله المؤمنين لقيادة البشرية وتغيير وجه التاريخ وأستاذية البشرية, وحدث فعلا التغيير الكبير لمعالم التاريخ , وعندما امتثلوا للأمر , ودخلوا مدرسة الليل يربون فيها أنفسهم , فكان ما أراد الله لهم من عز وشرف وتمكين .
فيا أيها الصائمون ... إن قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات
لقد رغَّب الرسول صلى الله عليه وسلم في القيام حيث حثنا عليه وبين أن فضله عظيم وأن لصاحبه شرفًا كبيرًا . وقد وصف أشراف هذه الأمة بأنهم حملة القرآن وأصحاب الليل الذين يقيمونه بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء . قال صلى الله عليه وسلم ( عليكم بقيام الليل فإنه من دأب الصالحين قبلكم ) . و سئل أي الأعمال أفضل !! فقال صلى الله عليه وسلم ( طول القيام ) وقال صلى الله عليه وسلم ( أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ) فقيام الليل يعتبر من أفضل الأعمال لذلك دل أمته عليه وحثها على الإسراع واغتنام الفرص من أجل تحقيقه والفوز بأجره الدنيوي والأخروي , لا إهماله والتغافل عنه كما هو ظاهر في زماننا هذا وفي أيام رمضان خاصة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ) قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.
عباد الله ... لقيام الليل فضل كبير وأجر عظيم لا يدركه إلا من وفق له، فقد مدح الله عباده المؤمنين الذين يقومون الليل، فقال ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) أصحاب الليل جُنوبُهم عن المَضاجع تَجافَت، وقلوبهم عن مطامع الدنيا تناءَت، وهِمَمهم عن سفاسف الأمور ارْتَفَعت، تَراهم باكين مُخبتين ( كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) فنالُوا بذلك جنات وعيونًا، وما كلُّ هذا إلاَّ لأنهم باتُوا لربِّهم سُجَّدًا يتضرَّعون.
قيام الليل سبب من أسباب دخول الجنة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( يا أيها الناس ! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ) في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن عمل يدخلني الجنة؟ فقال ( تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وصلاة الرجل في جوف الليل ).
قيام الليل سبب في إجابة السؤال والدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة ).
وما فُضِّلت صلاةُ الليل على غيرها من العبادات بعد الفرائض، إلاَّ لشرفها ولشَرف وقْتها، فأقرب ما يكون الله من عباده في الليل؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ( يَنزل ربُّنا - تبارَك وتعالى - كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثُلُث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستَجِيب له، مَن يَسألني فأُعطيه، مَن يَستغفرني فأَغفِر له ).
عباد الله ... قيام الليل هو دقائق الليل الغالية، هي مدرسة المُخلصين، كيف لا ! وهو جنَّة الله في أرضه للمؤمنين. الليل هو بداية الدعوات، ومنه يَستمد الدُّعاة وقودَ دعوتهم. في الليل تُسْكَب العَبَرات، في الليل يُتَقَرَّب إلى الله بأحسن الطاعات، الليل للمُذنبين وللذين هم لِما عند ربِّهم طامعين، فهو أنيسُ الطائعين، وأمَلُ المُذنبين، وبالليل يتمُّ لقاء المُحبِّين، الليل يَعشقه الراكعون والساجدون والذاكرون، والذين هم لربِّهم مُستغفرون، الليل فيه آيات للذين هم يَسمعون، الليل للذين هم بالخيرات مُسارعون، وهو خلوة التائبين، في الليل أقربُ ما يكون الله من عباده المؤمنين، بهذا نطَقَ سيِّد المُرسلين، وفي الليل يَغفر الله للمُسيئين، ويُعطي المحتاجين والسائلين من خزائن السموَات والأرَضين، ويُجيب المُضطرين، الليل فقط يَعرفه المُتيقِّظون، ويَغفل عنه أصحاب المُجون اللاهون، ولا يَستطيعه إلاَّ عباد الله المُخلصون، هو كَنز المُدَّخرين إلى يوم الدين، وبالليل يُحصَّل الآمانُ للخائفين، في الليل تَجري العيون، ويَتسابق فيه المُتسابقون ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ).
أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... يَكفي في فضْل قيام الليل أنه اقتداءٌ بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فعن عائشةَ أُمِّ المؤمنين - تُؤَكِّد ذلك رضي الله عنها - أنَّها قالت لرجلٍ: لا تَدَع قيامَ الليل؛ فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان لا يَدَعه، وكان إذا مَرِض - أو قالت: كَسِل - صلَّى قاعدًا. صلى الله عليه وسلم.
وإن سألتم عن أجر قيام الليل ! فقد أعدَّ الله لأصحاب القيام ما لا عين رأَتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشرٍ؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ( إنَّ في الجنة غُرفًا، يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدَّها الله لِمَن ألانَ الكلام، وأطْعَم الطعام، وتابَع الصيام، وصلَّى بالليل والناس نيامٌ.
وأنتم – يا عباد الله – في شهر رمضان المبارك .. فتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه ) فلا تفرطوا في بقية الأيام العشر الأخير من شهر العظيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المشاهدات 1362 | التعليقات 0