قصة ماشطة ابنة فرعون للشيخ د. صالح بن مبارك دعكيك

شادي باجبير
1445/01/18 - 2023/08/05 14:21PM

خطبة: قصة ماشطة بنت فرعون
للشيخ د. صالح بن مبارك دعكيك
ألقيت في مسجد آل ياسر، المكلا، ٢٠٢٣/٨/٤م

                      الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين...

      أمابعد، فإن أعظم ما يمتلك المؤمن بين جنبيه إيمانه بالله -تعالى- الكبير المتعال، الإيمان أغلى وأقدس وأعظم ما يقع في القلوب، وحينما تهب ريح الإيمان فإنه يصنع العجائب، في دنيا تعلق الناس بنعيمها وأموالها وشهواتها، فكانت الدنيا أكبر همومهم وغمومهم، وربما باعوا دينهم بدنياهم عياذاً بالله تعالى.

      اليوم نتطرق إلى نموذج من نماذج الإيمان، نموذج استخف بالدنيا وزخرفها، بل بعتاة الكفر وجبروتهم، إنه استعلاء الإيمان عندما يخالط بشاشته القلوب، والعجيب في هذا النموذج أنه نموذج من النساء اللاتي هن أضعف من الرجال، فكم علت النساء على الرجال!

     نعيش اليوم مع نموذج المرأة المؤمنة الصابرة " ماشطة بنت فرعون"، نعم، لم يحفظ التاريخ اسمها، لكنه حفظ فعلها، ورفع الله ذكرها، وأكرمها بجنات الخلد مع أولادها، فلما أسري برسول الله -ﷺ- شم رائحتها في الجنة، فما خبر هذه المرأة؟ وما خبر هذه الماشطة، التي يوجد ريحها في أعلى عليين؟

     إنها امرأة صالحة كانت تعيش هي وزوجها في ظل ملك فرعون اللعين، زوجها مقرب من فرعون، وهي خادمة ومربية وماشطة شعر بنات فرعون.

    آمنت مع من آمن بعد قصة السحرة مع فرعون، حينما ظهرت معجزة موسى والعصا الربانية، آمن فئام من الناس، ولكنهم أخفوا إيمانهم؛ خوفاً من جبروت فرعون وقومه، كما قال تعالى : {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس 83].

      فمنَّ الله عليها وعلى زوجها بالإيمان، فلم يلبث زوجها أن علم فرعون بإيمانه فقتله، فلم تزل الزوجة تعمل في بيت فرعون، تُمَشِّطُ بنات فرعون، وتنفق على أولادها الخمسة، تطعمهم كما تطعم الطير أفراخها.

     فبينما هي تُمَشِّطُ ابنة فرعون يوماً، إذ وقع المشط من يدها، فقالت : بسم الله. فقالت ابنة فرعون: الله أبي؟ فصاحت الماشطة بابنة فرعون: كلا، بل الله ربي ، وربُّك، وربُّ أبيك. فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها، فقالت لها: أخبر أبي؟ قالت: نعم.

     فأخبرت البنت أباها الفرعون، فعجب أن يوجد في قصره من يعبد غيره! فدعا الماشطة، وقال لها: من ربك؟ قالت: ربي، وربك الله رب العالمين. فغضب وأمرها بالرجوع عن دينها، فلم ترجع، فحبسها وضربها، فلم ترجع عن دينها،  فأمر فرعون بقدر من نحاس فملئت بالزيت، ثم أحمي حتى غلا وفار الزيت، وأوقفها فرعون أمام القدر، فلما رأت العذاب أيقنت أنما هي نفس واحدة، تخرج وتلقى الله -تعالى- كما تلقى زوجها، فعلم فرعون أن أحب الناس إليها أولادها الخمسة الأيتام، الذين ملأوا قلبها حباً وشغفا، فأراد أن يبدأ بعذابهم قبلها؛ لترجع عن إيمانها، أو ليحترق قلبها قبل أن تحترق أجسادهم الطرية.

     فجيء بهم تدور أعينهم، ولا يدرون إلى أين يساقون، فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون، فانكبت عليهم تقبلهم، وتشمهم، وتضمهم وهي تبكي، وأخذت رضيعها وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها، فلما رأى فرعون هذا المنظر أمر بأكبرهم فجره الجنود، ودفعوه إلى الزيت المغلي، والغلام يصيح بأمه، ويستغيث ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون، ويحاول الفكاك والهرب، والجنود يصفعونه ويدفعونه، وأمه تنظر إليه، فما هي إلا لحظات حتى ألقي الصبي في الزيت، حتى إذا ذاب لحمه، وافترق عن جسمه النحيل، وطفحت عظامه بيضاء فوق الزيت، وفاح ريح اللحم المشوي، وأمه تبكي لا تكاد تصدق ما يحدث! نظر إليها فرعون، وأمرها بالكفر بالله، والعودة لعبادته ودينه، فأبت عليه ذلك.

      فغضب فرعون، وأمر بولدها الثاني، فسحب من عند أمه، وهو يبكي ويستغيث، فما هي إلا لحظات حتى ألقي في الزيت، فطفحت عظامه بيضاء، واختلطت بعظام أخيه، والأم ثابتة على دينها، موقنة بلقاء ربها.

     ثم أمر فرعون بالولد الثالث، فسحب وقرب إلى القدر المغلي، ثم حمل وغيب في الزيت المغلي، وفعل به ما فعل بأخويه ... والأم ثابتة على دينها.

      فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت المغلي، فأقبل الجنود إليه، وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه، فجذبه الجنود من بين يديها، وهي تحاول أن تودعه، وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها، فحالوا بينه وبينها، وحملوه من يديه الصغيرتين، وهو يبكي ويستغيث، ودموعه تجري على خديه، ويتوسل بكلمات غير مفهومة، وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي، وغاب الجسد، وانقطع الصوت، وشمت الأم رائحة اللحم، وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها، فجاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك وكان الله لها.

     وجاء دور الخامس، إنه الطفل الرضيع، فأمر فرعون به إلى القدر المغلي، وانتزعه الجنود من بين ثدييها، فلما انتزع منها، صرخ الصغير، وبكت المسكينة، فلما رأى الله -تعالى- ذلها وانكسارها وفجيعتها برضيعها، أنطق الصبيَّ في مهده، وقال لها : يا أماه اصبري، فإنك على الحق. ثم انقطع صوته عنها، وغيِّب في القدر مع إخوته، فطفحت وفاحت رائحته.

     وذهب الأولاد الخمسة، انتزعوهم وألقوهم في القدر المغلي، وهي تنظر إليهم واحداً واحدا، وها هي عظامهم يلوح بها القدر، فلا إله إلا الله، ما أظلم الطغاة! وما أقسى قلوبهم!

     كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب، بكلمة كفر تُسْمِعها لفرعون، لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى. 

       لم يبقَ إلا هي، فأمر فرعون المجرم زبانيته، فأقبلوا إليها كالكلاب الضارية، ودفعوها إلى القدر، فلما حملوها ليقذفوها في الزيت التفتت إلى فرعون، وقالت: لي إليك حاجة. فصاح بها، وقال: ما حاجتك؟ فقالت: أن تجمع عظامي وعظامَ أولادي، فتدفنها في قبر واحد. ثم أغمضت عينيها، وألقيت في القدر، واحترق جسدها، وطفت عظامها. فلله درها! ما أعظم ثباتها! وأكثر ثوابها!

     ولقد رأى النبي -ﷺ- ليلة الإسراء شيئاً من نعيمها، فحدّث به أصحابه، وقال: (لما كانت الليلة التي أسري بي فيها، أتت علي  رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها). فحكى جبريل قصتها لرسول الله ﷺ. رواه أحمد (2821)، وإسناده حسن، والحاكم (3835)، وصححه ووافقه الذهبي.

     الله أكبر، تعبت قليلاً، لكنها استراحت كثيراً ... مضت هذه المرأة المؤمنة إلى خالقها، وجاورت ربها، ويرجى أن تكون اليوم في (جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) [سورة القمر: ٥٤-٥٥] وهي اليوم أحسن منها في الدنيا حالاً .. وأكثر نعيماً وجمالاً ..

     روى مسلم (2836)، من حديث أبي هريرة مرفوعا: ( من دخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، وله في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). ومن دخل إلى الجنة نسي عذاب الدنيا .

      أيها الأحبة، إنه الشوق إلى الله وابتغاء رضاه، والوصول إلى نعيمه وجنانه، والنظر إليه، هو الذي ساق الماشطة فباعت نفسها، وأولالدها، وحيلتها لله عز وجل؛ لتصل إلى مقصودها وبغيتها.

      إن طريق الجنة ليس محفوفاً بالورود، ولكن محفوفاً بالمكاره، وطرق النار محفوفة بالشهوات، كما ثبت في الصحيحين: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). فالله نسأل ان يثبتنا على دينه، ويوردنا مرضاته. 

  أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

                       الخطبة الثانية

الحمدلله...

     أما بعد، فإن هذه الصورة العظيمة، التي لا تكاد تتكرر على مدار التاريخ، إنما صنعتها امرأة، لم تصنعها بقوتها، بل بقوة الله، ولولا أنها تملك من قوة الإيمان، ورباطة الجأش ما تملك، لما استطاعت أن تقف هذا الموقف الذي ينهزم فيه أكابر الرجال.

     إنها ملاحم الإيمان، وثبات العقيدة، وصبر الاستقامة، ويقين العبودية، وإيثار ما عند الله -تعالى- على الولد والنفس والحياة، فما أرخص هذه الحياة، إن زال عنها الإيمان!

      إنها امرأة ، نعم امرأة، ومع ضعفها، وقلة حيلتها، وهوانها على الناس، إلا أن الله نصر بها الدين، في موقف بغيظ للكفر ولأهله، ويقيناً أنه يوم أسود لفرعون وجنوده، كيف تتحداهم هذه المرأة الضعيفة باستعلائها بإيمانها، وتجاهلها لكل اغراءات الكفر! ويقينا هو يوم لم تمحه ذاكرة فرعون، وأقض مضجعه، ولم تزل الصورة تراوده، وكأنه عصفور أمام قمة المرأة بإيمانها وثباتها.

     إنها دروس في رباطة الجأش، والاستهانة بالباطل وجنوده، وكسر أنف دعاة الألوهية وراكبي جواد الجبروت، وإضعاف نفوسهم واستصغار عظمتهم المجوفة، وعدم الاكتراث بعنجهيتم وسلطاتهم ودولتهم وقوانينهم.

     إنها دروس في صدق الإيمان، وثبات العقيدة، وصمود الدين، واليقين بوعد الآخرة، وأنها خير وأبقى، وقد أنطق الله رضيعها تثبيتاً لها، فقال -كما في رواية الإمام أحمد-:( يَا أُمَّهِ اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَاقْتَحَمَتْ).

    إنها دروس في صدق الاستقامة على دين اله تعالى، وبذل النفس والنفيس لمرضاة الله تعالى، وإظهار دينه وشرعه، فلا يتقدم على الإيمان دنيا، ولا ولد، ولا مال، ولا جاه، ولا شهوات، ولا ملذات، وإن الواحد منا اليوم تغلبه نفسه، وملذاته، وشهواته، وتتقدم على إيمانه بالله، وتقديم محابه سبحانه وتعالى.

     الواحد منا اليوم يقدم نومه على صلاة الفجر، ويقدم شهواته على حقوق الله، ويؤْثر الباطل، والغناء، والسهرات، على الصلوات، والمساجد، وطرق الخير.

لا يستطيع بعضنا أن يقطع جلسات المنكر، وعلاقات الحب المحرمة، وأموال السحت والحرام، فيغلّب شهواته المحرمة على الإيمان، وطاعة الله تعالى، والاستقامة على دين الله، وتلك المراة المسكينة جادت بنفسها وأولادها وحياتها لله تعالى، فقدمت مرضاته على مرضاة فرعون، ورضيت بالاحتراق في الزيت على متعة الحياة مع الباطل والكفر.

  إنها دروس ودروس،  في تلك القصة التي لا تتكاد أن تتكرر في تاريخ الإيمان واليقن والصدق. 

     نسأل الله أن يثبتنا على دينه، وأن يثبتنا على طاعته، ويوفقنا لمرضاته! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب! وصلوا وسلموا على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المشاهدات 1947 | التعليقات 0