قصة قارون

عبد الله بن علي الطريف
1437/03/14 - 2015/12/25 08:49AM
قصة قارون 13/3/1437هـ
أيها الإخوة: لقد قص الله تعالى في كتابه الكريم مجموعة من القصص للاعتبار بها، والإفادة منها فقال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111] أي قص الله علينا قصصَ الأنبياءِ والرسلِ مع قومِهم، حتى يعتبرَ بها أهلُ الخيرِ وأهلُ الشرِ، وأن من فعلَ مثلَ فعلِهم نالهُ ما نالهم من كرامةٍ أو إهانةٍ.
وهذه القصصُ ليست مفتراة ولا مختلقة وذكرُها في القرآنِ تأكيدٌ لها، وشاهد بصحتها وفيها تفصيلٌ لكل شيء يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه، ومن الأدلة والبراهين. وفي ذكرها هُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره؛ يحصل لهم الهدى، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل؛ تحصل لهم الرحمة..
ومن القصصِ التي قصها اللهُ تعالى علينا في كتابه الكريم قصةُ قارونَ.. ويلاحظ أن الله تعالى لم يذكر في سياق القصةِ الزمان ولا المكان لأن تحديد الزمانِ والمكانِ والملابسات لا يزيد في دلالتها شيئاً.. ولذلك ذكر اللهُ بأن قارونَ من قوم موسى عليه السلام فقط.. والقصة كما وردت في القرآن كافيةٌ لأداء الغرض منها وهو: كيف ينتهي سلطان المال والعلم بالبوار مع البغي والبطر والاستكبار على الخلق، وجحودِ نعمة الخالق.. كما تقرر حقيقة القيم فتُرَخِصُ من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمةِ الإيمانِ والصلاحِ مع الاعتدالِ والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علوٍ في الأرضِ ولا فساد..
أحبتي: تعالوا نستعرض القصة كما جاءت في كتاب الهأ تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ [ إذاً قارون من قوم موسى وسلك مع قومه مسلك البغي عليهم بسبب ثراءه] وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [ لقد كثرت كنوزُه وهي جمع كنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول، حتى أن مفاتيحه كان يثقلُ حملُها على العصبة من الرجال الشداد وهم كما في الصحاح: ما بين العشرة إلى الأربعين رجلاً، وقد قيل: إنها كانت من الجلود وإنها كانت تحمل على ستين بغلاً والله أعلم. من أجل هذا بغى قارونُ على قومه، وجعل اللهُ البغي مجهولاً ليشمل شتى صور البغي.. وقد وعظه النصحاءُ من قومه قائلين] إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) [وفي هذا القول جماعُ ما في المنهج الإلهي القويم من قيمٍ وخصائصَ يتفرد بها بين سائر مناهج الحياة.. نعم لقد قالوا له بكل وضوح وشفافية: "لَا تَفْرَحْ" فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ..
"لَا تَفْرَحْ" فرح البطر الذي يُنْسِي المنعم بالمال وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران..
"لَا تَفْرَحْ" فرح الذي يستخفه المال، فيُشْغِلُ به قلبَه ويطيرُ لَهُ لُبَّهُ ويتطاول به على العباد.. ثم يردونه إلى الله بقولهم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" المأخوذين بالمال المتباهين به والمتطاولين بسلطانه على الناس.. ويزيدون في توجيهه بقولهم:] وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) [وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم ذلكم المنهج الذي يعلق قلبَ واجدِ المالِ بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة بل يحضه على هذا ويكلفُه إياه تكليفاً، كي لا يتزهدَ الزهدَ الذي يهمل الحياةَ ويضعفُها.. على أن وجهتهم في هذا المتاع الدار الآخرة فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها.. والاستمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعمِ وتقبلٍ لعطاياه، وانتفاعٍ بها وهذا الاستمتاع والانتفاع من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.. فماذا كان جوابه لقومه على هذه النصيحة الصحيحة الفصيحة.؟ لقد كان جوابه سيئاً يحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جوابَ مغرورٍ مطموسٍ نسىَ مصدرَ النعمةِ وحكمتَها قد فتنه المال وأعماه الثراء؛ فلم يستمع لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه، ولم يخضع لمنهجه القويم.! وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وبطر ذميم ف] قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [يعني أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم ولا إلى ما إليه أشرتم فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه وأني أهلٌ له ولولا أني حَبِيْبٌ إليه وحظيٌ عنده لما أعطاني ما أعطاني فجاءه التهديد قبل تمام الآية رداً على قولته الفاجرة المغرورة:] أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [أي قد أهلكنا من الامم الماضين بذنوبهم وخطاياهم مَنْ هو أشدُ من قارونَ قوةً وأكثرُ أموالاً وأولاداً فلو كان ما قال صحيحاً لم نعاقب أحداً ممن كان أكثرَ مالاً منه ولم يكن مالُه دليلاً على محبتنا له واعتنائناً به كما قال تعالى (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ:37] وقال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55،56] وقارون نموذج مكرر في البشرية ففي الناس من يظن أن علمَه وكدَه هما وحدَهما سببُ غناه..! ومن ثم فهو غيرُ مسئولٍ عما ينفق وعما يمسك، وغيرُ محاسبٍ على ما يفسد بالمال وعلى ما يُصلح، ولا يحسِبُ لله أي حساب ولا ينظر إلى غضبه ورضاه..! ثم ختم الله الآية بقوله] وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) أي لِيُعْلَمَ وليَعْلَم هو وأمثاله من المجرمين الذين يبطرون بالنعم ولا يستمعون لنصح الناصحين أنهم إذا آنَ أوانُ عذابهم في الدنيا فلن يُسألوا عن ذنوبهم عند أخذهم بل يؤخذون فجأة. وفي الحديث الصحيح عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ، إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا شكر نعمته قولاً وعملاً وأن يجعلنا هداة مهتدين..
الثانية:
أيها الإخوة: انتهى الجزء الأول من القصة وقد تجلى فيه البغيُ والتطاولُ والإعراض عن النصح، والتعالي على الموعظة والإصرارُ على الفساد والاغترارُ بالمال، والبطرُ الذي يقعدُ بالنفس عن الشكران..
ثم يجيء الجزء الثاني منها حين يخرج قارونُ بزينته على قومه، وقد ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم من ملابسَ ومراكبَ وخدمٍ وحشمٍ قال الله تعالى عنه (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص:79]
فطارت لحاله قلوب طائفة من الناس ووقفوا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت لقد تهاوت نفوسهم أمام فتنة الحياة الدنيا وتمنوا لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، وهم يحسبون أنه أوتي حظٌ عظيم..
ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله والاعتزاز بثواب الله، والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80]
أيها الإخوة: وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتَها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، يقضي الهر أمره حداً للفتنة بالدنيا، ورحمةً بالناس الضعاف من إغرائها، فيحطم الجبارُ الغرورَ والكبرياءَ تحطيماً، وتجيء النهايةُ الحاسمةُ الفاصلة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص:81] وهكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) فابتلعته وابتلعت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقاً..
أما من تمنى مثل ما أوتي قارون فقد ندم، وشكر الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون ولهذا قالوا (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص:82] ومعنى ويكأن: ألم تر أن (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 76،83]
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء... وصلوا على نبيكم يعظم الهو أجركم..
المرفقات

929.doc

المشاهدات 1935 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا