قصة قارون: عاقبة التكبر بالمال والجحود - أ. : شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1439/04/22 - 2018/01/09 12:22PM

من أعظم مغازي سوق القصص في القرآن الكريم: تحقيق الاعتبار والاتعاظ بأحوال السابقين؛ حيث يقف المسلمون والمشركون على السواء على أحوال من تقدمهم من الأمم السابقة فيعتبر ذوو الألباب ويتعظون، وفيها التسلية الكاملة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه من حيث يقفون على أخبار الرسل وأممهم وكيف كانت العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين المعاندين، وفي هذا تثبيت لهم وشحذٌ لعزائمهم؛ كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف: 35]، وقال: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين) [هود: 120].

 

فالقصص القرآني علاج للقلوب، ودواء للنفوس لما فيها من أخبار الأمم وما حلَّ بالعاصين من عاجل بأس اللّه.

 

فأهلُ اليقين وغيرهم إذا تلوها تراءى لهم من ملكه وسلطانه وعظمته وجبروته حيث يبطشُ بأعدائهِ ما تذهلُ منه النفوسُ وتشيبُ.

 

وموضوعنا اليوم عن واحدة من القصص القرآني التي تكشف عواقب التكبر بنعم الله وجحود شكرها، والتعالي على أمر الله وطاعة رسله.

 

أولاُ: آيات قصة قارون:

ورد ذكر قارون في القرآن الكريم في سورة العنكبوت، وسورة غافر، وورد ذكر قصته بتفصيل أكثر في سورة القصص وهي السورة التي سيدور حولها حديثنا وتفاصيل القصة من البداية إلى النهاية، قال تعالى: (إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 76 – 83].

 

ولأن القصة من قصص بني إسرائيل فإن معظم الأخبار التي وردت ورويت في كتب التفسير إنما في الأساس مستقاة من أخبار بني إسرائيل وكتبهم وصحفهم التي كانت موجودة أيام الصحابة، وقد غنم بعض الصحابة في الفتوحات الإسلامية الكثير من هذه الصحف والكتب؛ مثل ما غنمه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- في معركة اليرموك بالشام.

 

وبالتالي فبعض تفاصيل القصة التي وردت عن نسب قارون وصلته بموسى -عليه السلام- وقرابته له، ونفاقه وكفره بعد إيمانه، كلها من أخبار بني إسرائيل التي لا تُصدق ولا تُكذب، فقد قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وزاد فقال: “هو قارون بن يصهب بن قاهث، وموسى ابن عمران بن قاهث”، قال ابن جرير: “وهذا قول أكثر أهل العلم أنه كان ابن عم موسى، ورد قول ابن إسحاق أنه كان عم موسى، قال قتادة: وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله، وقال شهر بن حوشب: “زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه”.

 

ثانياً: السياق العام للآيات:

السياق العام للآيات التي وردت فيها قصة قارون تكشف عن عظمة القرآن الكريم أنه من عند عزيز حكيم، فكما في القرآن إعجاز بلاغي، ففيه أيضا إعجاز موضوعي، وإعجاز في ترتيب الآيات في السور كافة.

 

بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضلالة وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة، ومناداتهم على رؤوس الأشهاد بما يفضحهم ويبين لهم سوء مغبتهم.

 

أعقبه بقصة قارون ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت في الدنيا والآخرة؛ فقد أهلك قارون بالخسف، وزلزلت به الأرض، وهوت من تحته، ثم أصبح مثلا يضرب للناس في ظلمه وعتوّه، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة، وما يكون لهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة؟

 

وقال الخطيب: “مناسبة قصة قارون هنا، هي أن الآيات السابقة كانت تعرض مواقف المشركين من رسول اللّه، ومن الكتاب الذي بين يديه، وقد جمعت بينهم وبين فرعون، وجعلت منه ومنهم جبهة واحدة، تمثل الكفر، والعناد، والعتوّ، والفساد في الأرض”.

 

ثالثاً: التفسير المجمل لآيات القصة:

قوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) [القصص: 76] هو استحضار لأهل الكتاب في شخص اليهود، ثم استدعاء لليهود في شخص أغنيائهم، وأصحاب الثراء فيهم، ممن هم على شاكلة أبيهم قارون، وهذا الاستدعاء هو نذير لليهود من قبل أن يلقاهم الرسول لقاء مباشرا، حتى يأخذوا حذرهم لأنفسهم من أن يقفوا من قومهم موقف قارون في أجدادهم؛ حين يدعوهم الرسول إلى اللّه، فيتصدّى منهم قارون أو أكثر من قارون لهذه الدعوة؛ فإنهم إن فعلوا أخذهم اللّه كما أخذ قارون من قبل، ففي قوله تعالى: (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي خرج من محيطهم، وانحاز إلى فرعون، ونسى أنه على دين يلتقى مع هذا الدين الذي جاء به موسى.

 

وقد جاءت الأيام بصدق هذه الصورة فيما كان بين أغنياء اليهود من تحالف بينهم وبين المشركين على محاربة الدعوة إلى الإسلام، سرا وجهرا، فكان أن أخذهم اللّه بما أخذ به المشركين، كما أخذ اللّه قارون بما أخذ به فرعون، أي إن قارون الذي أصبح مضرب المثل والغنى والثروة والظلم والعتو كان من بني إسرائيل، فتجبر وتكبر بكثرة ماله، وتجاوز الحد في ظلمهم، وطلب منهم أن يكونوا تحت إمرته، مع أنه قريبهم:

 

وظلم ذوي القربى أشد غضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد

 

وقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص: 76] “الفاء” هنا للتعقيب بمعنى أن هذا الذي آتاه اللّه قارون من كنوز قد كان بعد أن بغى على قومه، وانحاز إلى فرعون، وفي ذلك استدراج من اللّه -سبحانه وتعالى- له؛ حتى يغرق في الغى والبغي.

و “ما” في قوله تعالى: “ما إِنَّ” اسم موصول، وهو وصلته صفة للكنوز، أي أن اللّه -سبحانه وتعالى- آتاه من المال الذي مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة.

والمفاتح جمع مفتح، مثل كوكب، والمراد بالمفاتح هنا: المداخل التي يدخل منها على هذا المال، وهو لكثرته ونفاسته قد شددت الحراسة عليه.

وفي إسناد الفعل إلى المفاتح، وهي المداخل إلى هذه الأموال، وجعلها هي التي تنوء بالعصبة أولى القوة إشارة إلى ما قام على هذه الكنوز من قوى شديدة ذات بأس من الخزنة والحرس، حتى إنها لتنوء، وتضعف عن حمل هذه القوى القائمة عليها، يقال: ناء بالحمل، إذا ضعف عن حمله، لثقله عليه.

وكذلك المداخل التي يدخل منها على هذا المال الكثير تنوء بما عليها من حراس أقوياء، أي وأعطيناه من الأموال النقدية والعينية المدخرة التي يثقل بحمل مفاتيح خزائنها العصبة “الجماعة الكثيرة” القوية من الناس.

 

فنصحه الوعاظ بمواعظ خمس:

1- النهي عن الفرح بالباطل: قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76] أي قال له جماعة من بني إسرائيل من النصحاء حينما أظهر التفاخر والتعالي: لا تبطر ولا تفرح بما أنت فيه من المال، فإن اللّه لا يحب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون اللّه على ما أعطاهم، ولا يستعدون للآخرة، أي يبغضهم ويعاقبهم؛ كقوله تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 23] المراد بالفرح هنا: فرح الزهو والعجب والخيلاء، فهو فرح متولد من تلك المشاعر التي تحرك في صاحبها دوافع البغي والتسلط. أما الفرح على إطلاقه فليس بالمكروه، إذا كان عن قلب يجد لفضل اللّه وإحسانه موقعا منه؛ كما يقول سبحانه: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) [الروم: 4].

وفي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) إشارة إلى أن الفرح المكروه، هو الفرح المبالغ فيه، والذي يخلى نفس صاحبه من كل شعور بقدرة اللّه، وبما لهذه القدرة من تصريف في شؤون العباد، وتقلّب أحوالهم.

فلو ذكر المرء هذا في حال من أحوال فرحه لتخفف كثيرا مما هو فيه من فرح، ولعلم أنها حال لا تدوم، وأنه إذا لم يكن في مجريات الأحداث ما يقطع هذه الفرحة، قطعها الموت، وما وراء الموت من حساب وجزاء.

 

2- العمل للآخرة: قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) [القصص: 77] أي استعمل ما وهبك اللّه من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة.

 

3- التوسط في أمر الدنيا: قال تعالى: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77] أي لا تترك حظك من لذات الدنيا التي أباحها اللّه من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والزواج؛ فعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: “آخَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ فإني صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: “إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ” فَأَتَى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِي: “صَدَقَ سَلْمَانُ”، وهذه هي وسطية الإسلام في الحياة.

 

4- استعمال الإحسان: قال تعالى: (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص: 77] أي وأحسن إلى خلقه كما أحسن الرب إليك، وهذا أمر بالإحسان مطلقا بعد الأمر بالإحسان بالمال، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه، وحسن اللقاء، وحسن السمعة، أي أنه جمع بين الإحسان المادي، والإحسان الأدبي أو الخلقي.

 

5- النهي عن الفساد: قال تعالى: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77] أي ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس، فإن اللّه يعاقب المفسدين، ويمنعهم رحمته وعونه وودّه.

 

وقد استقبل قارون هذه الدعوة الحكيمة الرشيدة بالاستخفاف والتحدي، شأنه في هذا شأن من غطى على بصره ما امتلأ به كيانه من أشر وبطر، فجعل كل نصح يلقى إليه، دبر أذنه، ومن وراء ظهره، فقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78] أي قال قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: “أنا لا أحتاج لما تقولون، فإن اللّه -تعالى- إنما أعطاني هذا المال، لعلمه بأني أستحقه، ولمعرفتي وخبرتي بكيفية جمعه، فأنا له أهل؛ كما قال تعالى: (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الزمر: 49] أي على علم من اللّه بي، وقال سبحانه: (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) [فصلت: 50] أي هذا أستحقه.

 

بعد أن ذكر فيما سلف بغى قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولو القوة؛ أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو في أبهى حليّه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفى ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنّوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم اللّه لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتى قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين: إن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيّق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولو لا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.

 

وبعد أن ذكر سبحانه قول أهل العلم بالدين: ثواب اللّه خير؛ أعقب ذلك بذكر محل هذا الجزاء، وهو الدار الآخرة وجعله لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يترفعون على الناس، ولا يتجبرون عليهم، ولا يفسدون فيهم، بأخذ أموالهم بغير حق، ثم بين بعدئذ ما يحدث في هذه الدار جزاء على الأعمال في الدنيا، فذكر أن جزاء الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا علام الغيوب، فضلا من اللّه ورحمة وجزاء السيئة مثلها، لطفا منه بعباده، وشفقة عليهم.

 

أهم الدروس والعبر من قصة قارون:

1- المال فتنة عظيمة إذا لم يتق العبد فيه ربه -جل وعلا-، فالمال والمنصب العالي عرضة لإفساد المرء إلا من رحم الله -عز وجل- وقليل ما هم؛ فإن كثرة المال محنة وبلاء، وسبب للطغيان والفساد، وقد توقع صاحبه في البغي والبطر ،فإن المال فتنة، قال تعالى: (إنَّمَا أمْوَالُكُمْ وَأوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ) [التَّغَابُن: 15]، فيمتحن الله بهذا المال عباده.

ووجه الفتنة في المال أنه يوقع صاحبه في الشحّ والبخل، وعدم القيام بشكره بإخراج حق الله فيه، كما أن كثرة المال تسهل عليه سبل الترف والطغيان وبطر النعمة، فيصير من المترفين الطاغين البطرين؛ فعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ” (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى؟”، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “فَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ؟”، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ” ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فقَالَ: “هَلْ تَعْرِفُ فُلَانًا”؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “فَكَيْفَ تَرَاهُ وَتَرَاهُ؟” قُلْتُ: إِذَا سَأَلَ أُعْطِيَ، وَإِذَا حَضَرَ أُدْخِلَ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فقَالَ: “هَلْ تَعْرِفُ فُلَانًا؟” قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “فَمَا زَالَ يُحَلِّيهِ وَيَنْعَتُهُ حَتَّى عَرَفْتُهُ”، فَقُلْتُ: قَدْ عَرَفْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “فَكَيْفَ تَرَاهُ أَوْ تَرَاهُ؟” قُلْتُ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فقَالَ: “هُوَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ مِنَ الْآخَرِ”، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا يُعْطَى مِنْ بَعْضِ مَا يُعْطَى الْآخَرُ؟ فقَالَ: “إِذَا أُعْطِيَ خَيْرًا فَهُوَ أَهْلُهُ، وَإِنْ صُرِفَ عَنْهُ فَقَدْ أُعْطِيَ حَسَنَةً”.

 

فالجاهل الذي لا علم لديه، أو علمه ناقص أو ضعف إيمانه، هو الذي يغترّ بماله، ويبطر  عند النعمة، فإن اللّه -تعالى- يعاقب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون نعمة اللّه -تعالى- عليهم.

واللّه -تعالى- وحده مصدر الخير والرزق، وما العبد إلا وسيلة، يجب عليه أن يعمل ويكتسب، واللّه هو الرازق الميسر له أسباب الرزق، المانح له الثراء والمال، فيكون هو المستحق للشكر على تلك النعمة.

 

فمن الغباء والجهل: أن ينسب الإنسان الخير والفضل لنفسه ومواهبه، أو يدعي أنه الحقيق الجدير بما أعطي، أو ينخدع بأن ما أعطيه دليل على محبة اللّه ورضاه عنه، فقد يكون العطاء فتنة واستدراجا، وليس قرينة الرضا والمودة؛ لذا كان اغترار قارون بكثرة ماله، وادعاؤه أنه أهل له عبثا باطلا.

 

ولكن لا يفهم من هذا أن المال مذموم في ذاته، بل الذم والمدح من جهة الاستخدام والأثر والتعلق؛ فعن عَمْرَو بْنِ الْعَاصِ قالَ: “بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلَاحِي، ثُمَّ آتِيَهُ قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: “يَا عَمْرُو إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُغْنِمُكَ اللهُ وَيُسْلِمُكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً صَالِحَةً مِنَ الْمَالِ”، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِي: “يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ”، وعَنْ سَعِيدٍ الطَّائِيِّ أَبِي البَخْتَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: “حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ”.

 

فالمسلم الحقيقي هو من ينبغي أن يكون لديه المال، فهو أمين على ما استخلفه الله فيه، يساعد الفقراء، ويجاهد في سبيل الله كما فعل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- بتجهيزه جيش العسرة؛ فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: “جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَمَا جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِصُرَّةٍ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ, فَوَضَعَهَا فِي حُجْرِ رَسُولِ اللَّهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ: “مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ” يُرَدِّدُهَا مِرَارًا”.

 

وامتدح اللهُ الرسولَ وأصحابَه، قال تعالى: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ وَأولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) [التَّوْبَةِ: 88]، وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التَّوْبَةِ: 20].

 

2- اعتدال المنهج الرباني فيما يخص الإنسان وعلاقته بالدنيا والآخرة، فقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ)، وقال: (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) فنلاحظ أن الله -عز وعلا- أكد أولاً على الآخرة، وأن يوظف الإنسان هذا المال الذي هو مال الله أصلاً في طاعة الله، والتقرب إليه بأنواع القربات، وأن لا يستخدم هذا المال فيما لا يحل له، وهذا المنهج الرباني ينبغي أن تعمل عليه الدول الإسلامية في توظيف ثروات وأموال المسلمين ومواردهم التي أنعم الله بها عليهم في طاعة الله وخدمة الإنسانية.

 

3- حرمة الفرح بالمال والإِمارة إذا كان الفرح فرح بطر وفخر واعتزاز وكبر وخيلاء، في الآية الأولى زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها، قال في أبو حامد الغزالي في الإحياء: “الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل، يسري في العروق، فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ، وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة، وهذا هو موت القلب -والعياذ بالله- فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها، وعودوا الصبر عن شهواتها، حلالها وحرامها، وعلموا أن حلالها حساب، وهو نوع عذاب، ومن نوقش الحساب عُذّب، فخلَصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله -تعالى- والاشتغال بطاعته”.

 

وقال يُمْن بن رزق: “اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب: أنْسُ القلب بالوحدة”.

 

وقال أهل العلم: “الفرح المنهي عنه هو البطر بمعنى الطغيان والتكبر عن قبول الحق عند ما يرى نفسه غنيّا، قال اللّه -تعالى-: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق: 6 – 7] في القاموس الفرح السرور والنظر، وفسر البغوي “لا تفرح” يعني لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح، وإنما ذلك لأن الفرح بمعنى السرور عند وجدان المرغوب أمر طبعي لا اختيار للعبد فيه فلا يتصور عنه النهي.

 

وقال البيضاوي: “والفرح بالدنيا مذموم مطلقا؛ لأنه يحبسه حبها والرضاء بها والذهول عن ذهابها؛ فإن العلم بان ما فيها من اللذات مفارقة لا فحاله توجب التبرج، ولذلك قال اللّه -تعالى-: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 23] وعلل النهى هاهنا بكونه مانعا من محبة اللّه إيانا، فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) بزخارف الدنيا المتكبرين بها غير شاكرين عليها”.

 

وقد ورد ذم الفرح في مواضع عديدة من القرآن، قال اللّه -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ) [غافر: 83]، وقال: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الرعد: 26]، وقال: (ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ) [غافر: 75]، وقال: (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ) [الأنعام: 44]، ولم يرخص في الفرح إلا في قوله تعالى: ((فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) [يونس: 58]، وقوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ) [الروم: 4 – 5].

 

والراجح: أن الفرح في الدنيا بما يفيد في الآخرة محمود مطلقا ومأمور به في قوله تعالى: (فَبِذلِكَ فليفرحوا).

والفرح بلذّات الدنيا إن كان مقرونا بالشكر فمحمود مأجور صاحبه بالقيام بواجب الشكر على نعم الله -عز وجل-.

وأما الفرح إذا كان مقرونا بالطغيان والكفران فمذموم حقّا.

فالمدح والذم إنما يتوجه إلى ما يتعلق به الفرح أو ما معه من الشكر أو الكفران.

وأما نفس الفرح والسرور بدرك المرغوب فأمر طبعي لا اختيار للعبد فيه، فلا يتوجه إليه التكليف غير أنه إذا أحب العبد اللّه صادقا لا يفرح إلا بما يرضى به ربه، ولا يحب اللّه إلا من يحبه فلا يحب اللّه من يفرح بمرغوبه من حيث هو مرغوبه لا من حيث هو مرغوب ربه -واللّه أعلم-.

المشاهدات 561 | التعليقات 0