قطرة من بحر أبي بكر (رضي الله عنه)
هلال الهاجري
1435/01/10 - 2013/11/13 13:03PM
الحمدُ للهِ عزَّ واقتَدَر، وعَلا وقهَر، لا محيدَ عنه ولا مفرّ، أحمدُه سبحانَه وأشكُره فقد تأذَّنَ بالزيادةِ لمن شكرَ، وأتوبُ إليه وأستَغفرُه فهو يقبَلُ توبةَ عبدِه إذا أنابَ واستغفَر، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً تُنجِي قائلَها يومَ العرضِ الأكبرِ، وأشهدُ أنّ سيِّدَنا ونبيَنا محمَدًا عبدُ اللهِ ورسولُه سيّدَ البشرِ، الشافعَ المُشفَّعَ في المحشرِ، صلّى اللهُ وسلَّمَ وبَارَكَ عليه وعلى آلِه الأخيَارِ الطُهَرِ، وأصحابِه السادةِ الغُرَر، والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا ما اتّصَلت عينٌ بنظرٍ، وأذُنٌ بخبرٍ .. أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين).
إن الحديثَ عن الصادقينَ العظماءِ .. حديثٌ يُجدِّدُ في الأمةِ الدِماءَ ..وحيثُ أن هذه الأمةَ خيرُ الأممِ .. تربَّعَ صادِقوها في المجدِ أعلى القِمَمِ ..وأعظمُ هؤلاءِ الصادقينَ هو الصدِّيقُ الأكبرُ .. الذي هو في سماءِ الصدقِ القَمَرُ ..وهو في صحراءِ الوفاءِ المَطَرُ .. إنه الصدِّيقُ والصَديقُ والحبيبُ والخليفةُ أبو بكرٍ .. في سيرتِه (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُوبَكْرٍآخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ –أي خاصَمَ-) فَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -أي أغضبتُه- ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ)، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَنَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ –أي تذهبُ نضارتُه من الغضبِ- حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ .. وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي .. فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي،فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا).
كانَ أبو بكرٍ رجلاً مُتميّزاً حتى في إسلامِه .. فحينَ أخبرَه النبيُ صلى اللهُ عليه وسلمَ بأنه رسولٌ من ربِ العبادِ .. ليتركَ عبادةَ الأوثانِ وما كانَ عليه الأباءُ والأجدادُ .. ويعبدَ اللهَ وحدَه لا شريكَ له .. فماذا كانَ موقفُه من هذا القرارِ المصيري الذي سيُغيّرُ مجرى حياتِه؟ .. قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: (مَا عَرَضْتُ الإِسْلامَ عَلَى أَحَدٍ إِلا كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ أَوْ تَرَدُّدٌ، غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ) .. فكيفَ لا تكونُ له تلكَ المكانةُ الغاليَةُ.. والمنزلةُالعاليَةُ.
لقد اجتمعَ في أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه تلكَ الأخلاقُ الفاضلةُ التي كانت في رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. فلما جاءَ النبيُ عليه الصلاةُ والسلامُ خائفاً من غارِ حراءٍ ترجفُ بوادرُه قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رضيَ اللهُ عنها: (كَلا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ، أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) .. ولما أرادَ أبو بكرٍ الهجرةَ إلى الحبشةِ قَالَ لَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ: (إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) .. فسبحانَ من أعطاهُ من الصفاتِ كما أعطى أحبَ خلقِه إليه .. حتى كأنهما رُوحٌ واحدةٌ في جَسدينِ.
يا أهلَ الإيمانِ ..
إن كانَ من المسلمينَ من يخجلُ إذا سُئلَ عن تعددِ الزوجاتِ أو قطعِ يدِ السارقِ أو أحكامِ المرأةِ في الإسلامِ .. فاسمعوا إلى هذا السؤالِ المُحرجِ الذي وجَّهَهُ الكفارُ لأبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه .. قَالَتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: (لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ النَّاسَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَفُتِنُوا بِذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟، قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ وَرَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) إنه اليقينُ .. في قلوبِ الصادقينَ.
وانصِتوا إلى ابنِ عمِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وهو يُثني على أهلِ الفضْلِ .. خَطَبَ عليُ بنُ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ يوماً فقالَ: (يا أيُّها النّاسُ، منْ أشجَعُ النّاسِ؟، فقالوا: أنتَ يا أميرَالمُؤْمنينَ ..فقالَ: أمّا إنّي ما بارزَني أحدٌ إلاّ انتصّفْتُ منهُ، ولكنْ هوَ أبوبكرٍ، وذلكَ إنّا جَعَلنا لِرسول ِاللّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عريشاً يومَ بدرٍ، فقلنا: منْ يكونُ معَ رسول ِاللّه ِلئلاّ يَهوي إليْهِ أحدُ المشركينَ؟ فواللّهِ، ما دنا مِنّا أحدٌ إلاّ أبو بكر ٍشاهراً بالسّيْف ِعلى رأس ِرسول ِاللّهِ، لا يَهوي إليْهِ أحدٌإلاّ أهْوى إليْهِ، فهذا أشْجَعُ النّاس ِ.. قالَ: ولقدْ رأيتُ رسولَ اللّهِ وأخَذَتْهُ قُريْشٌ–أي في مكةَ قبلَ الهجرةِ-، فهذا يُحادُّهُ، وهذا يُتَلْتِلُهُ، ويقولونَ: أنتَ جعلتَ الآلهة َإلهاً واحداً؟! فواللّهِ، ما دنا منّا أحدٌ إلاّ أبو بكرٍ، يَضربُ هذا، ويُجاهدُ هذا، ويُتَلْتِلُ هذا، وهو يقولُ: ويْلَكُمْ أتقْتُلونَ رجلاً أن يقولَ ربّيَ الله؟ .. ثُمّ رفعَ عليّ ٌبُرْدَة ًكانت عليهِ فبكى حتّى اخْضَلّتْ لِحيَتُهُ، ثمّ قالَ: أنْشِدُكُمُ اللّهَ، أمُؤْمِنُ آل ِفِرْعَونَ خيرٌ أمْ هوَ؟ فسكتَ القومُ.
فقالَ عليٌّ: فواللّهِ لَساعة ٌمن أبي بكر ٍخيرٌ منْ مِلْءِ الأرض ِمن مؤمن ِآل ِفرعونَ، ذاكَ رجلٌ يكتُمُ إيمانَهُ وهذا رجلٌ أعلنَ إيمانَهُ.
أخبروني .. من ذا الذي يستطيعُ أن يصفَ حُبَّ أبي بكرٍ للنبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ؟ .. فعندما جاءَ النبيُ عليه الصلاةُ والسلامُ وأخبرَ أبا بكرٍ بأنه أُذِنَ له بالهجرةِ وأنه صاحبُه فيها .. قَالَتْ عَائِشَةُ رضيَ اللهُ عنها: فَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي، وَمَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ .. فخرجَ معه كما وصفَهم اللهُ تعالى: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .. قالَ السهيليُ رحمَه اللهُ: ألا ترى كيفَ قالَ: لا تحزنْ ولم يقلْ لا تخفْ؟ .. لأن حزنَه على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ شَغله عن خوفِه على نفسِه .. ثم يمكثُ معه في الغارِ ثلاثةُ أيامٍ .. فما أجملَ الغارِ.. إذا كانُ الرفيقُ فيه هو النبيُ المُختارُ عليه الصلاةُ والسلامُ.
حتى ابنَ الخطابِ .. يعرفُ أن أبابكرٍ هو خيرُ الأصحابِ .. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ رحمَه اللهُ: كَأَنَّ رِجَالاً عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَلُّوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَنْطَلِقَ إِلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا لَكَ تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْ وَسَاعَةً خَلْفِي؟)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذَكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذَكَرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟)، قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا كَانَتْ لِتَكُونَ مِنْ مُلِمَّةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِي دُونَكَ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، فَدَخَلَ وَاسْتَبْرَأَهُ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ.
كانَ أبو بكرٍ أعلمَ الناسِ بمُرادِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ)، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ، إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، هي الشهادةُ التي تنجي من العذابِ يومَ القيامةِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أما بعد:
فلكم أن تتخيلوا ذلك اليومُ الذي ماتَ فيه رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ .. حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا.
يقَولُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْلَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ كُلُّ شَيْءٍ) .. فإذا هذا كانَ هو شعورُ الناسِ .. فكيفَ إذاً هو شعورُ أبي بكرٍ .. الصاحبِ القريبِ .. والمستشارِ الحبيبِ .. كأن روحَه هي التي خرجتْ من جسدِه .. فأيُ يومٍ ذلك الذي لن يراه فيه.. وأيُ حياةٍ تلك التي ليسَ فيها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. ولكن ما يجعلُ المصيبةَ العظمى تهونُ ..هو قولُه تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
ثُمَ خَرَجَ أَبَو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى الناسِ فَتَشَهَّدَ، ثُمَ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، قالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ.. وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا) .. فإن كانَ رسولُ اللهِ قد ماتَ .. فلا زالَ صاحبُه على ما عَهِدَ من الثباتِ.
وهنيئاً له بُشارةُ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ حينَ دخلَ بِئْرَ أَرِيسٍ فَجَلَسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عِنْدَ الْبَابِ وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: (ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)، فَأَقْبَلَ حَتَّى قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ .. وواللهِ إن حُبَّ أبي بكرٍ من التوفيقِ والإيمانِ .. وبُغضَه من النِفاقِ والخُذلانِ.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين).
إن الحديثَ عن الصادقينَ العظماءِ .. حديثٌ يُجدِّدُ في الأمةِ الدِماءَ ..وحيثُ أن هذه الأمةَ خيرُ الأممِ .. تربَّعَ صادِقوها في المجدِ أعلى القِمَمِ ..وأعظمُ هؤلاءِ الصادقينَ هو الصدِّيقُ الأكبرُ .. الذي هو في سماءِ الصدقِ القَمَرُ ..وهو في صحراءِ الوفاءِ المَطَرُ .. إنه الصدِّيقُ والصَديقُ والحبيبُ والخليفةُ أبو بكرٍ .. في سيرتِه (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُوبَكْرٍآخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ –أي خاصَمَ-) فَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -أي أغضبتُه- ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ)، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَنَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ –أي تذهبُ نضارتُه من الغضبِ- حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ .. وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي .. فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي،فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا).
كانَ أبو بكرٍ رجلاً مُتميّزاً حتى في إسلامِه .. فحينَ أخبرَه النبيُ صلى اللهُ عليه وسلمَ بأنه رسولٌ من ربِ العبادِ .. ليتركَ عبادةَ الأوثانِ وما كانَ عليه الأباءُ والأجدادُ .. ويعبدَ اللهَ وحدَه لا شريكَ له .. فماذا كانَ موقفُه من هذا القرارِ المصيري الذي سيُغيّرُ مجرى حياتِه؟ .. قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: (مَا عَرَضْتُ الإِسْلامَ عَلَى أَحَدٍ إِلا كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ أَوْ تَرَدُّدٌ، غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ) .. فكيفَ لا تكونُ له تلكَ المكانةُ الغاليَةُ.. والمنزلةُالعاليَةُ.
لقد اجتمعَ في أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه تلكَ الأخلاقُ الفاضلةُ التي كانت في رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. فلما جاءَ النبيُ عليه الصلاةُ والسلامُ خائفاً من غارِ حراءٍ ترجفُ بوادرُه قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رضيَ اللهُ عنها: (كَلا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ، أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) .. ولما أرادَ أبو بكرٍ الهجرةَ إلى الحبشةِ قَالَ لَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ: (إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) .. فسبحانَ من أعطاهُ من الصفاتِ كما أعطى أحبَ خلقِه إليه .. حتى كأنهما رُوحٌ واحدةٌ في جَسدينِ.
يا أهلَ الإيمانِ ..
إن كانَ من المسلمينَ من يخجلُ إذا سُئلَ عن تعددِ الزوجاتِ أو قطعِ يدِ السارقِ أو أحكامِ المرأةِ في الإسلامِ .. فاسمعوا إلى هذا السؤالِ المُحرجِ الذي وجَّهَهُ الكفارُ لأبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه .. قَالَتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: (لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ النَّاسَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَفُتِنُوا بِذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟، قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ وَرَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) إنه اليقينُ .. في قلوبِ الصادقينَ.
وانصِتوا إلى ابنِ عمِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وهو يُثني على أهلِ الفضْلِ .. خَطَبَ عليُ بنُ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ يوماً فقالَ: (يا أيُّها النّاسُ، منْ أشجَعُ النّاسِ؟، فقالوا: أنتَ يا أميرَالمُؤْمنينَ ..فقالَ: أمّا إنّي ما بارزَني أحدٌ إلاّ انتصّفْتُ منهُ، ولكنْ هوَ أبوبكرٍ، وذلكَ إنّا جَعَلنا لِرسول ِاللّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عريشاً يومَ بدرٍ، فقلنا: منْ يكونُ معَ رسول ِاللّه ِلئلاّ يَهوي إليْهِ أحدُ المشركينَ؟ فواللّهِ، ما دنا مِنّا أحدٌ إلاّ أبو بكر ٍشاهراً بالسّيْف ِعلى رأس ِرسول ِاللّهِ، لا يَهوي إليْهِ أحدٌإلاّ أهْوى إليْهِ، فهذا أشْجَعُ النّاس ِ.. قالَ: ولقدْ رأيتُ رسولَ اللّهِ وأخَذَتْهُ قُريْشٌ–أي في مكةَ قبلَ الهجرةِ-، فهذا يُحادُّهُ، وهذا يُتَلْتِلُهُ، ويقولونَ: أنتَ جعلتَ الآلهة َإلهاً واحداً؟! فواللّهِ، ما دنا منّا أحدٌ إلاّ أبو بكرٍ، يَضربُ هذا، ويُجاهدُ هذا، ويُتَلْتِلُ هذا، وهو يقولُ: ويْلَكُمْ أتقْتُلونَ رجلاً أن يقولَ ربّيَ الله؟ .. ثُمّ رفعَ عليّ ٌبُرْدَة ًكانت عليهِ فبكى حتّى اخْضَلّتْ لِحيَتُهُ، ثمّ قالَ: أنْشِدُكُمُ اللّهَ، أمُؤْمِنُ آل ِفِرْعَونَ خيرٌ أمْ هوَ؟ فسكتَ القومُ.
فقالَ عليٌّ: فواللّهِ لَساعة ٌمن أبي بكر ٍخيرٌ منْ مِلْءِ الأرض ِمن مؤمن ِآل ِفرعونَ، ذاكَ رجلٌ يكتُمُ إيمانَهُ وهذا رجلٌ أعلنَ إيمانَهُ.
أخبروني .. من ذا الذي يستطيعُ أن يصفَ حُبَّ أبي بكرٍ للنبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ؟ .. فعندما جاءَ النبيُ عليه الصلاةُ والسلامُ وأخبرَ أبا بكرٍ بأنه أُذِنَ له بالهجرةِ وأنه صاحبُه فيها .. قَالَتْ عَائِشَةُ رضيَ اللهُ عنها: فَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي، وَمَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ .. فخرجَ معه كما وصفَهم اللهُ تعالى: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .. قالَ السهيليُ رحمَه اللهُ: ألا ترى كيفَ قالَ: لا تحزنْ ولم يقلْ لا تخفْ؟ .. لأن حزنَه على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ شَغله عن خوفِه على نفسِه .. ثم يمكثُ معه في الغارِ ثلاثةُ أيامٍ .. فما أجملَ الغارِ.. إذا كانُ الرفيقُ فيه هو النبيُ المُختارُ عليه الصلاةُ والسلامُ.
حتى ابنَ الخطابِ .. يعرفُ أن أبابكرٍ هو خيرُ الأصحابِ .. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ رحمَه اللهُ: كَأَنَّ رِجَالاً عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَلُّوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَنْطَلِقَ إِلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا لَكَ تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْ وَسَاعَةً خَلْفِي؟)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذَكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذَكَرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟)، قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا كَانَتْ لِتَكُونَ مِنْ مُلِمَّةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِي دُونَكَ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، فَدَخَلَ وَاسْتَبْرَأَهُ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ.
كانَ أبو بكرٍ أعلمَ الناسِ بمُرادِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ)، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ، إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، هي الشهادةُ التي تنجي من العذابِ يومَ القيامةِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أما بعد:
فلكم أن تتخيلوا ذلك اليومُ الذي ماتَ فيه رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ .. حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا.
يقَولُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْلَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ كُلُّ شَيْءٍ) .. فإذا هذا كانَ هو شعورُ الناسِ .. فكيفَ إذاً هو شعورُ أبي بكرٍ .. الصاحبِ القريبِ .. والمستشارِ الحبيبِ .. كأن روحَه هي التي خرجتْ من جسدِه .. فأيُ يومٍ ذلك الذي لن يراه فيه.. وأيُ حياةٍ تلك التي ليسَ فيها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. ولكن ما يجعلُ المصيبةَ العظمى تهونُ ..هو قولُه تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
ثُمَ خَرَجَ أَبَو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى الناسِ فَتَشَهَّدَ، ثُمَ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، قالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ.. وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا) .. فإن كانَ رسولُ اللهِ قد ماتَ .. فلا زالَ صاحبُه على ما عَهِدَ من الثباتِ.
وهنيئاً له بُشارةُ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ حينَ دخلَ بِئْرَ أَرِيسٍ فَجَلَسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عِنْدَ الْبَابِ وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: (ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)، فَأَقْبَلَ حَتَّى قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ .. وواللهِ إن حُبَّ أبي بكرٍ من التوفيقِ والإيمانِ .. وبُغضَه من النِفاقِ والخُذلانِ.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
المرفقات
قطرة من بحر أبي بكر رضي الله عنه.zip
قطرة من بحر أبي بكر رضي الله عنه.zip
المشاهدات 3570 | التعليقات 3
جزاك ربي الجنة وفتح عليك أبواب رحمته وفضله
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا ونفع بك
حشرنا الله في زمرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو مالك ابن علي
جزاك الله خيرا، خطبة مؤثرة..
لم أتمالك عباراتي وأنا أقرؤها، نفع الله بكم يا شيخ هلال وبارك فيكم.
تعديل التعليق