قصة موسى عليه السلام .. ويوم عاشوراء
إبراهيم بن سلطان العريفان
1436/01/07 - 2014/10/31 08:08AM
الحمدُ لله الذي قصَّ علينا من نبأِ المرسلينَ ما فيه عبرةٌ لأولي الألباب، نحمدُه سبحانَه ونشكره أعزَّ المؤمنين، ونصرَ أولياءه المتقين، وأذلَّ الطغاة وأهلك المستكبرين ، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك لَه ربُّ الأرباب العزيزُ الوهّاب ، ونشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه، بعثه الله بخيرِ دينٍ وأشرفِ كتاب ، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه، صلاة وسلامًا نرجو بها النجاة يوم الحساب.
معاشر المؤمنين .. اتقوا الله تعالى حق التقوى، واشكروه على ما أنعم به علينا ؛ أمنٌ في الأوطان، وصحة في الأبدان، ورغد في العيش. لم ينلها كثير ممن كان قبلنا، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً. وأعلى هذه النعم وأرفعها قدرًا نعمة الإسلام الذي هدانا الله له، وأضل عنه كثيرًا من الناس، فاللهم لك الحمد على نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة ، خلقتنا ورزقتنا وهديتنا ، كبتَ عدونا، وبسطت أمننا، وأوسعت رزقنا, ومن كلِّ ماسألناك ربي أعطيتنا.
عباد الله .. لقد قصَّ الله علينا في كتابه الكريم قصةُ صراعٍ طويل بين الحقِّ والباطل,
فقد ابتلى الله بني إسرائيلَ بفرعونَ فالذي عَلا عليهم وسامَهم سوءَ العذاب كما قال تعالى ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) فأراد الله أنْ يُنقِذهم بموسى ابن ِعمران َ عليه السلام
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِيالْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ )
وتأمَّل يا عبد الله ... رعاية الله لأنبيائه وأوليائه .. لقد حُذِّر فرعونُ من أَحدِ غلمانِ بني إسرائيل، وأمُّ موسى خافت على وليدها من بطشِ فرعونَ وجندِه، فيشاءُ اللهُ أنْ يتربّى الغلامُ في بيت الطاغية فرعونَ منذُ طفولته لِيَغْذِيَهُ ويُرَبِّيَهِ، فيتربَّى موسى في قصرِ فرعونَ تحت رعايتِه وإشرافِه، وفرعونُ يوفِّر له كلَّ احتياجاته، وفرعونُ يبحثُ بنفسه لموسى عن المراضع (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) وتنتهي مدةُ الرضاع ، ويبلغُ موسى أشُدَّه، ويكتملُ نضجَه. وفي يوم من الأيام .. وبينما موسى يتجوَّلُ في المدينة، في وقت تغفو فيه العيون ُ(فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ) فأجمعوا أمرهم ليقتلوا موسى انتقامًا، فنصحه ناصحٌ بالخروج من البلاد (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) حتى دخل مدين وقضى فيها أبرَّ الأجلينِ وأوفَاهما، ثم استأذن صِهرَه في الرجوع إلى مصر التي قَتل فيها رجلاً بالأمس! مصر التي خرج منها خائفاً يترقب! تُرى هل نسي موسى عليه السلامُ ما كان منه؟ هل نسي أنَّهم يطلبونه ثأراً ؟ إنِّها إرادة الله! إنِّه القدرُ الذي ذكّر اللهُ به موسى ( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَا مُوسَىَ ) وفي الطريق اشتدَّ البردُ، وفقد النَّار، وضلَّ الطريق، وبينما هو في هذه الظروف القاسية (إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) فأتى موسى عليه السلام النارَ فإذا هي نورٌ عظيمٌ يتلألأ ، وعندها خيرٌ كثير (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) وهنا نُبِّئَ موسى وأُرسلَ عليه السلام، ويأتيه الأمرُ الإلهي بالبدء بالدعوة والذهاب إلى رأس الكفر والطغيان (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) وموسى يعرفُ من هو فرعون ! فيسألُ اللهَ العونَ وتيسيرَ الأمرِ وشرحَ الصدرِ، ويأخذُ موسى أخاه هارونَ ويتوجهان إلى فرعون، ويبدأُ دعوةَ فرعونَ وملئِه بادئًا خطابه بقوله (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) هكذا من أوَّلِ لحظة، ليُشعِره أنه ليس رباًّ ولا إلهاً، وأنَّه مربوبٌ لربِّ العالمين. فيتعجَّبُ فرعونُ لما يرى ويسمعُ، فآخر العهد بموسى أنَّه كان ربيباً في قصره ، وأنَّه هرب من القتل (قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ • وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ • قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ ) بل ويطلب منه ( فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى ) ويسألُ فرعون بتعجب أوَلَكَ ربَّاً وإلهاً غيري !! قالَ فيجيب المؤمن بقوة ويقين ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وبعد الحوار وانتصار موسى على السحرة .. يلجأُ فرعون إلى القوةِ ويهدِّدُ بالسجن والعذاب، وهذه لغةُ الطغاة والمجرمين، قَالَ ( لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ )
أيُّها المسلمون .. وحين نتجاوزُ كثيرًا من المشاهدِ والمواقفِ ونصلُ إلى نهاية القصَّة نجدُ العبرَ والدروسَ ، فهذا موسى والمؤمنونَ معه يفرِّونَ بدينِهم من وجهِ الطاغيةِ بأمرِ الله، ويُصرُّ فرعونُ وجندُه على الَّلحاق بهم، بل ويرسلُ فرعونُ في المدائن حاشرين.
بعدما تدخل أهلُ الأهواءِ والمصالحِ والمطامعِ، ليهيِّجُوا فـرعونَ على موسى ومن معه، ويخوفونـه عاقبة التهاون في أمرهـم، ثم ها هو المشهد يقترب من نهايته، والمعركةُ تصلُ إلى ذِروتِها، فها هو موسى وقومَه بوحي ٍمن الله ( فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ) فصاروا أمامَ البحر ليس معهم سفينةٌ، ولا يملكون خوضَه، وما هم بمسلحين، وقد قارب فرعونُ وجنودُه يطلبونَهم وهم لا يرحمون، فالبحر أمامَهم والعدوُّ خلفَهم ( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ويبلغُ الكربُ مداه، ويصل الضيقُ منتهاه، إلا أنَّ موسى عليه السلام بقينه بنصر الله ( قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فالبحرُ والسمواتُ والأرضينُ والبشرُ كلُّهم ملكٌ لله يُصرِّفُهم كيف يشاء، ثمَّ ها هو طريق النجاة ينفتح من حيث لا يحتسبون ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) فسبحان أحكمَ الحاكمين، ينشقُّ طريقٌ يابسٌ وكأنَّه لم تصبه قطرةُ ماء، والبحرُ صار كالجبالِ العظيمة واقفًا ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال، ثمَّ تسيرُ الطائفةُ المؤمنةُ واللهُ يرقبُها وبالحفظِ يكلؤها، تسيرُ واثقةً بنصرِ الله مؤمنةً بوعدِ الله،
ولكنَّ العناد والطغيان والتجبُّرَ المتأصِّلَ في نفسِ فرعونَ أبى عليه إلا السيرَ خلفهم، فلمَّا تكاملَ قومُ موسى خارجين من البحر وتكامل قومُ فرعونَ داخلين في البحر حتى إذا ادّاركوا في البحر جميعاً، جاءهم الموج من كلِّ مكان، وجعل يرفعهم ويخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وجاءته سكرة الموت فنادى ( آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فجاء الرد الحاسم القوي ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَال البحر يعني التراب فأدسّه في فيه، مخافة أن تدركَه الرحمة ) فأمرَ اللهُ بحره أنْ أطبقْ عليهم، وصدق الله ( وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) وجعل الله فرعون آية لكل طاغية عبرة وعظة (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنِّه هو التوَّابُ الرحيم .
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وليِّ الصالحين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلام على سيِّد المرسلين، وإمامِ المتقين، وقدوةِ الناس أجمعين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً. أما بعد: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
إخوة الإيمان : وبين البدء والنهاية في هذه الملحمةِ العظيمة التي وقعت في اليوم العاشر من شهرِ الله المحرَّم عددٌ من الدروس والعبر ، فما برحت أجيالٌ تلوَ أجيالٍ تقفُ عندها، وتأخذ منها عبرَها.
ومن أعظم الدروس والعبر .. أن يشعُرَ المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، فإنّ يومَ نجاةِ موسى عليه السلام من فرعون لَيومُ فرحٍ عظيم، فإنَّه كما نَجَى موسى عليه السلام وصام شكرا لله ، فإنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال (والأنبياء أخوة لِعَلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ) فلم يزل المسلمون يتواصون بسنة محمد صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم، يرجون بِرَّه وفضلَه. وقد قال عليه السلام ( وصيامُ يومِ عاشوراءَ إنِّي أحتسبُ على الله أن يكفِّر السنة َالتي قبله ) .
فقدروا يامؤمنون لهذا اليوم قدره، وسارعوا فيه إلى الطاعة، واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا تطوعاً لله يوماً قبله أو يوماً بعده وإن صمتم الثلاثة فذلك أكمل.
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
معاشر المؤمنين .. اتقوا الله تعالى حق التقوى، واشكروه على ما أنعم به علينا ؛ أمنٌ في الأوطان، وصحة في الأبدان، ورغد في العيش. لم ينلها كثير ممن كان قبلنا، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً. وأعلى هذه النعم وأرفعها قدرًا نعمة الإسلام الذي هدانا الله له، وأضل عنه كثيرًا من الناس، فاللهم لك الحمد على نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة ، خلقتنا ورزقتنا وهديتنا ، كبتَ عدونا، وبسطت أمننا، وأوسعت رزقنا, ومن كلِّ ماسألناك ربي أعطيتنا.
عباد الله .. لقد قصَّ الله علينا في كتابه الكريم قصةُ صراعٍ طويل بين الحقِّ والباطل,
فقد ابتلى الله بني إسرائيلَ بفرعونَ فالذي عَلا عليهم وسامَهم سوءَ العذاب كما قال تعالى ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) فأراد الله أنْ يُنقِذهم بموسى ابن ِعمران َ عليه السلام
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِيالْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ )
وتأمَّل يا عبد الله ... رعاية الله لأنبيائه وأوليائه .. لقد حُذِّر فرعونُ من أَحدِ غلمانِ بني إسرائيل، وأمُّ موسى خافت على وليدها من بطشِ فرعونَ وجندِه، فيشاءُ اللهُ أنْ يتربّى الغلامُ في بيت الطاغية فرعونَ منذُ طفولته لِيَغْذِيَهُ ويُرَبِّيَهِ، فيتربَّى موسى في قصرِ فرعونَ تحت رعايتِه وإشرافِه، وفرعونُ يوفِّر له كلَّ احتياجاته، وفرعونُ يبحثُ بنفسه لموسى عن المراضع (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) وتنتهي مدةُ الرضاع ، ويبلغُ موسى أشُدَّه، ويكتملُ نضجَه. وفي يوم من الأيام .. وبينما موسى يتجوَّلُ في المدينة، في وقت تغفو فيه العيون ُ(فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ) فأجمعوا أمرهم ليقتلوا موسى انتقامًا، فنصحه ناصحٌ بالخروج من البلاد (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) حتى دخل مدين وقضى فيها أبرَّ الأجلينِ وأوفَاهما، ثم استأذن صِهرَه في الرجوع إلى مصر التي قَتل فيها رجلاً بالأمس! مصر التي خرج منها خائفاً يترقب! تُرى هل نسي موسى عليه السلامُ ما كان منه؟ هل نسي أنَّهم يطلبونه ثأراً ؟ إنِّها إرادة الله! إنِّه القدرُ الذي ذكّر اللهُ به موسى ( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَا مُوسَىَ ) وفي الطريق اشتدَّ البردُ، وفقد النَّار، وضلَّ الطريق، وبينما هو في هذه الظروف القاسية (إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) فأتى موسى عليه السلام النارَ فإذا هي نورٌ عظيمٌ يتلألأ ، وعندها خيرٌ كثير (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) وهنا نُبِّئَ موسى وأُرسلَ عليه السلام، ويأتيه الأمرُ الإلهي بالبدء بالدعوة والذهاب إلى رأس الكفر والطغيان (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) وموسى يعرفُ من هو فرعون ! فيسألُ اللهَ العونَ وتيسيرَ الأمرِ وشرحَ الصدرِ، ويأخذُ موسى أخاه هارونَ ويتوجهان إلى فرعون، ويبدأُ دعوةَ فرعونَ وملئِه بادئًا خطابه بقوله (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) هكذا من أوَّلِ لحظة، ليُشعِره أنه ليس رباًّ ولا إلهاً، وأنَّه مربوبٌ لربِّ العالمين. فيتعجَّبُ فرعونُ لما يرى ويسمعُ، فآخر العهد بموسى أنَّه كان ربيباً في قصره ، وأنَّه هرب من القتل (قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ • وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ • قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ ) بل ويطلب منه ( فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى ) ويسألُ فرعون بتعجب أوَلَكَ ربَّاً وإلهاً غيري !! قالَ فيجيب المؤمن بقوة ويقين ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وبعد الحوار وانتصار موسى على السحرة .. يلجأُ فرعون إلى القوةِ ويهدِّدُ بالسجن والعذاب، وهذه لغةُ الطغاة والمجرمين، قَالَ ( لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ )
أيُّها المسلمون .. وحين نتجاوزُ كثيرًا من المشاهدِ والمواقفِ ونصلُ إلى نهاية القصَّة نجدُ العبرَ والدروسَ ، فهذا موسى والمؤمنونَ معه يفرِّونَ بدينِهم من وجهِ الطاغيةِ بأمرِ الله، ويُصرُّ فرعونُ وجندُه على الَّلحاق بهم، بل ويرسلُ فرعونُ في المدائن حاشرين.
بعدما تدخل أهلُ الأهواءِ والمصالحِ والمطامعِ، ليهيِّجُوا فـرعونَ على موسى ومن معه، ويخوفونـه عاقبة التهاون في أمرهـم، ثم ها هو المشهد يقترب من نهايته، والمعركةُ تصلُ إلى ذِروتِها، فها هو موسى وقومَه بوحي ٍمن الله ( فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ) فصاروا أمامَ البحر ليس معهم سفينةٌ، ولا يملكون خوضَه، وما هم بمسلحين، وقد قارب فرعونُ وجنودُه يطلبونَهم وهم لا يرحمون، فالبحر أمامَهم والعدوُّ خلفَهم ( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ويبلغُ الكربُ مداه، ويصل الضيقُ منتهاه، إلا أنَّ موسى عليه السلام بقينه بنصر الله ( قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فالبحرُ والسمواتُ والأرضينُ والبشرُ كلُّهم ملكٌ لله يُصرِّفُهم كيف يشاء، ثمَّ ها هو طريق النجاة ينفتح من حيث لا يحتسبون ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) فسبحان أحكمَ الحاكمين، ينشقُّ طريقٌ يابسٌ وكأنَّه لم تصبه قطرةُ ماء، والبحرُ صار كالجبالِ العظيمة واقفًا ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال، ثمَّ تسيرُ الطائفةُ المؤمنةُ واللهُ يرقبُها وبالحفظِ يكلؤها، تسيرُ واثقةً بنصرِ الله مؤمنةً بوعدِ الله،
ولكنَّ العناد والطغيان والتجبُّرَ المتأصِّلَ في نفسِ فرعونَ أبى عليه إلا السيرَ خلفهم، فلمَّا تكاملَ قومُ موسى خارجين من البحر وتكامل قومُ فرعونَ داخلين في البحر حتى إذا ادّاركوا في البحر جميعاً، جاءهم الموج من كلِّ مكان، وجعل يرفعهم ويخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وجاءته سكرة الموت فنادى ( آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فجاء الرد الحاسم القوي ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَال البحر يعني التراب فأدسّه في فيه، مخافة أن تدركَه الرحمة ) فأمرَ اللهُ بحره أنْ أطبقْ عليهم، وصدق الله ( وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) وجعل الله فرعون آية لكل طاغية عبرة وعظة (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنِّه هو التوَّابُ الرحيم .
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وليِّ الصالحين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلام على سيِّد المرسلين، وإمامِ المتقين، وقدوةِ الناس أجمعين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً. أما بعد: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
إخوة الإيمان : وبين البدء والنهاية في هذه الملحمةِ العظيمة التي وقعت في اليوم العاشر من شهرِ الله المحرَّم عددٌ من الدروس والعبر ، فما برحت أجيالٌ تلوَ أجيالٍ تقفُ عندها، وتأخذ منها عبرَها.
ومن أعظم الدروس والعبر .. أن يشعُرَ المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، فإنّ يومَ نجاةِ موسى عليه السلام من فرعون لَيومُ فرحٍ عظيم، فإنَّه كما نَجَى موسى عليه السلام وصام شكرا لله ، فإنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال (والأنبياء أخوة لِعَلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ) فلم يزل المسلمون يتواصون بسنة محمد صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم، يرجون بِرَّه وفضلَه. وقد قال عليه السلام ( وصيامُ يومِ عاشوراءَ إنِّي أحتسبُ على الله أن يكفِّر السنة َالتي قبله ) .
فقدروا يامؤمنون لهذا اليوم قدره، وسارعوا فيه إلى الطاعة، واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا تطوعاً لله يوماً قبله أو يوماً بعده وإن صمتم الثلاثة فذلك أكمل.
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
المشاهدات 2450 | التعليقات 2
بارك الله فيك شيخ إبراهيم ونفع بك ونشكرك على تواجدك وحضورك الملفت.
ناصح أمين
بارك الله فيك شيخنا الجليل و حقا إنها لعبرة . شموعُ الحقّ يا فرعَونُ لا تخضع! . . لغير الله لا تركع ! : فخذ ما شئت من جسدي[font="] .. وكل ما شئت من كبدي . . فلو مرت سيوف القهر من حلقي[font="] [/font]ولو دَسُّوا جَحِيمَ الكَوْنِ في عِرْقِي[font="] [/font]. . فلن تقوى على حَقّي . . [font="] [/font]لأن الحَقّ من أحداقنا يسطع . . وذا التوحيد من أعماقنا ينبع ! . . فلن نركع . . ولن نمشي على أربَع . . ! [font="]
[/font] شموعُ الحقّ يا هامانُ لا تركع . . ! : فإن مَرّت جَحَافِلُكُم[font="] [/font]. . وإن طالت سلاسِلُكُم . و إن تحرِق . . وإن تشنِق .. وإن تقطَع . . فلن نمشي على أربع . . [font="] [/font][font="] [/font]ولن نركع . . ! [/font]
تعديل التعليق