قصة نوح عليه السلام
فهد عبدالله الصالح
ما بعد: لقد قص الله علينا في كتابه الكريم سير بعض أنبيائه الكرام عليهم الصلاة والسلام، ممن تقع جرائم أقوامهم في هذه الأمة، تسلية لرسوله وحبيبة محمد صلى الله عليه وسلم، ودروساً للدعاة والمصلحين لأن نفوس المفسدين في كل زمان متقاربة ووسائلهم في محاربة الحق متشابه، وقصص الأنبياء والمرسلين هي موعظة لكل مؤمن ليقتدي بهم ويتربى على منهجهم.
ونحن اليوم - أيها الإخوة في الله - مع رسول من رسل الله الكرام، مع نوح عليه الصلاة السلام، فحياته حياة شاقة مريرة، ومحنته مع قومه محنة شديدة أليمة، فقد أقام بينهم قرونا طويلة، فلم ير إلا آذانا صمًّا وقلوباً غُلفاً وعقولاً متحجرة، لقد كانت نفوسهم أيبس من الصخر، وأفئدتهم أقسى من الحديد، لم ينفعهم نصح أو تذكر، ولم يزجرهم وعيد أو تحذير, كلما أزداد لهم نصحا ازدادوا له عناداً، وكلما ذكرهم بالله زادوا ضلالاً وفساداً, لا يلتفتون إلى دعوة الناصح لهم ولا يبالون بتحذيره وإنذاره وقد مكث تسعمائة وخمسين عاماً داعياً ومذكرا وناصحاً، وسلك عليه الصلاة والسلام جميع الطرق الحكيمة معهم لإنقاذهم من الكفر والضلال، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، وكانت دعوته لهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، ومع ذلك لم تلن قلوبهم، ولم تتأثر نفوسهم، ولم يقبلوا بالحق أو يؤمنوا بالله ورسوله.
أيها المسلمون: ولما يأس نوح عليه السلام من إيمان قومه بعد هذه الفترة الطويلة من الزمن أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح بأنه لن يؤمن من قومه أحد بعد القلة القليلة من الذين آمنوا به كما قال تعالى: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) عند ذلك التجأ نوح عليه السلام إلى الله بالدعاء على قومه المكذبين بالهلاك والدمار، فاستجاب الله دعاءه فأعلمه بأنه سيهلكهم بالطوفان فلا يبقى منهم أحد، وأوحى إليه بأن يصنع السفينة ليركب فيها هو وجماعته المؤمنون، ولم يكن لنوح عليه السلام ولا لغيره معرفة بصنع السفن، ولذلك أوحى الله إليها صنعا وعلمه كيف ينبغي أن تكون عليه السفينة كما قال تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) وأمره تعالى بعدم مراجعته في شانهم لأن عذابه عز وجل إذا جاء لا يرد عن القوم المجرمين، ولعل نوحاً عليه السلام قد تدركه رقة عند معاينة العذاب النازل بهم فيرحمهم.
وأخذ نوح عليه الصلاة والسلام يصنع السفينة بأمر الله ووحيه، وجعل قومه يمرون عليه فيهزؤون ويسخرون ويقولون له: صرت نجاراً يا نوح بعد أن كنت نبياً؟ ويقولون: ماذا تقصد يا نوح بهذه السفينة؟ وأين الماء الذي سيحملها وهي في البر بعيداً عن البحر؟ وجابههم عليه السلام بكلمة قوية كشفت عما ينتظرهم من ذلة وهوان بما كسبت أيديهم في الدنيا، وما ينتظرون في الآخرة من عذاب مقيم كما ورد في القران الكريم (قال إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم)، والمعنى: إنا واثقون من مصيركم المحزن ونهايتكم الأليمة، ولسوف ترون بأعينكم وتلمسون بأيديكم من منا الذي سيلحقه الخزي والعار والعذاب والدمار في الدنيا، ثم يحل عليه بعد ذلك عذاب الآخرة وهو العذاب الدائم الأليم، ثم جاء أمر الله بإحقاق الحق وإبطال الباطل، ففار التنور، ولعل كلمة التنور وإطلاقها على الأرض من باب التشبيه لها بالفرن على أساس ما يوجد في باطنها من الكتل النارية الملتهبة، والتي نشاهدها عند تصاعد النيران من البراكين والله أعلم، وكان للناس عجبا أن يتفجر ماء الطوفان من موقد النيران، ولكن كانت هي العلامة التي أوحي الله بها إلى نوح ليعلم أن ساعة القصاص قد حانت، وأن أمر الله قد نفذ في أعداء دينه فلما ظهرت العلامة ركبوا في السفينة، وأرسل الله من السماء مطرا لم تعهده الأرض قبله ولا بعده كأنه أفواه القرب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر إرجائها كما قال تعالى: ( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجرى بأعيننا جزاءً لمن كان كفر)، وركب نوح ومن آمن معه في السفينة، وكانوا عدداً قليلاً في حدود الأربعين وقيل سبعة عشر ما بين رجل وامرأة، كما ورد في بعض الروايات، وأمر الله بأن يحمل معه في السفينة من كل حيوان وطير ووحش وغيره زوجين اثنين لئلا ينقرض قال تعالى: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من قد سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل).
وفي هذا الجو العجيب والوقت العصيب - أيها المؤمنون - يتطلع نوح إلى ابنه كنعان الذي لم يركب مع إخوته الثلاثة، فيراه قد فر إلى جهة لم يكن قد وصلها الماء، فيناديه بعاطفة الأبوة وقلبه الرحيم (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)، ولكن الابن الجاحد المعاند لا يلبي دعوة الرحمة والحنان، ولا يجيب داعي الإيمان، بل يركب رأسه ويمضى في ركاب الشيطان قائلاً: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ناسياً أن هذا ليس سيلاً عادياً تصده التلال وتعصم منه الجبال والمرتفعات، إنما هو أمر الله وقدره النافذ الذي لا عاصم منه إلا رحمته لمن يشاء من عباده (قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)، وهكذا يمضي الولد العاق سادراً في غيه وضلاله مع الكفار الجاحدين حيث حلت عليهم النقمة وأدركهم الموت (وقيل بعداً للقوم الظالمين).
وكان نوح عليه السلام – أيها المسلمون – مطمئنتا إلى وعد الله له بالنجاة له ولأهله وللمؤمنين معه، وواثقاً أيضا بمصير الظالمين ونهايتهم الأليمة، وأيقن حق اليقين أن الله قد استجاب دعاءه، وحينئذ تذكر نوح ابنه وتذكر قول الله له (إنا منجوك وأهلك) فظن أن ابنه ممن كتبت لهم النجاة لأنه من أهله، ونسي الشرط الأساسي للنجاة وهو الإيمان بالله فلجأ إلى الله قائلاً: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) فعاتبه الله عز وجل حيث قال سبحانه: (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين)، وعند ذلك تذكر وأناب وطلب من الله المغفرة والرحمة (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين).
الخطبة الثانية
وبعد - أيها المؤمنون - لقد انتهى الطوفان بعد أن غرق أهل الأرض في زمن نوح عليه السلام، ولم يبق إلا من آمن وركب السفينة، وكان انتهاء الطوفان بعد أن أمر الله السماء أن تكف المطر وأمر الأرض تبتلع الماء الذي غمرها، وأن تعود الحياة كما كانت على ظهر الأرض، حيث كانت قد وصلت السفينة إلى جبل يسمى الجودي, قال تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين)، وحين استقرت السفينة على الجودي وغاض الماء أمر الله نوحاً ومن معه أن ينزلوا منها بسلام وأمان وبركات من العزيز الرحيم.
وهكذا كانت حياة نوح عليه السلام مع قومه وبعد أن مكث وعاش زمناً وقروناً طويلة وهو يدعوهم إلى الله، وهي سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول، فأما المؤمنون فينجيهم الله برحمته جزاء إيمانهم وأما الكافرون المعادون فيكون عاقبة أمرهم خسرا.
ألا فاتقوا الله - أيها المؤمنون - واعتبروا بما قصه الله علينا وذكرنا به، فسنة الله واحدة وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب أو قرابة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).