قصة نبوية مبكية

راشد بن عبد الرحمن البداح
1440/02/09 - 2018/10/18 20:57PM

10 صفر 1440هـ . إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له. وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أما بعد:

فلنرحل بقلوبنا ووجداننا، لنرحل إلى هناك مع رسول الله e في دعوته، حيث الصبر، وطول الأمل واليقين والثبات.

فهاهي أمنا تستنطق رسول الله e، وتستروي خبره ومسيرته مع دعوته، تسترويه أحداثَ ما لم تحضره من أحواله، وإذ بها تسأله فتقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟

كانت أمنا عائشة صغيرة السن، لكنها ذكية ولماحة؛ لأنها تعلم ماذا لقيه النبي e في يوم أحد؛ ففي أحد شج جبينه ، وكسرت رباعيته، وغاصت حلقتان من حلقات المغفر في وجنتيه، وصُرع سبعون من أصحابه حوله، وأهمهم عمه حمزة، وقد وقف على جثمان عمه، وقد بُقر بطنه، واستخرجت أحشاؤه، ومُثِّل به.

هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟

كانت تسأل رسول الله e وكأنما تنكأ جراحاً غائرة في نفسه حين يقول: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ.

فهل ثمت موقف مرَّ أشد من ذلك؟ نعم؛ أشد من ذلك ما سيرويه رسول الله e حين يقول: وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ.

فما خبر هذا العرض؟ نحتاج أن نتذكرَ ما لم يُذكر ونستظهرَ المضمرَ، فالنبي e قضى أزيد من عشر سنين قبل الهجرة في دعوة وصبر على أذى أهل مكة، وازداد أذاهم حين مات عمه أبو طالب، فخرج عله أن يجد في الطائف أذاناً مصغية تستجيب لدعوته وتحمل هديه وهداه، خرج إلى الطائف ماشياً طريقاً يزيد على مائة كيلو من الطريق المعروف بطريق السيل، وبقي هناك عشرةَ أيام يعرض فيها دينَ الله ويبلغ رسالتَه، ويغشاهم في مجتمعاتهم يقرأ عليهم القرآنَ.

عشرةُ أيام قضاها النبي e لا يواجَه إلا بالصدود والإعراض، فلما خشي ملأُ أهل الطائف من رسول الله e أن يستميل الناس إليه أغروا به سفهاءهم، فردوا عليه أقبحَ الرد، حتى قال له بعضهم: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ؟! بل كانوا أخسَّ مما يُتوقع، حين طردوه ووقفوا له صفين يرمونه بالحجارة. فأصيب  e في أقدامه، فسالت منها الدماء.

وإذا بنبيك e يرجع إلى مكة وهو يواجه بهذا الصدود، يرجع حزيناً مكلوم الفؤاد مغموم النفس، لكن كيف سيدخلها وقد طرد منها؟ فيحزن أشد الحزن، وتتراكب الهموم على القلب الكريم الطيب، فلا يَتنفس ولا يُنفِّس عن ذلك إلا بدعوات يَصدع بها السماء قائلاً: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ([1]).

إنه دعاء مكروب مغموم يصدع السماء. ولكنه دعاء فياض بالرضى عن الله والثقة بنصره، وتأييده لعبده المؤمن مهما كانت شدّة الكرب, ومهما بلغ ضغط المحنة. فالمؤمن الصادق لا يبالي بكل ما يصيبه ما دام الله راضيًا عنه. _________________

 

عاد e مغموماً فإلى أي درجة بلغ غمه؟ يصف ذلك فيقول: فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ. وقرنُ الثعالب هو السيل الكبير يبعد عن الطائف ستةً وأربعين كيلو قطعها رسول الله e مشياً، ولكنه في حال شديدة من الاستغراق مع غمه وهمه.

وحين اشتد الهم وبلغ ليل الظلم ظلمته نزل جبريل ومعه ملك الجبال. قال: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فقال e: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا([2]).

 ورجع رسول الله e من الطائف إلى مكة ومر به وهو يصلي بالليل نفر من الجن من أهل نصيبين وسنه يومئذ خمسون سنة، فآمنوا وولوا إلى قومهم منذرين. ثم عاد  إلى مكة، فلم يستطع دخولهَا إلا تحت جوار رجل مشرك، ألا وهو المطعم بن عدي. وبعد سنة ونصف من حادثة الطائف تأتيه البشرى، والآيات الكبرى لقد بلغ السماء السابعة، حيث أسري به في اليقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وذلك قبل الهجرة التي كانت فرَجًا، قبلها بسنتين.

إِلهَنا وَجْهُكَ أَكْرمُ الوُجُوه وَجَاهُكَ أَعْظَمُ الجَاه. اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ بِنُوْرِ وَجْهِك الكَرِيم الذِي أشْرَقَتْ لَهُ السَّمَواتُ والأرْضِ وبِاسْمِك العَظِيْمِ أنْ تَقْبَلَنَا في هَذِهِ السَّاعَةِ وتَرْضَى عَنَّا رِضًا لا سَخَطَ بَعْدَهُ أبَدًا.

اللهم يا قَرِيْبًا مِمَّنْ دَعَاه، يا حَلِيْمًا على منْ عَصَاه. اللَّهُم ما عَصَيْنَاك جَهْلاً بعُقُوْبَتِكَ، ولا تَعَرُّضًا لِعَذَابِك، ولَكِنْ غَرَّنَا سَتْرُكَ عَليْنَا، فارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِك،وأطْمَعَهُمْ كَثْرَةُ إِفْضَالِك.

([1])الدعاء للطبراني (ص: 315). قال ابن كثير في تفسيره (7/ 267): إنه دُّعَاءٌ حَسَن. واختاره الضياء في الأحاديث المختارة (9/ 181)

([2])صحيح مسلم (1795)

المرفقات

مر-عليك-يوم-أشد-عليك-من-أحد

مر-عليك-يوم-أشد-عليك-من-أحد

مر-عليك-يوم-أشد-عليك-من-أحد-2

مر-عليك-يوم-أشد-عليك-من-أحد-2

المشاهدات 2454 | التعليقات 0