قواعد في الأزمات-12-11-1438هـ-ناصر الأحمد-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
أما بعدُ: فلِمَا تعيشه الأمةُ من أزماتٍ ونكباتٍ، وبلاءاتٍ وامتحاناتٍ، فهي بحاجةٍ ماسةٍ إلى قواعدَ وأُسُسٍ توجهُ مسارهَا الوجهةَ الصحيحةَ في ضوءِ منهجِ اللهِ وشرعِه ومنها:
أولا: حكمةُ اللهِ العظيمةُ في تقديرِه وتدبيرِه وأمرِه ونهيِه، فلا يقعُ شيءٌ إلا بعلمِه وأمرِه، لم يخلق شيئًا عبثًا، ولا شرًا خالصًا، اتُّهم النبيُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-في عرضهِ أمِنا عائشةُ-رضيَ اللهُ عنها-شهرًا فأنزلَ اللهُ: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُم]، وفرضَ اللهُ القتالَ، فكرهَه بعضُهم!، فأنزلَ اللهُ: [وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم]، والرجلُ قد يكرَه زوجتَه، ويطلبُ فراقَها!، فأنزلَ اللهُ: [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]، ويخفى علينا كثيرٌ من الأمورِ، لكنَّ اللهَ يعلمُها، ويختارُ لعبادِه المؤمنينَ خيرًا.
كادتْ قضيةُ فلسطينَ أن تُنسى، فقيض اللهُ لها الأبطالَ الصابرينَ، الصامدينَ المجاهدينَ، من أهلِنا في فلسطينَ، ورغمَ الآلامِ والجراحِ، والخسائرِ البشريةِ والماديةِ، وعدمِ التكافؤِ مع الصهيونيينَ في العددِ والعُدةِ والقوةِ، والخياناتِ الداخليةِ والخارجيةِ، وقفوا وما زالوا يقفونَ، فحركوا النفوسَ، ورفعوا الهممَ والعزائمَ، بعدَ أنْ كادتْ تموتُ تحتِ شعاراتِ السلامِ والتطبيعِ! وقفوا لينفضوا عن المسلمينَ غبارَ اليأسِ والنومِ، ويُذكروهم بقضيتِهم الأولى احتلالِ فلسطينَ، ويُبطِلوا مُخططاتِ الظلامِ، التي تريدُ جعلَ قضيةِ احتلالِ فلسطينَ للفلسطينيينَ، وهي قضيةُ كلِّ المسلمينَ.
ثانيًا: الاستعانةُ باللهِ ثم بالصبرِ والصلاةِ: قالَ-تعالى-:[يا أيها الذينَ آمنوا استعينوا بالصبرِ والصلاةِ إنَّ اللهَ معَ الصابرينَ]، وقالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-: "لمْ يبقَ من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنةٌ، فأعدّوا للبلاءِ صبرًا". ويصفُ الأيامَ بعدَه بأنها أيامُ الصبرِ، لأنَّ الصبرَ أساسُ الاستقرارِ والسلامَةِ في تجاوزِ الأزماتِ فيقولُ: "إنَّ مِن ورائِكم أيامَ الصبرِ، للمُسْتَمْسِكِ فيهنَّ يومئذٍ بما أنتمْ عليهِ أجرُ خمسينَ منكم، قالوا: يا نبيَّ اللهِ! أو منهمْ؟ قالَ: بلْ منكمْ". وبالصبرِ يُنَوِّرُ اللهُ البصائرَ والقلوبَ، فتستبينُ الأمورُ، والذينَ عاشوا حياةَ الصبرِ والمصابرةِ ذاقوا لذّتَها وقطفوا ثمرتَها، وتركتْ في نفوسهِم أثرًا نَعِموا به بقيةَ حياتِهم، قالَ عمرُ-رضيَ اللهُ عنه-: "وجدْنا خيرَ عيشِنا بالصبرِ"، وقالَ عليٌ-رضيَ اللهُ عنه-: "الصبرُ مطيةٌ لا تَكبو-لا تتعثرُ-"، إنَّ بينَ النصرِ والقوةِ والهزيمةِ والضعفِ صبرَ ساعةٍ، فمن صبرَ انتصرَ وغَلبَ، ومن عجزَ انهزمَ وفَنِيَ.
ثالثًا: حسنُ التعاملِ مع الأخبارِ: فإعلامُ كلِّ دولةٍ اليومَ ينشرُ كثيرًا من الأخبارِ الموجهةِ لخدمةِ مصالحِها السياسيةِ! بعيدًا عن الصدقِ والحيادِ، وعليه فإنَّ على المسلمِ أنْ يُمَحِّصَ ويدققَ فيما يقرأُ ويسمعُ ويرى: [إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا]، إنَّ معرفةَ الحقيقةِ وإنْ كانَ أمرًا صعبًا في هذا الوقتِ إلا أنَّه ليسَ مستحيلًا، فالذكيُّ يتعاملُ مع الأخبارِ بالنظر إلى عدةِ مصادرَ مستقلةٍ لها، والمقارنةِ بينها لمعرفةِ قدرِ التوافقِ والتعارضِ، ومن فقهِ التعاملِ مع الأخبارِ حسنُ النقلِ، واختيارُ ما يصلحُ نشرُه منها مما لا يصلحُ، فكما أنه ليس كلُّ ما يُقال يَصحُ، فليس كل ما يُعلمُ يُقال، قالَ-تعالى-: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا].
رابعًا: تربيةُ المسلمينَ على الشعورِ بعزتِهم وكرامتِهم رَغمَ الجراحِ: قالَ-تعالى-: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين]، لقد نزلتْ هذه الآيةُ وجيشُ المسلمينَ قد رجعَ من غزوةِ أُحُدٍ، وقد قُتلَ منهم سبعونَ، وجُرح فيها الرسول-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-، ومع ذلك يصفُهم ربُهم أنَّهم الأعلونَ، حتى لا تقتلَهم الحسرةُ، أو يحترقوا بنارِ الامتحانِ والابتلاءِ، إنَّ الأعداءَ يحاولونَ بإيحاءاتٍ منظمةٍ، وممارساتٍ إعلاميةٍ مدروسةٍ أن يُطيحوا بالأمةِ في دوائرِ اليأسِ والإحباطِ والسلبيةِ، أما حين تشعرُ النفوسُ المؤمنةُ بعزتِها وكرامتِها، فعندها تنطلقُ الطاقاتُ، وتتحركُ الإمكاناتُ وإنْ كانت ضعيفةً، وتُغيّرُ وجهَ التاريخِ، وتنطلقُ الأمةُ الجريحةُ لملاحقةِ عدوِها كما انبعثَ جيشُ أُحُدٍ الجريحُ لمطاردةِ قريشٍ في "حمراءِ الأسدِ".
على الأمةِ أنْ تردّدَ أهازيجَ النصرِ وإنْ كانت جريحةً، وأنْ تصرخَ متحديةً عدوَها وإنْ كانتْ سجينةً، فالإسلامُ ليسَ محصورًا برجلٍ فيُقتلُ! أو مؤسسةٍ فتُغلقُ، أو هيأةٍ فتُحجّمُ، أو دولةٍ فتُحاربُ، الإسلامُ نسيمٌ يعمُّ الأرجاءَ، وشمسٌ لا تحجُبُها يدٌ شلاءُ: [وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُون].
خامسًا: بعثُ الأملِ في الأمةِ، وأن يُفتح لها نوافذُ من النورِ حتى لا يقتلَها الظلامَ، فبينما الصحابةُ-رضيَ اللهُ عنهم-يحفرونَ الخندقَ إذْ عرضتْ لهم صخرةٌ شديدةٌ، فجاؤوا إلى رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-فأخبروه، فقامَ فنزلَ في الخندقِ وقد ربطَ على بطنهِ حجرًا من الجوعِ، ولهم ثلاثةٌ أيامٍ لمْ يأكلوا شيئًا، فأخذَ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-المعولَ-وهو أداةٌ للحفرِ والنقرِ يسميه بعضُهم الفاروع-ثم ضربَ الصخرةَ الضربةَ الأولى، فتطايرَ منها شررٌ أضاءَ ذاك الجوَ المظلمَ، وهو يقولُ: "اللهُ أكبرُ: أُعطيتُ مفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحمراءَ الساعةَ-الآن-، ثم ضربَها الثانيةَ فقالَ: اللهُ أكبرُ أُعطيتُ مفاتيحَ فارسَ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنَ أبيضَ الساعةَ، ثم ضربَ الثالثةَ وقالَ: اللهُ أكبرُ، أُعطيتُ مفاتيحَ اليمنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ صنعاءَ من مكاني الساعةَ".
ويقالُ للمسلمينَ وهم في ظلِ هذهِ الأزماتِ العصيبةِ: أبشروا وأمّلوا خيرًا، فإنَّ مع العسرِ يُسرًا، وإنَّ الأمةَ في آلامِ المخاضِ وقدِ اقتربتْ وِلادةُ جيلِ النصرِ فيها، وإنَّ الليلَ اشتدَّ ظلامُه وقد آذنَ ببزوغِ الفجرِ، فرددْ أذانَ بلالٍ، وأَنشدْ أُنشودةَ النصرِ، وملحمةَ الفتحَ، ومنْ علمَ أنَّ مُصابَه سيزولُ هانَ عليه احتمالُه، وتسلّى بانتظارِ زوالِه، وانبعثتْ نفسُه بالأملِ، ونشطَ بانتظارِ الفرجِ في العملِ.
مهما دجا الليلُ فالتاريخُ أنبأَني*أنّ النهارَ بأحشاءِ الدُّجى يَثِبُ
إني لأسمعُ وقعَ الخيلِ في أُذني*وأُبصِرُ الزمنَ الموعودَ يقترِبُ
إنَّ ظُلمةَ الليلِ الموحشةَ، سَكَنٌ للنائمينَ، وسَلوةٌ للقائمينَ، وأُنْسٌ للذاكرينَ.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
أما بعد: فمما يعينُ المسلمَ في الفتنِ والأزماتِ:
سادسًا: أنها فرصةٌ للمراجعةِ والتربيةِ الجادّةِ: فالشدائدُ تَمِيزُ أقوياءَ الإيمانِ عن غيرِهم، و تَمِيزُ الصادقينَ عنِ الكاذبينَ، والمصائبُ والأزماتُ هي المدرسةُ الكبرى التي تُخَرِّجُ القادةَ والمجددينَ والمصلحينَ، فالذين ثبتوا مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-في مكةَ وأصابهم من الضرِ والأذى ما أصابَهم هم قادةُ الفتوحاتِ بعدَ ذلك، والتمكينُ لا يتحققُ إلا على جسرٍ من الابتلاءاتِ والمحنِ، التي تَصقُلُ النفوسَ وتُخرِجُ خبثَها، سُئِلَ الشافعيُ-رحمه اللهُ-: "أيهما أفضلُ للرجلِ: أنْ يُمَكَّنَ أو يُبتلى؟ قال: لا يُمَكَّنُ حتى يبتلى".
لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُّهم*الجودُ يُفْقِرُ والإِقدامُ قتّالُ
قالَ-تعالى-: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب]، يجب أن يترفعَ المسلمونَ عن حياةِ الترفِ المُلهي، والسرفِ المُطغي، لأنها تدمرُ الفردُ، وتهلكُ الأمةَ.
سابعًا: مسؤوليةُ إنقاذِ الأمةِ مسؤوليةُ الجميعِ: وليستْ مسؤوليةَ شخصٍ أو جهةٍ فقط، فلا يصحُ أنْ يعيش فِئاتٌ من الأمةِ على هامشِ الحياةِ والأحداثِ، مكتوفي الأيدي، لا في العيرِ ولا في النفيرِ، بحجةِ انتظارِ بطلٍ موعودٍ!، أو قائدٍ مظفرٍ!، أو رُؤى، أو خوارقَ بلمحةِ بصرٍ تَقْلبُ الأحداثَ وتغير مَجراها، فليس ذلك شأنُ المؤمنِ الحقيقيِ الصادقِ، بل شأنهُ أنْ يواجَه الواقعَ بالعملِ الجادِ، وبذلِ الأسبابِ، وفي الحديثِ: "إنْ قامتْ الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةٌ فلْيَغرسْها".
إنَّ الجميعَ مُطالبٌ بالمشاركةِ في نشرِ الأمنِ، ودرءِ الفتنةِ، وصناعةِ النصرِ، بالتغييرِ في داخلِ نفسِ كلِّ فردٍ منا، والانتصارِ على شهواتِها ولذائذِها، والعودةِ بها إلى اللهِ، والتوبةِ في كلِّ وقتٍ، إنَّ الأمنَ لا يُسْلبُ، والنصرَ لا يتأخرُ إلا بسببٍ من أنفسِنا، [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير].
ثامنًا: اللجوءُ إلى اللهِ: والتسليمُ لهُ والتفويضُ إليهِ، قبلَ فعلِ الأسبابِ المقدورِ عليها وبعدَها، يُريحُ النفوسَ، ويَربِطُ على القلوبِ، لتكونَ في أوقاتِ الأزماتِ والشدائدِ والمحنِ أثبتَ ما تكونُ، فتلجأَ إلى اللهِ، وتلوذَ بجنابِه، وتحتمي بحماه، وتتوجهَ إليهِ في كلِّ ما يصيبها من ظلمٍ أو عُدوانٍ، أو فقرٍ أو حِرمانٍ، أو مرضٍ في الأبدانِ، أو غيرِ ذلك مما لا يَمْلِكُ كشفَه وإزالتَه إلا هو-سبحانَه-لأنَّه الركنُ الشديدُ: [ٌقُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَم]، [أَمَّن يُجِيبُ المضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض] وإذا لمْ يكنْ عونُ اللهِ، وُكِلَ الإنسانُ إلى نفسِه فهلكَ.
إذا لمْ يكنْ عونٌ من اللهِ للفتى*فأولُ ما يجني عليه اجتهادُه
إنَّ الواجبَ على المؤمنينَ حين تُرجُفُ بهم الأراجيفُ، وتشاعُ فيهم الشائعاتُ، أنْ يلجؤوا إلى اللهِ، ويزدادوا إيمانًا به وتوكلًا عليه، لتعظمَ نفوسُهم، وتقوى عزيمتُهم، وتطمئنَ قلوبُهم: [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيل].
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضَيِّقٌ*عليَّ فما يَنْفَكُ أنْ يَتَفَرَجَا
ورُب فتًى سُدّتْ عليه وُجوهُهُ*أصابَ له في دعوةِ اللهِ مَخرَجا
المرفقات
في-الأزمات-12-11-1438هـ-ناصر-الأحمد-الملتقى-بت
في-الأزمات-12-11-1438هـ-ناصر-الأحمد-الملتقى-بت
في-الأزمات-12-11-1438هـ-ناصر-الأحمد-الملتقى-بت-2
في-الأزمات-12-11-1438هـ-ناصر-الأحمد-الملتقى-بت-2