قضية الرزق
هلال الهاجري
1438/01/19 - 2016/10/20 17:22PM
الحَمْدُ للهِ الذي خَلَق الخلقَ، ورزَقَهم بغيرِ حسابٍ، وساقَ لهم رحمتَه من السَّحابِ، وأَجرَى فِيهم أمرَه، وقضى فيهم بحكمِه، وامتنَّ على بَني آدمَ بالرِّزقِ والتَّكريمِ: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)، وجَعَل الرِّزقَ بِيَدِه وحدَه، وأسبغَه على خلقِه، وقسمَه بينهم بحِكمَتِه: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، وجَعَله من آياتِ وحدانيتِه في الكونِ: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)، قدَّر أرزاقَ العبادِ وهَدَاهم إليها، وهَدَى مَن يَأتي بها إِلَيهم، فأعطى من شاءَ بفضلِه، ومَنَع من شاء بعِلمِه وعدلِه: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنَا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليه وعلى آلِه وصحبِه الحامدينَ الشاكرينَ، وعلى من تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
يا أهلَ القرآنِ .. أنا أعتذرُ إليكم أن أقفَ أمامَكم اليومَ لأُحدِّثُكم عن موضوعِ الرِّزقِ، وهو من البَدَهياتِ والأساسياتِ في حياةِ أهلِ الإيمانِ، الذينَ يتدبَّرونَ القرآنَ .. كيف لا، وأنتَ لا تقلبُ صفحةً من صفحاتِ المصحفِ، إلا وهذا الأمرُ مذكوراً فيه تصريحاً أو تلميحاً، ولكن عزائي في ذلك هو قولُه تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، فأخبرَ سبحانَه أنَّ الذِّكرى مطلوبةٌ، وأنَّ الذي ينتفعُ بها هم المؤمنونَ، ثُمَّ ذكرَ أعظمَ ما يُذَّكرُ به الإنسُ والجِنُّ، ألا وهو الغايةُ من خلقِهم، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ونبَّهَ على أكبرِ شاغلٍ لهم عن عبادتِه تعالى، ألا وهو طلبُ الرِّزقِ، فقالَ: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، فأخبرَ أنَّه الرَّزاقَ: أي كثيرُ الرِّزقِ، والذي له القُدرةُ على إيصالِه لجميعِ الخلقِ، فلا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منعَ.
كيفَ لي أن أتكلمَ عن الرِّزقِ .. عندَ قومٍ يتلونَ كلامَ اللهِ تعالى وهو يقولُ: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، فقد أوجبَ على نفسِه الرِّزقَ لكلِّ مخلوقٍ، يطيرُ في السَّماءِ، أو يسبحُ في الماءِ، يمشي على وجهِ الأرضِ، أو يعيشُ في باطنِ الأرضِ، حتى الجنينَ في بطنِ أمِّه أو في داخلِ بيضتِه، لا يمكنُ لأحدٍ أن يصلَ إليه، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يعلمُ مكانَه ومستقرَّه وحاجتَه وقد تكفَّلَ بهِ، (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، وعداً عليه حقَّاً حقَّاً، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا).
إن كانَ أهلُ الجاهليةِ لا يشكُّونَ أن الرِّزقَ من عندِ اللهِ تعالى وحدَه، وأن آلهتُهم ليسَ لهم من الأمرِ شيئاً، (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)، فكيفَ بمن يؤمنُ باللهِ تعالى ربَّاً واحداً رازقاً خالقاً عظيماً قادراً عليماً حكيماً، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
ما هو شعورُكَ كلما قرأتَ هذا الحديثَ .. عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عًنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَمَ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ- : (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ) .. لا إلهَ إلا اللهُ .. أولُ ما كُتبَ لكَ في بطنِ أمِّكَ رزقُك .. فهو مكتوبٌ لك مثلُ أجلِك .. وأنت والذي لا إلهَ إلا هو مُلاقيه .. ولا يمكنُ أن يُخطئكَ منه شيءٌ .. فأبشروا وأمِّلوا .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنّ رُوحَ القُدُسِ –جبريلُ عليه السَّلامُ- نَفَثَ في رُوعِي: أي في قلبي، أنّ نَفْساً لنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَها، فاتّقُوا الله وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، ولا يَحْمِلنَّ أحَدَكُمُ اسْتِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ الله، فإنّ الله تعالى لا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلاّ بِطاعَتِهِ) .. فلماذا القلقُ؟ .. (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
ولنعلمْ أن اللهَ سبحانَه وتعالى .. لهُ الحكمةُ البالغةُ في توزيعِ الأرزاقِ .. يعلمُ أن من العبادِ من لا يصلحُ له إلا الغِنى ولو افتقرَ لبغى .. ومن العبادِ من لا يصلحُ له إلا الفقرَ ولو اغتنى لطغى .. فيعطى هذا ويمنعُ هذا فضلٌ منه وعدلٌ .. (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) .. وليسَ عطاءُه للدُّنيا دليلَ محبةٍ .. وليسَ منعُه لها دليلَ بغضٍ .. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِنَّ الله قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخَلاَقَكُمْ كَمَاَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ الله يُعْطِيْ الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُ وَمَنْ لاَ يُحِبُ، وَلاَ يُعْطِيْ الإيمَانَ إلاَّ مَنْ أَحَبَّ).
يا أهلَ الإيمانِ ..
الرزقُ سرٌّ من أسرارِ العزيزِ الجَوادِ .. يُوزِّعَ الأرزاقَ بينَ العبادِ .. (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) .. لا دَخْلَ في ذلكَ لا للونٍ ولا لنسبٍ ولا لجنسيَّةٍ ولا لذكاءٍ ولا لغباءٍ ولا لضعفٍ ولا لقوةٍ.
فمنَ النَّاسِ من رزقُه حلالٌ ومنهم من رزقُه حرامٌ .. ومنهم من رزقُه الملايينُ ومنهم من رزقُه كفٌّ من طعامٍ .. ومنهم من رزقُه في الطَّيارةِ فوقَ السَّحابِ .. ومنهم من رزقُه بين الفصولِ والطُّلابِ .. ومنهم من رزقُه في المناجمِ تحتَ التُّرابِ .. ومنهم من رزقُه مسافراً على الطرقِ بينَ البلادِ .. ومنهم من رزقُه في الأسواقِ والتِّجارةِ والمزادِ .. ومنهم من رزقُه في المزارعِ بينَ الفواكهِ والخُضرواتِ .. ومنهم من رزقُه بينَ المرضى والمصابينَ والأمواتِ .. ومنهم من رزقُه في ترويضِ الأفاعي والسِّباعِ .. ومنهم من رزقُه في تسلُّقِ الأماكنِ والمُرتفعةِ والقِلاعِ .. ومنهم من رزقُه في المصانعِ بينَ الأخطارِ .. ومنهم من رزقُه بينَ الأمواجِ في البحارِ .. ومنهم من تأتيه السَّمكةُ وهو في أمنٍ من الخوفِ، ورَغدٍ من العيشِ، وسَعةٍ من الرِّزقِ.
وصدقَ اللهُ تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني اللهُ وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على ما أعطى وأجزلَ، نحمدُه تباركَ وتعالى حمدَ العارفينَ الشاكرينَ الطالبينَ لمزيدِ فضلِه، والصلاةُ على إمامِ العارفينَ وسيدِ المرسلينَ نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ .. أما بعد:
فاسمع معي بقلبِكَ لهذا الحديثِ .. فقد اختصرَ لنا أسبابَ الرِّزقِ .. عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا).
أولُها التَّوكلُ على اللهِ تعالى حقَّ التَّوكلِ .. وهو أن نعلمَ علمَ اليقينِ أنه لا رازقَ ولا معطي ولا مانعَ إلا اللهُ تعالى .. (أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) .. وما الأبُّ ولا الشَّركةُ ولا السُّوقُ ولا المزرعةُ ولا الدَّولةُ إلا مصادرَ للدَّخلِ .. قد هيَّأها اللهُ تعالى ويسَّرَها فضلاً منه ونعمةً .. ورزقاً للعبادِ ورحمةً .. وَاعْلَمْ أَنَّ اْلأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إَِّلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إَِّلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ.
والسببُ الثَّاني هو السَّعي بالأسبابِ .. فهذه الطَّيرُ لم تمكثْ في عِشِّها تنتظرُ الرِّزقِ .. بل غَدتْ مُبكِّراً تبحثُ عن رزقِها ورزقِ الصِّغارِ .. في الأوديةِ وفوقَ الجبالِ وبينَ الأشجارِ .. مُطمئنَّةُ متفائلةٌ مؤمنَّةٌ بوعدِ ربِّها أنَّه قد تكفَّلَ برزقِها .. ولذلكَ لا تحملُ معها إلا رزقَ يومِها .. وتعلمُ أن في غدٍ رزقٌ آخرُ قد خبأهُ اللهُ تعالى لها .. (وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
فيا أيُّها المؤمنُ، اشتغلْ بما خُلقتْ من أجلِه من العبادةِ، ومن العبادةِ طلبُ الرِّزقِ، كما أمرَ اللهُ تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، فاعملْ واجتهدْ وابذلْ الأسبابَ، مع اليقينِ أنه لا رزقَ إلا ما كتبَه اللهُ سبحانَه، (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ)، فإذا حقَّقتَ هذا فانتظرْ الرِّزقَ الذي وعدَ ربُّكَ، ثُمَّ تأتي نهايةُ الآيةِ لتُخبرَك بما يجبُ عليكَ بعد ذلكَ، فيقولُ عزَّ وجلَّ: (وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فعلينا العبادةُ والشُّكرُ وعليه الخلقُ والرِّزقُ، وقد اختصرَ رحلةَ الحياةِ بقولِه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
اللهمَّ إنا نسألُك موجباتِ رحمتِك وعزائمَ مغفرتِك والسلامةَ من كلِّ إثمٍ والغنيمةَ من كلِّ برٍّ والفوزَ بالجنةِ والنجاةَ من النارِ، برحمتِك نستغيثُ اصلحْ لنا شأنَنا كلَّه ولا تكلْنا إلى أنفسِنا طَرفةَ عينٍ، اللهم نسألُك من الخيرِ كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علمنا منه ومالم نعلم، ونعوذُ بك من الشَّرِ كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علمنا منه ومالم نعلمُ، اللهم اعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا، اللهم رغِّبنا فيما يبقى وزهِّدنا فيما يفنى واغفر لنا في الآخرةِ والأولى، اللهم إنا نعوذُ بك من جهدِ البلاءِ ودركِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداءِ، اللهم اجعل رزقنَا رغداً ولا تُشمت بنا أحداً ولا تجعلْ لكافرٍ علينا يداً، اللهم آمنَّا في أوطانِنا ووفِّقْ بالحقِّ إمامَنا ووليَ أمرِنا، اللهم اكفِ المسلمينَ كيدَ الكفارِ ومكرَ الفجارِ وشرَّ الأشرارِ يا عزيزُ يا غفارُ، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، سبحانَ ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
يا أهلَ القرآنِ .. أنا أعتذرُ إليكم أن أقفَ أمامَكم اليومَ لأُحدِّثُكم عن موضوعِ الرِّزقِ، وهو من البَدَهياتِ والأساسياتِ في حياةِ أهلِ الإيمانِ، الذينَ يتدبَّرونَ القرآنَ .. كيف لا، وأنتَ لا تقلبُ صفحةً من صفحاتِ المصحفِ، إلا وهذا الأمرُ مذكوراً فيه تصريحاً أو تلميحاً، ولكن عزائي في ذلك هو قولُه تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، فأخبرَ سبحانَه أنَّ الذِّكرى مطلوبةٌ، وأنَّ الذي ينتفعُ بها هم المؤمنونَ، ثُمَّ ذكرَ أعظمَ ما يُذَّكرُ به الإنسُ والجِنُّ، ألا وهو الغايةُ من خلقِهم، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ونبَّهَ على أكبرِ شاغلٍ لهم عن عبادتِه تعالى، ألا وهو طلبُ الرِّزقِ، فقالَ: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، فأخبرَ أنَّه الرَّزاقَ: أي كثيرُ الرِّزقِ، والذي له القُدرةُ على إيصالِه لجميعِ الخلقِ، فلا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منعَ.
تَوَكَّلْتُ فِي رِزْقِي عَلَى اللَّهِ خَالِقِي *** وَأَيقَنْتُ أَنَّ اللَّهَ لا شَكَّ رَازِقِي
فَفِي أَيِّ شَيءٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ حَسْرَةً *** وَقدَ قَسَّمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلائِقِ
فَفِي أَيِّ شَيءٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ حَسْرَةً *** وَقدَ قَسَّمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلائِقِ
كيفَ لي أن أتكلمَ عن الرِّزقِ .. عندَ قومٍ يتلونَ كلامَ اللهِ تعالى وهو يقولُ: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، فقد أوجبَ على نفسِه الرِّزقَ لكلِّ مخلوقٍ، يطيرُ في السَّماءِ، أو يسبحُ في الماءِ، يمشي على وجهِ الأرضِ، أو يعيشُ في باطنِ الأرضِ، حتى الجنينَ في بطنِ أمِّه أو في داخلِ بيضتِه، لا يمكنُ لأحدٍ أن يصلَ إليه، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يعلمُ مكانَه ومستقرَّه وحاجتَه وقد تكفَّلَ بهِ، (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، وعداً عليه حقَّاً حقَّاً، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا).
لَوْ كَانَ فِي صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةٍ *** صمَّاءَ مَلْمُومَةٍ مَلْسٍ نَوَاحِيهَا
رِزْقٌ لِعَبْدٍ يَرَاهُ اللهُ لانْفَلَقَتْ *** حَتَّى يُؤَدَّى إِلَيْهِ كُلُّ مَا فِيهَا
أَوْ كَانَ تَحْتَ طِبَاقِ السَّبْعِ مَطْلَبُهَا *** لَسَهَّلَ اللهُ فِي الْمَرقَى مَرَاقِيهَا
حَتَّى تُؤَدِّي الَّذِي فِي اللَّوْحِ خُطَّ لَهُ *** إِنْ هِيْ أَتَتْهُ وَإِلاَّ سَوْفَ يَأْتِيهَا
رِزْقٌ لِعَبْدٍ يَرَاهُ اللهُ لانْفَلَقَتْ *** حَتَّى يُؤَدَّى إِلَيْهِ كُلُّ مَا فِيهَا
أَوْ كَانَ تَحْتَ طِبَاقِ السَّبْعِ مَطْلَبُهَا *** لَسَهَّلَ اللهُ فِي الْمَرقَى مَرَاقِيهَا
حَتَّى تُؤَدِّي الَّذِي فِي اللَّوْحِ خُطَّ لَهُ *** إِنْ هِيْ أَتَتْهُ وَإِلاَّ سَوْفَ يَأْتِيهَا
إن كانَ أهلُ الجاهليةِ لا يشكُّونَ أن الرِّزقَ من عندِ اللهِ تعالى وحدَه، وأن آلهتُهم ليسَ لهم من الأمرِ شيئاً، (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)، فكيفَ بمن يؤمنُ باللهِ تعالى ربَّاً واحداً رازقاً خالقاً عظيماً قادراً عليماً حكيماً، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
ما هو شعورُكَ كلما قرأتَ هذا الحديثَ .. عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عًنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَمَ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ- : (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ) .. لا إلهَ إلا اللهُ .. أولُ ما كُتبَ لكَ في بطنِ أمِّكَ رزقُك .. فهو مكتوبٌ لك مثلُ أجلِك .. وأنت والذي لا إلهَ إلا هو مُلاقيه .. ولا يمكنُ أن يُخطئكَ منه شيءٌ .. فأبشروا وأمِّلوا .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنّ رُوحَ القُدُسِ –جبريلُ عليه السَّلامُ- نَفَثَ في رُوعِي: أي في قلبي، أنّ نَفْساً لنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَها، فاتّقُوا الله وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، ولا يَحْمِلنَّ أحَدَكُمُ اسْتِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ الله، فإنّ الله تعالى لا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلاّ بِطاعَتِهِ) .. فلماذا القلقُ؟ .. (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
ولنعلمْ أن اللهَ سبحانَه وتعالى .. لهُ الحكمةُ البالغةُ في توزيعِ الأرزاقِ .. يعلمُ أن من العبادِ من لا يصلحُ له إلا الغِنى ولو افتقرَ لبغى .. ومن العبادِ من لا يصلحُ له إلا الفقرَ ولو اغتنى لطغى .. فيعطى هذا ويمنعُ هذا فضلٌ منه وعدلٌ .. (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) .. وليسَ عطاءُه للدُّنيا دليلَ محبةٍ .. وليسَ منعُه لها دليلَ بغضٍ .. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِنَّ الله قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخَلاَقَكُمْ كَمَاَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ الله يُعْطِيْ الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُ وَمَنْ لاَ يُحِبُ، وَلاَ يُعْطِيْ الإيمَانَ إلاَّ مَنْ أَحَبَّ).
يا أهلَ الإيمانِ ..
الرزقُ سرٌّ من أسرارِ العزيزِ الجَوادِ .. يُوزِّعَ الأرزاقَ بينَ العبادِ .. (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) .. لا دَخْلَ في ذلكَ لا للونٍ ولا لنسبٍ ولا لجنسيَّةٍ ولا لذكاءٍ ولا لغباءٍ ولا لضعفٍ ولا لقوةٍ.
فكيف تخافَ الفقرَ واللهُ رازقٌ *** و قد رزقَ الأطيارَ والحوتَ في البحرِ
ومن ظَنَّ أن الرِّزقَ يأتي بقوةٍ *** فما أكلَ العصفورُ شيئاً مع النَّسرِ
ومن ظَنَّ أن الرِّزقَ يأتي بقوةٍ *** فما أكلَ العصفورُ شيئاً مع النَّسرِ
فمنَ النَّاسِ من رزقُه حلالٌ ومنهم من رزقُه حرامٌ .. ومنهم من رزقُه الملايينُ ومنهم من رزقُه كفٌّ من طعامٍ .. ومنهم من رزقُه في الطَّيارةِ فوقَ السَّحابِ .. ومنهم من رزقُه بين الفصولِ والطُّلابِ .. ومنهم من رزقُه في المناجمِ تحتَ التُّرابِ .. ومنهم من رزقُه مسافراً على الطرقِ بينَ البلادِ .. ومنهم من رزقُه في الأسواقِ والتِّجارةِ والمزادِ .. ومنهم من رزقُه في المزارعِ بينَ الفواكهِ والخُضرواتِ .. ومنهم من رزقُه بينَ المرضى والمصابينَ والأمواتِ .. ومنهم من رزقُه في ترويضِ الأفاعي والسِّباعِ .. ومنهم من رزقُه في تسلُّقِ الأماكنِ والمُرتفعةِ والقِلاعِ .. ومنهم من رزقُه في المصانعِ بينَ الأخطارِ .. ومنهم من رزقُه بينَ الأمواجِ في البحارِ .. ومنهم من تأتيه السَّمكةُ وهو في أمنٍ من الخوفِ، ورَغدٍ من العيشِ، وسَعةٍ من الرِّزقِ.
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ وَالصَّيَّادُ مُنْتَصِبٌ *** لِرِزْقِـهِ وَنُجُـومُ اللَّيْـلِ مُحْتَبِكَـهْ
قَدْ غَاصَ فِي لُجَّةٍ وَالْمَوْجُ يَلْطِمُهُ *** وَعَيْنُهُ لَـمْ تَزَلْ فِـي كَلْكَلِ الشَّبَكَهْ
حتَّى إِذا بَاتَ مَسْـرُورَاً بِلَيْلَتِـهِ *** بِالْحُوتِ قَدْ شَقَّ سَفّودُ الرَّدَى حَنَكَهْ
شَرَاهُ مِنْهُ الَّذِي قَـدْ بَاتَ لَيْلَتَـهُ *** خِلْواً مِنَ الْبَرْدِ فِي خَيْرٍ مِنَ الْبَرَكَهْ
سُبْحَانَ رَبَّيُ يُعْطِي ذَا وَيَحْرِمُ ذَا *** هَـذَا يَصِـيدُ وَهَذَا يَأْكُـلُ السَّمَكَهْ
قَدْ غَاصَ فِي لُجَّةٍ وَالْمَوْجُ يَلْطِمُهُ *** وَعَيْنُهُ لَـمْ تَزَلْ فِـي كَلْكَلِ الشَّبَكَهْ
حتَّى إِذا بَاتَ مَسْـرُورَاً بِلَيْلَتِـهِ *** بِالْحُوتِ قَدْ شَقَّ سَفّودُ الرَّدَى حَنَكَهْ
شَرَاهُ مِنْهُ الَّذِي قَـدْ بَاتَ لَيْلَتَـهُ *** خِلْواً مِنَ الْبَرْدِ فِي خَيْرٍ مِنَ الْبَرَكَهْ
سُبْحَانَ رَبَّيُ يُعْطِي ذَا وَيَحْرِمُ ذَا *** هَـذَا يَصِـيدُ وَهَذَا يَأْكُـلُ السَّمَكَهْ
وصدقَ اللهُ تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني اللهُ وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على ما أعطى وأجزلَ، نحمدُه تباركَ وتعالى حمدَ العارفينَ الشاكرينَ الطالبينَ لمزيدِ فضلِه، والصلاةُ على إمامِ العارفينَ وسيدِ المرسلينَ نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ .. أما بعد:
فاسمع معي بقلبِكَ لهذا الحديثِ .. فقد اختصرَ لنا أسبابَ الرِّزقِ .. عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا).
أولُها التَّوكلُ على اللهِ تعالى حقَّ التَّوكلِ .. وهو أن نعلمَ علمَ اليقينِ أنه لا رازقَ ولا معطي ولا مانعَ إلا اللهُ تعالى .. (أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) .. وما الأبُّ ولا الشَّركةُ ولا السُّوقُ ولا المزرعةُ ولا الدَّولةُ إلا مصادرَ للدَّخلِ .. قد هيَّأها اللهُ تعالى ويسَّرَها فضلاً منه ونعمةً .. ورزقاً للعبادِ ورحمةً .. وَاعْلَمْ أَنَّ اْلأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إَِّلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إَِّلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ.
والسببُ الثَّاني هو السَّعي بالأسبابِ .. فهذه الطَّيرُ لم تمكثْ في عِشِّها تنتظرُ الرِّزقِ .. بل غَدتْ مُبكِّراً تبحثُ عن رزقِها ورزقِ الصِّغارِ .. في الأوديةِ وفوقَ الجبالِ وبينَ الأشجارِ .. مُطمئنَّةُ متفائلةٌ مؤمنَّةٌ بوعدِ ربِّها أنَّه قد تكفَّلَ برزقِها .. ولذلكَ لا تحملُ معها إلا رزقَ يومِها .. وتعلمُ أن في غدٍ رزقٌ آخرُ قد خبأهُ اللهُ تعالى لها .. (وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
فيا أيُّها المؤمنُ، اشتغلْ بما خُلقتْ من أجلِه من العبادةِ، ومن العبادةِ طلبُ الرِّزقِ، كما أمرَ اللهُ تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، فاعملْ واجتهدْ وابذلْ الأسبابَ، مع اليقينِ أنه لا رزقَ إلا ما كتبَه اللهُ سبحانَه، (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ)، فإذا حقَّقتَ هذا فانتظرْ الرِّزقَ الذي وعدَ ربُّكَ، ثُمَّ تأتي نهايةُ الآيةِ لتُخبرَك بما يجبُ عليكَ بعد ذلكَ، فيقولُ عزَّ وجلَّ: (وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فعلينا العبادةُ والشُّكرُ وعليه الخلقُ والرِّزقُ، وقد اختصرَ رحلةَ الحياةِ بقولِه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
اللهمَّ إنا نسألُك موجباتِ رحمتِك وعزائمَ مغفرتِك والسلامةَ من كلِّ إثمٍ والغنيمةَ من كلِّ برٍّ والفوزَ بالجنةِ والنجاةَ من النارِ، برحمتِك نستغيثُ اصلحْ لنا شأنَنا كلَّه ولا تكلْنا إلى أنفسِنا طَرفةَ عينٍ، اللهم نسألُك من الخيرِ كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علمنا منه ومالم نعلم، ونعوذُ بك من الشَّرِ كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علمنا منه ومالم نعلمُ، اللهم اعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا، اللهم رغِّبنا فيما يبقى وزهِّدنا فيما يفنى واغفر لنا في الآخرةِ والأولى، اللهم إنا نعوذُ بك من جهدِ البلاءِ ودركِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداءِ، اللهم اجعل رزقنَا رغداً ولا تُشمت بنا أحداً ولا تجعلْ لكافرٍ علينا يداً، اللهم آمنَّا في أوطانِنا ووفِّقْ بالحقِّ إمامَنا ووليَ أمرِنا، اللهم اكفِ المسلمينَ كيدَ الكفارِ ومكرَ الفجارِ وشرَّ الأشرارِ يا عزيزُ يا غفارُ، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، سبحانَ ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
المرفقات
1173.zip
قضية الرزق.docx
قضية الرزق.docx
المشاهدات 2378 | التعليقات 4
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
لعلها تكون مناسبة في هذا الأسبوع.
سلِمت يمينُك شيخنا هلال , لقد قرأتَ الواقع وفطِنت حاجته , فهنِيئًا لك هذا الإدراك والدّراية , وجعل ربّي ما تُقدّم سُؤددًا لك في الأولى والأخرى , وهنيئًا لنا جميعاً معاشر الخُطباء هذا المنتدى المبارك الّذي في الحقيقة أعاننا على هذه العبادة العظيمة , وألانَ لنا عِظم هذه المسؤوليّة !
قلبي دليلي
جزاك ربي كل خيييير
تعديل التعليق