قل للمفرط يستعدّ
سامي بن محمد العمر
أما بعد:
الرياح، والمياه، والحشرات، والحجارة، والصيحة، والزلزلة، والخسف، والصواعق والأوبئة، والرعب...
كلها جنود الله في هذا الكون الفسيح..
الكونُ الذي أوجد اللهُ فيه مخلوقًا ذا عقل وفهم، وقدرة وإرادة، وزوده بالعلوم والمعارف، وسخر له ما فيه ليهنأ بالعيش، ويعمره بالتوحيد للخالق الرازق.
ولقد عاش هذا المخلوق وتكاثر، ومرت على جنسه أعوام وقرون، حتى نبتت فيه نابتة سوء سقاها الشيطان فتكبرت وتجبرت، وكفرت بخالقها ورازقها، فأرسل لهم رسله لعلهم ينتهون، وعن غيهم يرجعون، فأبى الأشقياء منهم إلا العنادَ والصدود، واختاروا الكفر والجحود...
وحينها بلغ الإعذار وتمَّ الإنذار... وحلّ موعد التأديب والعذاب، والنكال والعقاب... {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال}
حينها يأمر الله ما شاء من جنده: كبيرا كان أم صغيرا، لطيفا كان أم شديدا، مشاهدا كان أم غير مشاهد..
يأمرُ ما كانوا يرونه ظواهر طبيعية، وأموراً حسية.. أن تخرج عن طبيعتها المعتادة - ولو للحظات يسيرة - لتريهم شيئًا من بطش الله وشدته وسطوته:
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 101، 102]
"فالماءُ أغرق أهل الأرض كلَّهم حتى علا فوق رأس الجبال؟
والريحُ العقيم سلطت على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية.
والصيحةُ أرسلت على قوم ثمود حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟
وقرى قوم لوط رُفعت حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبت عليهم، فجُعل عاليها سافلها، ثم أتبعوا حجارة من السماء، فجُمع عليهم من العقوبة ما لم يُجمع على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟
وسحبُ العذاب كالظلل أرسلت على قوم شعيب فلما صارت فوق رؤوسهم أمطرت عليهم نارا تلظى؟
والبحرُ يغرق فيه فرعون وقومه، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟
والخسفُ يغيب قارون وداره وماله وأهله؟
والصيحةُ كذلك تهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وقرونٌ من بعد نوح عليه السلام أهلكت بأنواع العقوبات، ودمرت تدميرا؟
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17]
عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى"([1]).
(ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره)
هذا مربط الفرس، وسر المسألة، وهذا محل النظر والتفكر والاعتبار والاتعاظ.
إن تبدل الأحوال من الله نتيجةُ تغيير العباد لها في أنفسهم وهو القائل سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11]
وإن تسلط جند الله على الناس نتيجةُ تجبرهم، وإن جريان العقوبات فيهم حصيلةُ تضييعهم وتخبطهم {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) } [الروم: 41]
وأهل الطغيان والفجور في كل زمان لا يأبهون بتحذيرات الرسل وأتباعهم، ولا يلتفتون لكلامهم وإنذاراتهم، وإنما يستعجلون العذاب استهتارا، وينادون به سخرية وعنادا ..
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32]
وكما قال قوم شعيب عليه السلام {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]
ولكن لله حكمة أن يملي لهم في جبروتهم وطغيانهم حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وجاءهم عذابه من حيث لا يشعرون:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53]
وتأملوا عباد الله ونحن في هذه الأزمان المتأخرة كيف يخبرنا عن واقع أمم تقدمتنا، ومصيرِ أقوام سبقتنا، وكيف شابهت أحوالنا أحوالهم، وقاربت فعالنا فعالهم؛ والله يقص علينا لنعتبر، وعن غيهم ننتهي وننزجر..
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } [الأنعام: 42 - 47]
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) } [القصص: 58، 59]
أَيْقَظَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّقْدَةِ، وَذَكَّرَنَا الْمَوْتَ وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ، وَأَلْهَمَنَا شُكْرَهُ عَلَى النِّعَمِ وَحَمْدَه.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإن نصوص الوحي طافحةٌ بأن النعم لا تزول عن أحد إلا بشؤم معصيته لله، ولا تدوم له إلا بقدر شكره لله، وأن البلاء إذا حلّ لم يرفعه إلا العودة إلى الله، والأخذ بأسباب النجاة الشرعية والحسية..
وحيث هبت الأمم اليوم لمواجهة هذا الوباء بما علمها الله من أسباب الوقاية والعلاج؛ فإن بيد أهل الإيمان أسباباً أقوى ودواءً أبقى: بالتوبة إلى الله والانتهاء عن مبارزته بالذنوب، والإلحاح بالدعاء إلى علام الغيوب أن يكشف الغمة ويرفع البلاء {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]
فطوبى لمن استفاد من هذه النذر وعاد، وطوبى لمن سمع النداء ففاء، وطوبى لمن أسرع بولوج بابٍ بلا حُجَّاب، وهذا هو الباب:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}
وإذا قَبِلنا الله تائبين، وأزلفنا مع حزبه المفلحين، فما الموت بعد ذاك بمخيف، ولا حب الدنيا للمتقين بأليف..
(قُلْ لِلْمُفَرِّطِ يَسْتَعِدُّ ... مَا مِنْ وُرُودِ الْمَوْتِ بُدُّ)
(قَدْ أَخْلَقَ الدَّهْرُ الشَّبَابَ ... وما مضى لا يسترد)
(أو ما يَخَافُ أَخُو الْمَعَاصِي ... مَنْ لَهُ الْبَطْشُ الأَشَدُّ)
(فَإِلامَ يَشْتَغِلُ الْفَتَى ... فِي لَهْوِهِ وَالأَمْرُ جَدُّ)
(يَا مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ يُقِيمَ بِهِ... وَحَادِي الْمَوْتِ يَحْدُو)
(وَتَرُوحُ دَاعِيَةُ الْمَنُونِ ... عَلَى مُؤَمِّلِهَا وَتَغْدُو)
(يَخْتَالُ فِي ثَوْبِ النَّعِيمِ ... وَدُونَهُ قَبْرٌ وَلَحْدُ)
(وَالْعُمْرُ يَقْصُرُ كُلَّ يَوْمٍ ... ثُمَّ ما فِي الآمَالِ مد)
اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل شر ومكروه وادفع عنه الغلاء، والوباء وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن .....
اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، ومردا غير مخز ولا فاضح..
"اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ"
([1]) مستفاد من الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء (ص: 44) بتصرف