قصـة ثبات في قصر فرعون
أحمد عبدالله صالح
خطبــــة جمعــــــة بعنــــــــوان :
[ قصـة ثبات في قصـر فرعــون ]
ايهـــا الأحبــــاب الكــــــرام :
موعدنا اليوم في قصر الطاغية، قصر فرعون لاحكي لكم من داخله قصةً لواحدةٍ من اعظـمِ قصصِ التأريخِ إيماناً وثباتاً وشجاعـةً وصبراً، ومن اعظم القصصِ تحملاً وتضحيةً وفـداء .
إنهّا قصة لاحد اؤلئك الذين بذلوا الأرواح والمهج في سبيل نصـر الدين ورفـع راية العقيده ....
هذه القصة البطولية سطرتها امرأة مؤمنة صادقه
إمرأة شريفه طاهرة، أمام هذا الطاغية، وهذا المتعجرف وهذا المستبد فرعون الذي داس على القيم وداس الأجيال تحت قدميه وسفك دماء الأبرياء، وقتل الأطفال، ونشر الفساد، وأرهب العباد، ودمر البلاد ..
فأمام هذا الديكتاتور وامام هذا المستكبر
وامام هذا السفاك المجرم، والإرهابيُ العميل .!
أمام هذا المتعجرف، العُتِل، الجواظ الذي كان يلقي المحاضرات، على الرعاع الأغبياء، البلداء، ويقول لهم : ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
فيصفقون له وهزون رؤوسهم طرباً، ويسجدون له تذللاً.
امام كل هذا الجبروووت، وامام هذا الُملك كله
وما رافقه من حشد وجُند ومال وخدم وحشم وهيلمان وسلطان وعتاد وعُده..
{{ وقفت امــرأة }}....
سطرُ الله إسمهـا بحـروفٍ أغلى مـن الذهب، وانتشر طِيبُ صنِيعِها في الأرض، وطِيبُ رِيحَها في السماء،
حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب رائحته في رحـلة الإسراء والمعـراج.
أتدرون بمـاذا ضحت هـذه المـرأة !؟
لقد ضحت بأعـز ما تملك في دنياها :-
(( ضحت بنفسها ونفس أبنائهـا ))
وذلك في سبيل إعلاء كلمة الله... - لم تكن هذه المرأة (( مَلِكة أو زوجة مَلِكْ ))
بل كانت خادمة تَخدمُ بنتَ مَلِكِ الطاغية.
إلا أن الله تعالى حفظ إسمها وأعلى شأنها أكثر من أسماء ملوك وسلاطين كثير من أهل الأرض.
فهل عرفتم مـن هـذه المـرأه ؟؟
وهل تبادر الى أذاهنكم إسـمٌ من الاسماء !؟
إنّهـا ( ماشطــةُ بنت فرعـون ).. هـذه القصة ثابتة صحيحة ، صحح إسنادها الشيخ أحمد شاكر بالمسند، وقال الشيخ الأرنؤوط أن إسنادها حسنوهي عند ابن حبان والطبراني وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما كانت الليلة التي أُسري بي فيها وجدت رائحة طيبة فقلت :ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل !؟
قال :هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها.
فقلت : ما شأنها ؟
قال : بينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها.
فقالت : بسم الله، فقالت بنت فرعون : أبي !؟
يعنى : (( هل هو أبي - او تقصدين أبي )) فقالت التقية الزكية ماشطـة بنت فرعـون :
لا، ولكن ربي وربُكِ وربُ أبيكِ الله..
فقالت ابنة فرعون : وهل لك رباً غيرُ أبي ؟!
قالت : نعم .
قالت : فأعلِمُه ذلك ؟
قالت : نعم، فأعْلَمَتْه".
وفي رواية : "فغضبت ابنة فرعون، فلطمتها وضربتها وأخبرت أباها"
"فدعا بها، فقال : يا فلانة، ألكِ ربٌ غيري !؟
قالت : نعم، ربي وربكَ الله "
وفي رواية ابن حبان :
"ربي وربك من في السماء ". " فأمر فرعون ببقرة من نحاس " قال ابن الأثير :
شيء يَسع بقَرة تامَّة بِتَوابِلِها، فأحميت، ثم أخذَ أولادها يُلقون فيها واحدًا واحدًا..
فقالت : إن لي إليك حاجة، قال فرعون :وما هي ؟
قالت : أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد فتدفننا جميعا..
فقال : وذلك لك علينا..
فلم يزل أولادها يُلقَونَ في البقرة حتى انتهى إلى ابن لها رضيع، فكأنها تقاعست من أجله،فقال : يا أمه! اقتحمي؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ".
هذه قصة امرأة يا رجال قصها علينا أصدقُ خلقِ الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم...
إمرأة نصرَ اللهُ بها الإسلام ودحر الكفر .
إمرأة خالط الإيمان بشاشة قلبها، فقادها إلى مراتب الإيمان العالية، وهكذا الإيمان حين يخالط القلوب،فلا يتقدم عليه دنيا ولا ولد ولا مال ولا جاه.
فالله جل جلاله في القلوب أعظم.
والله جل جلاله أجلّ ، والله أحبّ.
تصوروا عباد الله، امرأة ضعيفة مسكينة تعملُ خادمة لتعول اولادها ولتُطعم أبناءها..
يتسلط عليها طاغية ويُهددُ بقتلها وقتلِ أبنائها إن لم توافقه على كفره وترضخَ لأمره..
- وهكذا كان حال الطاغوت فرعون إذا غلبه الحق !. يُرعد، ويُزبد، ويتصرف بلا عقل ..
- هكذا كان الطاغية اذا هُزم امام صخرة الايمان.
يسترخص الدماء، ويستخف بالارواح ، ويستخف بالقيم، ويدوس التاريخ بقدميه.
يجعل المروءات خلف ظهره، ولا يقيم للمثل وزناً
ولا قيمة.
كان ينظر إلى نفسه فيرى الدنيا تحت قدميه، فيزداد كبراً وصلفاً.
وهكذا يفعل الطغاة، يوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوم لا يصلون، ولا يخافون من الواحد الأحد، هكذا يفعل كل فرعون إلى أن تقوم الساعة.
إخوة الإيمـان :
إذا كان الذنبُ ذنبُ الأم المسكينة !
فما ذنب أبنائها ؟ ما ذنبُ صغارها ؟
ماذا فعلوا ؟ وماذا اقترفوا ؟ وماذا صنعوا ؟
وايُ جريمهٍ ارتكبوا حتى يُؤخذوا بفعل أمهم الإيماني الصادق النبيل ..ولكنه الظلم والجبروت !
ولذلكم
مع كل تهديدات وفرعون ووعيده وبشتى أنواعه
ترفض تلك الصادقه وتؤثر الإيمان والصبر، وتنتظر ثواب الله..
فتؤخذ أمام الناس لينفذ عليها القتل، فيتشبّت بها أبناؤها الصغار..
فيجبذهم الزبانية الطغاة ليرموهم بالنار، وهم يصرخون ويستنجدون..
سيُقتل أولادها أمام ناظريها واحداً تلو الآخر، قتلاً من أبشع القتل..
قِدر من نحاس ُيحمى حتى يلتهب ويحمر ويُصبح كالجمر...
وسيُنزع أطفالُها الصغار من حضنها ليُرموْا في ذلكم القدر في النار .
ثم يُنزع الطفلُ من بين يدي أمه، ومن بين أحضانها، وهو يصرخ فزِعاً خائفاً، أمامه النار، واللهيب يَحرقُ وجهها ووجه أطفالها.
فيجبذ أحد الزبانية الطفل ليرميه في ذلك القدر، فيصرخ صرخة لا يصرخ بعدها..
فيذوب اللحم في الحميم في تلك القدر الملتهبة
فلا يبقى منه إلا العظم ..
منظرٌ وحشي، مخيف، مرعب يحاولون من خلاله إثناء الأم عن موقفها لكنها تزداد ايماناً وصلابه.
- كُلُّ هذه المشاهد والأمُ تنظر ..
- كُلُّ ذلك والأمُ تشاهد، والأم ترقبُ الحدث عن قرب لأولادها واحداً بعد الاخر ...
الله أكبر على قوّة قلبها !
الله اكبر على صلابه موقفها !
الله اكبر على عمق إيمانها !
الله أكبر على عظيم صبرها !
لا إله إلا الله ! ما أحلم الله !
لا إله إلا الله ! ما أعظم صبر الله !.
لك أن تتخيل قلبُ تلك الأمُ في تلك الحالة .!
لكن هل استسلمَت ؟
وهل رضخت لفرعون وكفرت بربها ؟
كلا والله، بل بقيت على إصرارها لتقول له :
(( إنك لست برب خالق، بل أنت عبد مخلوق،
ولو فعلتَ ما فعلتَ، وسينتقم الله منك ومن أعوانك، وسيأخذك َاللهُ أخذَ عزيزٍ مقتدر )).
ثم يُنزع أبناءها من بين أحضانها واحداً تلو الآخر فيُلقَوا في النار الحميم حتى لا يبقى لها إلا رضيع في حُضنها، فيُجبذ بقوة منها، فكأنها ترددت شفقة ورحمة بهذا الرضيع،لا خوفاً من الموت،
فيُنْطق الله الرضيع! ليقول لها : يا أماه، اقتحمي؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة..
نعم/
يُنطق الله هذا الصبي الذي لا ينطِق،آيةٌ من آيات الله يُثبتُ الله تعالى به ولية من أولياء الله.
يُنطقه بحِكْمَة، حِكْمة كم نحن بحاجة لها :
" إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة " يرددها : " أماه! إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة "..
فأسألكم بالله : أين نحن من هذه المرأة ؟!.
ألا نستحي من الله جل جلاله ؟
ماذا قدمنا لديننا ؟! بماذا فدينا أنفسنا من النار ؟
ماذا قدمنا بين يدي ربنا نلقاه به يوم القيامة ؟
كم ممن يُطلبُ منه ترك محرم فيعتذر أعذاراً واهية..
يطلب منه الاستيقاظ لصلاة الفجر ،أن يصلي ثم يعود فينام..
أن يصلي ثم يعود فينام، فيقول :
لا أستطيع ! يغلبني النوم ..
ووالله ! لو حاول وأحسن مع الله لأفلح واستطاع وأعانه الله، ولكن أبت نفسه إلا العمى والضلال، وإيثار الدنيا والهوى.
اللهم ألهمنا رشدنا، وأيقظنا من غفلتنا..
وأصلح قلوبنا بالإيمان...
اقــــول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب عظيم..
الخطبـــــة الثانيــــه :
أمــا بعـد معاشر الرجال:
أليس لنا حق في أن نتساءل :
أين نحن من مثل هـؤلاء ؟!
امرأة تُقتل وهي صابرة على إيمانها ومبادئها..
تتزحزح الجبال الرواسي وهي لا تتزحزح عن موقفها...أيُّ عظمةٍ هذه ؟! وأيُّ سمو ؟!.
وايّ إيمان هذا ؟؟؟!
إنه الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب..
إنه اليقين حين يسكن النفس ويمازج الروح
لِتُولد تلك النماذج الربانية، فتكون أقوى من الجبروت، وأقوى من الطغيان، وأقوى من الشيطان وجنوده..وأقوى من غرائز النفس ورغباتها وطبائعها..وأقوى من الدنيا بأسرها...
ما أحلم الله على الظلَمة !
ولكن إذا أخذهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر ..
أهلك الله الطاغية وجنده، فهم يصطلون في النار غدواً وعشياً، قال تعالى :
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46]. نعوذ بالله من حال أهل النار...
ايها الاحباب الكـرام
ونحن نسدلُ الستار عن قصة اليوم اقول إنّ من اروع الدروس والعبر التى نجنيها من قصة ماشطة بنتُ فرعون :-
أن مواقف الصبر والثبات والتضحية لإعلاء كلمه الله لاتقف عند الرجال او تقتصر عليهم فقط، وانما البطولة والشجاعة والإيمان والثبات والتضحيه والفداء لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه قد تصنعها إمرأه ..
ومتى ما امتلكت العزيمة والإيمان وعاشت حياة الأم والزوجة والأخت والبنت الصالحة التقية العابدة الذاكرة وارتقت بنفسها وجعلت من حياتها
( التربيه الصالحه لأولادها ومواقفها
المشجعة والمعينة والمثبته لزوجها )
فسوف تصنع وتُخرج للأمة نماذج من الصالحين والعلماء والمرشدين والمؤمنين والأبطال كعمر وعلي وعثمان وطلحه والزبير وخالد وسعد..
- ومتى ما نالتها سهام العدو ورضت لنفسها بالسقوط في شباك الغزو الفكري في ان تعيش حياة الهوان والمعصيه وتصبح سلعه رخيصه في متناول الساقطين، سقطت وأسقطت أمه بجوارها.
وتصبح حينها كماهو ملاحظ ومشاهد اليوم في عروضات الشاشات ملكة جمال الصابون وملكة جمال الملابس وملكة جمال الفن وملكة جمال الرقص وفُرغت تماماً عن دورها في صناعة الرجال وقادة الأمة .. ...
فالأم هي حجر الزاوية، ومربض الفرس، وبيت القصيد، فبها تنهضُ الامم او تسقط ..
وبها تقوم الحضارات او تندثر... وحيا مـن قـال :
فلو كانتِ النساءُ كمثلِ هذه
لفضلتِ النساءُ على الرجال ِ
فما التأنيثُ لإسمِ الشمسِ عيبٌ
ولا التذكيرُ فخرٌ للهلال ِ
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب]