قصة مفلس

شايع بن محمد الغبيشي
1444/11/20 - 2023/06/09 00:45AM

قصة مفلس

الحمد لله ريب العالمين والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } [النساء: 131]

أما بعد عباد الله: قصة مفلس، كان يملك مالاً وفيراً يعقد الصفقات لا يخلو اسبوعاً دون صفقة رابحة يشتري العدد من السيارات ويبيعها أقساطاً وبتهور في صفقة واحدة في سوق الأسهم يخسر كل ما يملك ليصبح مديناً لبعض تجار المعارض ويودع بسبب ذلك السجن لعجزه عن السداد فلا تسل عن عظيم معانته وحسرته إنه يتجرع غصص الإفلاس، وأخر يعمل في المقاولات يجني منها أربحاً كثير، كثير من الناس يحرص على التعاقد مع شركته لجودة إعماره وسرعة إنجازه وبصفقة واحدة غير محسوب يخسر كل تجارته فلا تسل عن عظيم معانته وحسرته إنه الإفلاس، وما أدراك ما الإفلاس؟! هذه صورٌ للإفلاس وله صور أخرى منها:

1/ الإفلاس في البذل والعطاء داء عضال تبأس معه الحياة، إنه الشح والبخل، يفيض الله عليك من ماله ويبسط عليك رزقه ثم تبخل به على نفسك وأهلك وأرحامك، وبدل أن تسعد به وتستمع وتُسعد من حولك تحرم نفس وأهلك من رزق الله ولذا جاء التحذير من هذا الخلق الذميم فعن عبدِ الله بن عمرو، قال: خَطَبَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - فقال: "إيَّاكم والشُّحَّ، فإنما هَلَكَ مَن كان قَبلَكم بالشُّحِّ: أمرهم بالبُخلِ فبَخِلُوا، وأمرَهم بالقَطيعةِ فقَطَعُوا، وأمرَهم بالفُجُور ففَجَرُوا" رواه الترمذي

وعن أبي هريرةَ قال: سمعتُ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلم- يقول: "شَرُّ ما في رجُلٍ شُحٌّ هالعٌ وجُبنٌ خالعٌ " رواه الترمذي وصححه الألباني.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ " رواه الإمام أحمد بسند صحيح

2/ ومن صور الإفلاس، الإفلاس في الأخلاق فسيء الخلق مبغوض مكروه لا يألف ولا يؤلف ينفر منه أقرب الناس إليه  وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : (اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ ) رواه الإمام أحمد  و هو الذي قال الله عنه { و إنك لعلى خلق عظيم  } عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ , أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا ، وَإِنَّ أَبْعَدَكُمْ مِنِّي وَأَبْغَضَكُمْ إلَيَّ , أسَاوِئكُمْ أَخْلاَقًا , الثَّرْثَارُونَ , الْمُتَشَدِّقُونَ , الْمُتَفَيْهِقُونَ). البيهقي وصححه الألباني.

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا , الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا , الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ , وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ» رواه الطبراني وصححه الألباني.

3/ ومن صور الإفلاس، الإفلاس في بذل الحب والرحمة فهو من أعظم الإفلاس، فإذا نزع من القلب الحب والرحمة شقي صاحب ذلك القلب وشقي به من يعاشره  عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ» رواه البخاري.

 وعن عائشة، قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» رواه ابن حبان وصححه الألباني.

الحب رزق من الله قالها النبي صلى الله عليه لعائشة عندما غارت من حبه لخديجة فقال :( إني رزقت حبها )

كان محمد صلى الله عليه وسلم يجود بالحب لكل من يعاشره فما أجمل أن نشيع الحب في حياتنا مع الوالدين ومع الزوجة والأبناء ومع الإخوة والأخوات والأرحام.

4/ ومن صور الإفلاس، الإفلاس في القيم، يظهر في أقبح صوره فمن يتحدث عن الصدق ولا يتورع عن الكذب ومن يحث على الأمانة وهو يمارس الخيانة ومن يكثر القول وهو أبعد ما يكون عن العمل والتطبيق لما يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]

ومن ذلك عدم نشر القيم وغرسها والبخل بالتربية عليها، إن الأجيال في أمس الحاجة إلى التربية على القيم فتقديم المعلومة دون التربية على القيم الفاضلة إفلاس لا ينفع المتربي شيئاً وإنما بعث محمد صلى الله عليه وسلم لتربية النفوس وتزكيتها { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]

الخطبة الثانية:

الحمدُ، مِلْءَ السَّمواتِ، ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما شِئتَ مِن شيءٍ بعدُ أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لِما أعطَيتَ، ولا مُعطيَ لِما منَعتَ، ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:

أما بعد: عباد الله: وهناك صور أخري للإفلاس أنكى أشد لا يمكن معه الاستدراك لأنها إفلاس في عرصات القيامة من تلك الصور:

5/ الشرك بالله عز وجل بصرف العبادة لغيره من الدعاء او النذر أو الذبح أو الاستغاثة لنبي أو ولي أو ملك {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 22، 23]

6/ الظلم والاعتداء على الآخرين بالغيبة والنميمة والبهتان والسب والشتم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ»؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه الترمذي وصححه الألباني، يا للخسارة ويا للبوار أن تٌضيّع حسنات أعمالك الصالحة من صلاة وصيام وصدقة وذكر، فتراها تقسم يوم القيامة على خصومك، فأي إفلاس و أي خسارة أعظم من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

7/ ومن صور الإفلاس ذنوب الخلوات، يختفي العبد بالمعصية عن أعين الناس ويكون الله أهون الناظرين إليه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا» ، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: «أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

8/ ومن صور الإفلاس، الإفلاس في كسب الحسنات والتمادي في كسب السيئات، ونسيان الكثير منا أن ميزان الربح والخسارة يوم القيامة هو بكثرة الحسنات أو قلتها فبها تثقل الموازين يوم القيامة أو تخف {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)}  يقضى الساعات الكثيرة في اللهو والغفلة والنوم ويقصر في أداء الصلوات دقائق معدودة ويبخل على نفس بالنوافل، التي تجبر له تقصيره  حتى الوتر الذي يحبه الله يبخل أن يأتي ولو ركعة واحدة وينسى أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلَاةُ»، قَالَ: " يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلَائِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ: انْظُرُوا فِي صَلَاةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ، قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ " رواه أبو داود وصححه الألباني

يعلم أن الحرف من كتاب الله بعشر حسنات فيبخل على نفسه بصفحة في اليوم يكسب بها خمسة آلاف حسنة ويقضي الساعات الكثير يقلب بصره في جواله إما في لهو وغفلة وإما في ما حرم الله، فكيف سيكون ميزان العبد يوم القيامة نسأل السلامة.

 

المرفقات

1686260736_قصة مفلس.pdf

المشاهدات 1160 | التعليقات 0