قل نار جهنم أشد حرا
عبدالرحمن اللهيبي
الْحَمْدُ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْـَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: إن مَا نَرَاهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا فِي بعض المواسم من اعْتِدَالِ الْأَجْوَاءِ، وَهُطُولِ الْأَمْطَارِ، واخضرار البلادِ .. لَهُوَ مُذَكِّرٌ للمؤمن بِالْجَنَّةِ ونعيمها
وَمَا نَرَاهُ فِي موسم الصيف من اشتداد الحر ، ولهيب الشمس ، لهو مُذَكِّر لنا بِنَارِ جَهَنَّمَ ، ودنو الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة.
وإِنَّ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِأَحْوَالِ دُنْيَاهُ لِأُخْرَاهُ، فَهُوَ مِنَ الْغَافِلِينَ، فقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يَعْتَبِرُونَ بما يحدث لهم في الدنيا من أحوال.. فيتذكرون بها مَا يَقَعُ لهم فِي الْآخِرَةِ من أهوال ..
فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا دَخَلَ حَمَّامَ الْبُخَارِ فرأى ما فيه مِنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ والْبُخَارِ تذكر بذلك بِحَرَارَةِ النَّارِ، فقد جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ؛ يُذْهِبُ الدَّرَنَ وَيُذَكِّرُ بالنَّارَ!
وَصَبَّ بَعْضُ الصَّالِحِينَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً فَوَجَدَهُ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ، فَبَكَى، فقالوا ما يبكيك؟ فقَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}
أَيُّهَا المسْلِمُونَ: وَإِنَّ فِي حَرِّ الصَّيْفِ الذي نعيشه هذه الأيام لَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وعبرة للصالحين ، فحينما نرى المرءَ وهو يمشي في حر الظهيرة حاسر الرأس، ودماغه يكاد يغلي من حرِّ الشمس ، ووجهه يحترق بلهيبها ؛ فَإِذا كانت هَذِهِ شَّمْسُ الدنيا التِي يُؤذِينَا حَرُّهَا مع ما بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا من الْمَسَافَاتِ الْعَظِيمَةِ، فكيف بها وهي تدنو يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رُؤُوسِ الْخَلائِقِ قدر ميل ؛ يَقُولُ ﷺ (تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وإذا كنا أيها المؤمنون، نتخذ الأسباب لنتقي حر الصيف هذه الأيام بإصلاح أجهزة التكييف ، وشرب الماء البارد ، والتنقل عبر وسائل المواصلات المكيفة ، والسفر إلى المصائف الباردة ، فإن اتخاذ العبد للأسباب في اتقاء حر جهنم أولى وأحرى ، وقد رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، للتوقي من حرارتها ، فأبكاه ذلك المشهد ، حين لا يمكن الفرار من حر النار يوم القيامة إلا بالعمل الصالح
تَـفِـرُّ مِـنَ الْهـَجِـيرِ وَتَتَّقِيهِ *** فَهَـلا مِنْ جهنَّم قَدْ فَرَرْتَــا
فَمَنْ تَأمَّلَ ذلك بقلب مؤمن وهو يستحضر هم الآخرة ؛ بَادَرَ إِلَى مَرْضَاتِ رَبِّهِ؛ والعمل بالطاعات التي يتقي بها دنوَ الشمس وحرَّ جهنم، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ العظيم مِمَّنْ قَالَ ﷺ فِيهِمْ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ) جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُمْ.
وقد ابتلي الناس على عهد النبي ﷺ بالخروج للجهاد في غزوة تبوك ، وكانت في زمن الصيف ، واشتداد الحرِّ ، ولهيب الشمس ، وحين طابت الثمار ، فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد المنافقون ، فقال الله فيهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ .
فأهل الإيمان يا مسلمون لهم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ زمن الصيف عِبَرٌ وَعِظَات ، واحتساب للأجر فيما فرض عليهم من الواجبات ، فتراهم يحتسبون الأجر في الخروج إلى المساجد للصلوات ؛ عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ لَا أَعْلَمُ رَجُلًا أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ صَلَاةٌ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ، وَفِي الرَّمْضَاءِ، قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرُجُوعِي ..، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكذلك أيضا ترى الصالحين يحتسبون الأجر في صَوْم التَّطَوُّعِ فِي أيام الصيف ، إن لم يكن عليهم في ذلك ضرر ، فقد خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راع، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال له ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديدِ حرُّه وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال: نعم أبادر أيامي الخالية ، أي رجاء أنْ يُقال له يوم القيامة : كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ
ثم ومِنْ أَعْظَمِ الطَاعَاتِ وأجل القربات أيها مسلمون في الْحَرِّ الشَّدِيدِ: سَقْيُ الْمَاءِ، سَوَاءً بِحَفْرِ الْآبَارِ ، أَوْ تَسْبِيلِ الْبَرَّادَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَطُرُقِ النَّاسِ، أَوْ تَوْفِيرِ الْمِيَاهِ الْمُعَلَّبَةِ الباردة ، وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ يَحْتَاجُونَهُا كَالْعُمَّالِ وَنَحْوِهِمْ؛ فَإِنَّ صَدَقَةَ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الصَّدَقَاتِ وأكثرها ثوابا وأجرا، سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الْمَاءُ
فمن أراد منكم يا مسلمون مغفرة ذُنُوبه فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ الْمَاءِ، فإِذَا كان الله قد غفر ذُنُوبَ البغي التي سَقَت كلبا فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ سَقَى مُؤْمِنًا؟!
كما أن أهل الصدقة يستظلون بظل صدقتهم يوم القيامة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم قال: كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس )
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى عِبَادِهِ فِي هَذَا الزَّمَنِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ التَّبْرِيدِ فِي تكييف بُيُوتِهِمْ ومراكبهم، فَلَا يَشْعُرُونَ مَعَهَا بِشدة الحرارة في زمن الصَّيْفِ، وَلَوْلَا مَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ وَسَائِلِ التَّبْرِيدِ لَكَدَّرَ الْحَرُّ معيْشَتهُمْ، وَأَرْهَقَ أَجْسَادَهُمْ
فلَوْ انقطعت الْكَهْرَبَاءُ عنهم سَاعَةً ، لعرفوا قَدْرَ هَذِهِ النِّعمة الْعَظِيمَةِ والَّتِي يَغْفُلُونَ عَنْ شُكْرِهَا.
وَإن مِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ: رَحْمَةُ مَنْ يَعْمَلُونَ فِي الْهَاجِرَةِ، وَيَتَعَرَّضُونَ لِلشَّمْسِ الْحَارِقَةِ
فَوَاجِبٌ عَلَى مَنْ لَدَيْهِ عَمَالَةٌ تَخُصُّهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ اضْطَرَّتْهُمُ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَمَلِ فِي حر الظهيرة، وَذلك بأن يُخَفِّفَ عَنْهُمْ العمل فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، بِسَقْيِهِمْ الماء ، وَتَقْلِيلِ سَاعَاتِ تَعَرُّضِهِمْ لِلشَّمْسِ، وتكييف مساكنهم ، فارحموا يا مسلمون العمالة الكادحة ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، وارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء.
ثم اعلموا أيها المؤمنون أن المرء كما يجتهد في الدنيا في وقاية نفسه وأهله وولده من حر الشمس .. فعليه أن يكون أكثر اجتهادا وسعيا في وقايتهم من حر جهنم ، وذلك بتربيتهم على فعل الواجبات وترك المعاصي والمحرمات فالله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُجِيرَنَا وَوَالِدِينَا وَذُرِّيَّاتِنَا وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ نار جهنم، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ... فقد أمر بذلك ربكم ، فقال عز من قائل ..
المرفقات
1719543836_الحر الشديد.. عبر وأحكام (مشكولة).doc