قصر الأمل وحضور الأجل

محمد بن عبدالله التميمي
1446/03/02 - 2024/09/05 10:03AM

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي بسَطَ للعالمين فِراشَ نِعَمه، وضرَبَ عليهم رِواقَ فضلِه وكرمِه؛ فهم يتقلَّبون على مِهادِ نَعمائه، ويتفيَّؤون ظلالَ جُودِه وآلائه. شرَعَ لهم الدينَ ونهَجَه، وأبلَغَ إليهم براهينَه وحُجَجَه. وبيَّن لهم الطريقين، وأعلَمَهم مصيرَ الفريقَين، لِيَعلَم مَن يُؤْثر الحياةَ الدُّنيا، ممَّن يطيعه بحبِّ الأخرى؛ لِيَجْزِيَ الذين أساؤوا بما عَمِلُوا، ويَجْزِيَ الذين أحسنوا بالحسنى. أحمدُه جلَّ ذِكْرُه وأَشْكُرُه، وأتوبُ إليه تبارك اسمُه وأستغفرُه.

وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه على حين فترةٍ من الرُّسُل، وانتشارٍ من الأهواء والنِّحَل؛ والجاهليةُ في عُنْفُوَانِها وطُفُوحِ طُوفَانِها، والعصبيةُ في رَيعانِها واضطرامِ نِيرانِها، والعربُ عاكفةٌ على أوثانها، مطلِقةٌ لعِنَانِها بِيَدِ شَيْطَانِها، والأممُ مُجْمِعةٌ على الضلالة، متنافسةٌ في الجهالة. فلم يزل ﷺ يدعو إلى الله سِرًّا وجهارًا، ويبلِّغ الرسالةَ ليلًا ونهارًا، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده، مؤدِّيًا رسالتَه إلى عباده. فقامت أقاربُه تُحارِبُه، وبنو عمِّه تُغالِبُه، وبالعداوة تُناصِبُه، حتى تقشَّعتْ من الجهل سحائبُه، وانجلتْ من الكفر غياهبُه، ودَرَسَتْ من الغيِّ مذاهبُه، وتفرَّقتْ عصائبُه، وتمزَّقتْ مواكبُه، وخمدتْ نوائبُه. وقامت دعوة الحقِّ، وسطعت أنوارُها في الغرب والشَّرق، وسرَتْ آثارُها في قلوب الخلق، حتى عزَّ مِن الدين جانبُه، وأمِن صاحبُه، واهتدى طالبُه، واتَّضح مندوبُه وواجبُه، وتلألأتْ كواكبُه، وبدَتْ من النَّصر عجائبُه، واستبانتْ غرائبُه ورغائبُه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبي الكريم، ذي الخُلُق العظيم: سيِّدِنا محمدٍ أفضلَ الصلاة والتسليم، وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل العميم. أما بعد:

فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاعلموا أنكم إنما خُلقِتم للعمل، لا لجمع المال والخَوَل، فيا سعادةَ مَن راقبَ هجومَ الأجل، وكان من دنياه على وَجَل! ويا شقاوةَ مَن غَرَّه طولُ الأمل، وامتدادُ المُهَل؛ فوقع في الزلل، والخطأ والخَطَل!

ابنَ آدم ... إن كنتَ مؤمنًا بالله ورسوله وباليوم الآخر، فكيف يسوء عملُك؟ وإن كنتَ لا تأمن هجومَ الموت في كلِّ لحظة، فكيف يطول أملُك؟ وإن كنت مصدِّقًا بوعد ربِّك فكيف يطول في جمع هذه الدنيا تَعَبُك؟ وإن كنت عالمًا أنَّك مؤمِّل بالجِدِّ، فكيف يسوغ لَعِبُك؟ قد كان قبلَك مَن هو أطولُ منك أملًا وأكثرُ مالًا وخَوَلًا، بَيْنَا هُم في مِثْلِ ما أنت فيه من الغفلة، والطمعِ في امتدادِ المهلة، وتركِ الاستعداد بزاد الرِّحلة؛ إذا بهاذمِ اللَّذَّات قد اختطَفَهم، ومن بين أحبِّتهم اقتطَفَهم. فأَعْوَلَ أحبابُهم، ونُزِعَتْ ثيابُهم، وفُتِحتْ أجداثُهم، وسُوِّي عليهم ترابُهم، وتقسَّمَ أموالَهم أصحابُهم. وقد أُودِعوا بطونَ الرُّموس، حيث لا خِلَّ ولا أنيس، وقد خابت آمالُهم، ولم يصحَبْهم إلا أعمالُهم. وأعمالُهم هي.. في الآخرة مآلهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.

فتلك بيوتهم خاوية، وأجسادهم رِمَمًا بالية. هم السابقون، ونحن اللاحقون، وكلُّنا إلى ما صاروا إليه صائرون، حتى يجيءَ يومُ البعث، فيَجْمَعُ اللهُ الأولينَ والآخِرين، بعدَ أن نُسِفت الجبالُ وسُيِّرتْ، ومُدَّت الأرضُ وبُدِّلتْ، وانشقَّت السماء وانفطرتْ. فإنما هي زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة، والخلقُ إلى الداعي مهطِعون، وإلى إجابته يُهرَعون حُفاةً عُراةً، كما بدأهم أعادهم.

ثم يُنصَبُ الميزانُ، وتَطايَرُ الصحفُ بالأيمان والشمائل، فمِنْ مُلجَمٍ بعَرَقِه، ومن مُصابٍ بغَرَقِه، ومن مغلولٍ يداه إلى عُنُقِه، ومن ماشٍ على وجهه، ومنكَّسٍ على رأسه. ثم يَمرُّون على الصِّراط مضروبًا على جسر جهنَّم، فمِن ناجٍ، ومن مخدوشٍ، ومن واقعٍ في النار، حتَّى يُجاءَ بالموت على صورة كبش، فيُذبَح بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنَّة، خلودٌ فلا موت؛ ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت. فطوبى لمن حاسب نفسه، فاتقى ربَّه، وأقلعَ عن ذنبه مبادرًا بالتوبة.

عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها ذَكَرَت النارَ، فبكَتْ، فقال رسول الله ﷺ: «ما يُبكيكِ؟» قالت: ذكرتُ النارَ، فبكيتُ، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال ﷺ: "أمَّا في ثلاثة مواطن فلا يَذْكُرُ أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يَعلَمَ أَيَخِفُّ ميزانُه أم يَثْقُل؛ وعند الكتاب حين يقال: هاؤم اقرؤوا كتابيه، حتى يَعلَمَ أين يقعَ كتابُه، أفي يمينه أم في شماله، أم من وراء ظهره؛ وعند الصِّراط إذا وُضع بين ظهرَي جهنَّم».

هذا، وإن الله جلَّ ذكرُه يقول: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾.

وفَّقني الله وإياكم لطاعته، ورَزَقَنا حسنَ عبادته. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي شرَّفَنا بالتمسك بدينه، ووفَّقَنا لالتزام شريعته، وهدانا لاتباع رسوله، ويسَّرنا لاعتناق ملَّته، أحمده حمدَ شاكرٍ لنعمائه، مستدفِعٍ لبلائه، معترفٍ بالتقصير، مُقِرٍّ بالخطأ الكثير. وأشهد ألَّا إله إلا الله إلهًا واحدًا وملكًا متعاليًا، واحدٌ في ذاته وصفاته، مخالفٌ لصفاتِ مخلوقاته. لا يدركه وهم، ولا يبلغه فهم، ولا يعرفه إلا هو، ولا يعلمه إلا هو.

وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، النبيُّ الأمي، والرسولُ العربي. أرسَلَه عند خمود الدين، وفساد اليقين، والأرضُ مظلمة، والفتنُ قائمة، فجاهَدَ في الله حقَّ جهاده، حتى بلَّغ رسالته إلى عباده، وهداهم إلى سبيل رشاده، وأطفأ جمرةَ المصرِّين على عناده. اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد نبيِّك الأمين الذي قلتَ فيه وقولك الحق اليقين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فيا عبادَ الله، إنَّا زرعُ الموت، وبضاعةُ الفوت، لا يطول بقاؤنا وإن طالت آمالنا. ولو طال بقاؤنا لم نفُزْ فيه بطائل، ولا أعددنا غيرَ الباطل. كلَّ يوم تعبَثُ جوارحُنا وقلوبُنا في محارم الله، فقلَّما تمرُّ علينا ساعة إلا ونحن في معصية. ومع ذلك ونحن آمنون من العقاب، متهاونون بالعذاب، زاهدون في الثواب مسوِّفون بالمتاب، كأنَّنا شاكُّون في المآب، أو مكذِّبون بيوم الحساب.

فالتوبةَ، التوبةَ، قبلَ زلَّة القدم، والندم حيث ينقطع نفعُ الندم. قبل مفاجأةِ الموت، وخشوعِ الصوت، وحلولِ الفوت. قبل أن تنقطعَ الأعمال، وتُطوى الصحائف، ويُفتَح بابُ الجزاء؛ فيُنَعَّمَ المهتدون، ويُعَذَّبَ العصاةُ بما كانوا يفعلون.

ألا، وإنَّ الله تعالى قد أمركم بأمر عظيم بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكةِ قُدسِه، وثلَّثَ بكم تشريفًا لكم وتكريمًا، وتعزيزًا لقدر نبيِّه وتعظيمًا؛ فقال ــ ولم يزل متكلمًا عليمًا ــ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد الذي حففتَه بأعلى مشاهد العزِّ والجلالة، وهديتَنا به من الضلالة، وعلَّمتَنا به من الجهالة؛ وعلى آله وصحابته [أجمعين]. وارضَ اللهم عن أوَّلِ مؤمنٍ به من رجال أمته، من أكرمتَه بالهداية والتوفيق: أبي بكرٍ الصديق. وارضَ اللهم عن الفاروق بين الخطأ والصواب: أمير المؤمنين أبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ الخطاب. وارضَ اللهم عن شهيد الدار، المتخلِّقِ بالإيمان والإحسان: أمير المؤمنين أبي عُمَرَ عُثمانَ بنَ عفَّان. وارضَ اللهم عن صَفِيِّ النبيِّ وابنِ عمِّه، القانتِ الأوَّاب: أميرِ المؤمنين علي بن أبي طالب، الملقَّب بحَيدَرة، الـمَكْنِيِّ بأبي تراب. وارضَ اللهم عن الستَّة المتمِّمين للعشرة، وعن أهل بيعةِ الرِّضوانِ والشجرة. وعن كافة أصحابه الـمَهْدِيِّين، وعن جميع المحسنين من أتباعهم إلى يوم الدين([1]) .



([1]) من خُطب الشيخ العلامة عبدالرحمن المعلِّمي -رحمه الله- ضمن آثاره- المجلد(22)بتصرف يسير.

المرفقات

1725519775_خطبة عن قصر الأمل وحضور الأجل للشيخ المعلِّمي رحمه الله.docx

1725519802_خطبة عن قصر الأمل وحضور الأجل للشيخ المعلِّمي رحمه الله.pdf

المشاهدات 671 | التعليقات 0