قصة نبي الله هود عليه السلام
عبدالرحمن سليمان المصري
قصة نبي الله هود عليه السلام
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ،صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ وسَلَّمَ تَسلِيماً كَثِيراً ، أمَّا بَعد :
أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالَى فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عباد الله: ذَكَرَ اللهُ تَعالَى في كِتَابهِ قِصَصاً كَثيرةً لأَنْبِيائِهِ ، مع ما لَاقُوهُ منَ المَصَاعِبِ ، في طَرِيقِ دَعوَتِهمْ مع أَقوَامِهمْ ؛ لِبَيانِ صَبْرِهمْ واجْتِهَادِهمْ ، وكَوْنِ العَاقِبَةِ لَهمْ ، ولِتَثْبِيتِ قَلْبِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ﴾يوسف:111
ومنْ تِلكَ القِصَصِ ؛ قِصَّةُ نَبيِّ اللهِ هُودٍ عَليهِ السَّلامِ ، معَ قَومِ عَادٍ ، وكَانُوا عَرَباً يَسْكُنونَ الأَحْقَافَ بين عُمانٍ وَحضْرَمَوْتٍ ، بِأَرضٍ مُطلَّةٍ على الْبَحرِ يُقَالُ لها الشِّحْرُ ، وكانُوا كَثيراً ما يَسْكُنونَ الخِيامَ ذواتِ الأَعْمِدَةِ الضِّخَامِ ، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾الفجر:6-8.
وكانَ قَومُ عَادٍ ؛ أَوَّلَ منْ عَبَدَ الأَصْنَامَ بَعْدَ الطُّوفانِ ، وكَانُوا يُنكرونَ اليَوْمَ الآخرَ ، وَالبَعثَ والنُّشُورِ ، ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ المؤمنون: 37.
فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ أَخَاهُمْ هُوداً عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَدَعَاهُمْ إلى التَّوحِيدِ وعِبَادَةِ اللهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، قال تعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ الأعراف:65.
وكانَ هُودٌ عَليهِ السَّلام : في غَايَةِ النُّصحِ لِقَومِهِ ، والشَّفَقَةِ عَلَيهِمْ والحِرْصِ على هِدَايَتِهِمْ ، لا يَبْتَغِي مِنْهُمْ مَصْلَحَةً ولا أَجراً ، فَأَمَرهُمْ بِعِبادَةِ اللهِ ورَغَّبَهُمْ في طَاعَتِهِ واستِغفارِهِ ، ووعَدَهُمْ على ذلك خَيْرَي الدُّنيَا وَالآخِرةِ ، فاتَّهمُوهُ بِالسَّفَهِ وَالكَذِبِ ، ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ الأعراف:65.
عباد الله : ثمَّ إِنَّهمْ ادَّعَوا أنَّ آلِهَـتِهُمْ قَدْ غَضِبَتْ عَلَى هُودٍ فأَصَابَتْهُ بِالجُنُونِ ، فَتَبرّأَ نَبيُ اللهِ من آلِهَـتِهِمْ ، وبينَ لَهم أنَّها لا تَنفَعُ ولا تَضرُّ ، وتَحدَّاهُمْ من أَنْ يَمسَّهُ شَيءٌ مِنهُمْ ، أو مِنْ آلِهَـتِهِمْ ، فقال: ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ هود:55-56.
عباد الله: ثُمَّ إنَّ هُوداً عَلَيهِ السَّلامَ أَنكرَ عَليهِمْ إِسْرَافَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ ، منْ بِنَاءِ الأَبْنِيةِ المُحكَمةِ البَاهِرةِ ، عَبَثاً ولَهواً وَإِظْهَاراً لِلْقُوَّةِ ، ثُمَّ شَرَعَ يُذَكِّرُهُمْ نِعَمَ اللهِ عَلَيهِمْ ، فقال: ﴿ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ الشعراء:132-135.
ثُمَّ إِنَّهمْ كَذّبُوه ُوتَحدَّوْهُ بِإِنْزَالِ العَذَابِ عَلَيْهِمْ ، فَاسْتَحَقُوا مِنَ اللهِ الرِّجْسَ وَالْغَضَبَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ،﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ... ﴾الآية الأعراف: 70-71.
عباد الله : وكانَ أولَ ما ابتَدَأَهمُ العَذَابُ ، أنَّ اللهَ مَنَعَ عَنهُمْ المطرَ ثَلاثَ سِنينَ ؛ حتى أَصَابَهُمْ الجَهدُ ، وكانَ النَّاسُ إذا جَهَدَهُمْ أَمرٌ في ذلكَ الزَّمَانِ ، إِنَّمَا يَطلبُونَهُ بِحَرَمِهِ ومَكَانِ بَيْتِهِ ، فَبعَثُوا وَافِداً لَهمْ ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَعرِفُهُ ، فَأقَامَ عِندَهُ شَهْراً يَسْقِيهِ الخَمْرَ ، فَلما مَضَى الشَّهْرُ خَرجَ إلى جِبَالِ تِهَامَةَ ، فَأَخَذَ يَسْتَسْقِي ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ ، فَنُودِيَ منها: اخْتَرْ لِقَوْمِكَ ، فَأَوْمأَ إلى سَحَابَةٍ منها سَوْدَاءَ ، فَنُودِيَ منها: خُذْهَا رَمَاداً رِمْدَداً ، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَداً.
وَسَاقَ اللهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ إلى عَادٍ ، فلما رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وقَالُوا هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، فقال الله: ﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ الأحقاف
فَسلَّطَ اللهُ عليهمْ رِيحاً بَاردةً شَدِيدَةِ الْهَبُوبِ ، ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ وكَانَت الرِّيحُ تَحْمِلُهُمْ فِي الْهَوَاءِ ; ثُمَّ تُنَكِّسُهُمْ عَلَى رُؤوسِهِمْ فَتَشْدَخُها فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ ، ﴿ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾الحاقة:6-8 .
وَنَجَّى اللهُ هُوداً عَلَيْهِ السَّلَامُ ومنْ آمنَ معهُ ، ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾الأعراف:72 .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أما بعد :
عباد الله: لقَدْ كانَ قَومُ عَادٍ جُفَاةً كَافِرِينَ ، عُتَاةً مُتَمَرِّدِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُوداً عَلَيْهِ السَّلام فَدعَاهُمْ إلى اللهِ تَعالى ، فَكذَّبُوهُ وخَالَفُوهُ وتَنقَّصُوهُ ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ .
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، فَذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَأَعْقَبَتِ الْحَسَرَاتِ ، وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، وَعُذِّبُوا طَوِيلًا .
عباد الله : اعْتَبِرُوا بِمَا قَصَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ ، فَالقَصَصُ القُرْآنِيُّ لِلْعِبْرَةِ وَالعِظَةِ ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَر:
أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الغَايَةَ الَّتِي خُلِقَ الخَلْقُ لِأَجْلِهَا ، وَهُوَ أَعْظَمُ القُرُبَاتِ وَأَفْضَلِهَا ، وَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الأَعْمَالِ كُلِّهَا ، ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾الأنعام:88 .
وَمِنْهَا أَنَّ البَطَرَ والتَّبَاهِي بِالقوَّةِ وشِدَةِ البَطْشِ عَاقِبَتُهُ وَخِيمَةٌ ، قالَ تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾فصلت:15-16.
هَذا وصَلُّوا وسَلِّمُوا على منْ أَمركُمْ اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَليهِ ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب :156.
اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على عَبدِكَ ورَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ .
المرفقات
1713464359_قصة نبي الله هود عليه السلام خطبة جمعة.pdf