قصة طالوت وجالوت:قانون الانتصار الكلي (1-2) أ.شريف عبدالعزيز -عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1441/11/27 - 2020/07/18 13:21PM

من عظمة القرآن الكريم أنه لا يخلق من كثرة الرد! فمهما درسناه تدبراً وتفسيراً وتفصيلاً هُدينا إلى معان جديدة، كأننا نطالعه لأول مرة، إذ يبوح لنا بأسرار متجددة كل مرة، وهذا سر عدم انقطاع تفاسير القرآن منذ نزوله على قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فالقرآن كان ومازال وسيظل مشكاة نور، ومنجم نفائس، ونهر ماء عذب زلل، لا ينقطع خيره عن كل عصر وجيل. فالقرآن حمال أوجه، ويعطي معاني جديدة لمستويات متباينة من الفهم والتدبر، ترى في الآيات البلسم والشفاء لأمراض النفوس والقلوب عبر العصور، ومهما اتسعت الدوائر، وتغيرت الشخوص، واستجدت النوازل، فمازال القرآن مهميناً على الحياة والقلوب يعطي مرونة عظيمة في التخطيط والتطوير والبناء على قواعد المنهج القرآني الفريد، ويعطي خلاصات الأجوبة ومفاتيح الحلول الشاملة لسؤالات البشر واحتياجاتهم.

 

وقصة طالوت وجالوت المذكورة في سورة البقرة واحدة من أهم القصص القرآني التي تعالج أهم قضية كلية تشغل بال البشر؛ إلا وهي قضية الانتصار، الانتصار بمعناه الأوسع والأشمل، الانتصار على النفس والشيطان وأعوان الشيطان، الانتصار على الشهوات والرغبات وجذبة الأرض، الانتصار على الجهل والمعايير المغلوطة والمفاهيم المقلوبة، وذلك بوضع قانون الانتصار الكلي في الحياة، ورسم خريطة الانتصار وبيان معالمها وخطواتها؛ خطوة خطوة ليستفيد بها الدعاة والخطباء ويعلمونها للناس عبر خطبهم ودروسهم ومن على منابرهم، فالجميع في حاجة ماسة لمعرفة قانون الانتصار الكلي.

 

العرض القرآني للقصة

وردت قصة طالوت وجالوت في سورة البقرة، وهي سورة مدنية اشتملت على معظم الأحكام والتشريعات في الفترة المدنية. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ)[البقرة:246-252].

 

والقصة على أهميتها وكثرة دروسها وأهمية موضعها، لم يرد ذكرها في القرآن إلا مرة واحدة، ولكن بصورة مفصلة تفصيلاً دقيقاً، لذلك كان فيها الغنية والكافية.

 

وسوف نعرض إلى آيات القصة القرآنية آية آية نستخرج دررها وكنوزها ونتعرف على أهم دروسها وفوائدها، ثم نضع القانون الكلي للانتصار من السياق العام للوحي في هذه القصة. مع مراعاة أننا سوف نتجنب سرد الإسرائيليات في تفسير القصة، والتي ذكرت الأسماء والأماكن وترتيب الأحداث، حيث لا حاجة حقيقية لذكرها لعدم القطع بصحتها.

 

بنو إسرائيل بين التحدي والاستجابة

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

بنو إسرائيل هم أكثر الأمم ذكراً في كتاب الله، فمعظم أنبياء الله كانوا في بني إسرائيل، وكانت الأنبياء تسوسهم، كلما هلك نبي أرسل الله إليهم غيره، حتى أنهم في بعض الأحيان كان يوجد بين أظهرهم ثلاثمائة نبي دفعة واحدة، لذلك فقصصهم كثيرة وأحوالهم ومواقفهم متنوعة، وفعالياتهم بين الصعود والهبوط، والضعف والقوة، والعزة والذلة، والسيطرة وتسلط الأعداء عليهم، تزخر بها أحداث الزمان.

 

قصة طالوت وجالوت تبدأ بعد مرور بني إسرائيل بعهود من الذلة والاستضعاف وتسلط الأعداء عليهم بعد أن حادوا عن منهج الله، وانشغلوا بالدنيا، نسوا وظائف الدين، وطغوا وتجبروا، فكان بنو إسرائيل مقسمين إلى قبائل عدة وحكامها كانوا يسمون بالقضاة؛ فانتشرت بينهم الحروب والنزاعات، فجاءتهم العقوبة العاجلة، وسلط الله عليهم غيرهم، فأجبروا على الخروج من ديارهم خوفاً من القتل والسبي، هذا الفرار من الموت جعلهم يتركون وراءهم ديارهم وأموالهم وأبناءهم، وأيضا مقدساتهم ممثلة في التابوت المقدس الذي استولى عليه الأعداء. وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند الجميع؛ العامة والملأ على حد السواء، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل وأن يبدلوا ذلهم عزة، وهزيمتهم نصراً، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد في سبيل الله.

 

هذه المرارة ذاقها الجميع حتى أن الذي بادر بالاستعداد للجهاد هم الملأ كبار القوم وأعيانهم، وعلى الدوام كان الملأ في صفوف أعداء الدين، ولكنهم هذه المرة نالهم أذى الخصوم وذاقوا مرارة الاستضعاف، فطلبوا من نبي لهم انتداب ملك للقتال تحت قيادته ورايته، وهذا أيضا من رغبتهم الصادقة، فالقيادة الناجحة هي أولى خطوات الانتصار.

 

ولأن النبي -عليه السلام- منهم وخبرهم سنين وقاسى معهم ما قاساه الأنبياء من قبله من لدن موسى -عليه السلام- حتى قصتنا تلك، فإنه أراد أن يختبر حماستهم وهمتهم للجهاد ليتأكد من جديتها وصدق رغبتهم في الجهاد والخروج من عهود الذلة والاستضعاف. فقال: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)؟ فأظهروا الإيمان، وحب الجهاد، وإرادة الخلاص من الذل والصغار، وطمأنوا نبيهم أنهم سوف يقاتلون ولا يتخلفون، وإنما فقط الذي يمنعهم من عدم الجهاد هو عدم وجود ملك، فلو وجد ملك سيسارعون للقتال. فلما جاء الأمر الإلهي بفرض الجهاد عليهم نكصوا على أعقابهم، وانصرف معظمهم عن مطلبهم الأصلي، مؤثرين حياة الذلة والاستضعاف عن خوض غمار الجهاد للخروج من الرق والاستعباد.

 

وفي هذه الآية الافتتاحية للقصة عدة دروس وفوائد وفرائد للخطباء والدعاة منها:

1 – التحدي والاستجابة: فصحوة بني إسرائيل بدأت بالشعور بوطأة الظلم والطغيان، وذوق مرارة الاستضعاف، والشعور بفداحة مخالفة منهج الله والبعد عن الدين والانشغال بالدنيا، الشعور بالظلم والاستضعاف ولد في النهاية قوة دافعة نحو التحدي، ورغبة دافقة نحو الخروج من الاستضعاف وعدم التأقلم معه، وهذا هو أول واجبات المستضعفين.

 

2 – المرجعية العليا عند النوازل تكون لأنبياء الله ومن ينوب عنهم أو يسلك طريقتهم من الاعتماد على الوحي؛ فالملأ رغم خبرتهم البشرية إلا إنهم عند النوازل يحتاجون لغطاء شرعي يوجه الاختيار ويرشد القرار ويضيء الطريق نحو الصواب. لذلك أي أطروحة للخروج من النفق والانعتاق من الظلم والفساد لا يكون لأهل العلم فيها دور أساسي محكوم عليها بالفشل.

 

3 – الجهاد هو الحل الأصوب لكثير من مشكلات الأمم والجماعات التي تتعرض للظلم والاستضعاف وتسلط الأعداء عليهم، فالجهاد هو الطريق الأوحد والأرشد لاستعادة الحقوق وردّ العدوان ورفع المظالم.

 

4 – حماسة الرخاء غالباً ما تكون حماسة وهمية وفارغة، فالسيوف كلهن قواطع إذا ضربن في الهواء، لذلك لابد من اختبار مصداقية تلك الحماسة، وميدان الكلام غير ميدان الفعل والنزال، ومن طلب الجهاد شفاهة، تولى عند أول منعطف.

 

5 – النكوص عن الجهاد لنصرة الدين والتقاعس عن نصرة المظلومين هو ظلمات بعضها فوق بعض. فهو ظلم للنفس، وظلم للحق والرسول الذي جاء به وبذل في وصوله إلينا التضحيات الكبيرة الجليلة، وظلم للناس في التهاون لإيصال الحق إليهم وحمايتهم في حال التمسك به؛ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وهذا هو الامتحان الأول لهم وهو فرض القتال عليهم ولم يتجاوز هذا الاختبار إلا القليل.

 

6 – أهمية التمايز الوظائف الدعوية والوظائف السياسية، فرغم وجود النبي الكريم بين أظهرهم وهو أجدر الناس على القيادة والشجاعة، فأنبياء الله هم صفوة خلقه وأكملهم في كل شيء، إلا إن بني إسرائيل طلبوا من النبي تعيين ملك عليهم، فجاء الاختيار الإلهي من غير بيت النبوة أو الملك! فتم التفريق هنا بين وظيفة النبي ووظيفة القائد السياسي والعسكري، إنه تمييز وظيفي واضح دون الدعوة إلى الاجتزاء أو التخلي عن نظرية شمول الدين، فالدين شامل، والتخصص الوظيفي شرط من شروط تطبيق وتحقيق هذا الشمول.

 

تصحيح المفاهيم وتغيير المعايير

قال تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).

 

بعد أن انجلى غبار الحماسة الفارغة عن أولى مشاهد قصة طالوت وجالوت، وتمايزت الصفوف، واستبان أصحاب الرغبة الصادقة والإرادة الحقيقية في الجهاد من المدعين والحماسيين أرباب الكلام لا أصحاب الأفعال. جاء الوقت لتنظيم الصفوف وبناء الجيش الذي سيخرج للقاء الظالمين، وأولى خطواته تمثلت في اختيار القيادة الحكيمة الواعية القادرة على توجيه الطاقات وتوظيف القدرات.

 

نبي بني إسرائيل أخبرهم بأن المختار عليهم ليكون ملكاً وقائداً هو "طالوت"، وهذا الاختيار ليس بموجب انتخابات رئاسية أو استفتاء شعبي! ولكنه اختيار من الله -عز وجل- وهو العليم الحكيم. وهنا كان النبي على موعد ثان لانكشاف الحقائق وتجلية الغبار عن الصف. فقد كان الاعتراض على شخص المختار للقيادة فورياً لم يكن فيه مجال للتفكير والتشاور وتقليب النظر، ذلك لأن المعايير مختلة تحتاج إلى التصحيح.

 

الاعتراض على شخص "طالوت" جاء لأسباب دنيوية محضة هلك فيه الناس ومازالوا عبر القرون! فطالوت في نظرهم لا يستحق هذه المنزلة؛ لأنه ليس من عائلة الملك ولا النبوة وليس من الاغنياء بل هو فقير من الفقراء يعمل عملاً متواضعاً في سقاية الماء؛ (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ)، فوفق معاييرهم هم يرون أنفسهم أعلى وأولى منه، ولا يخفى ما في قولهم من كبر واستعلاء على الناس واحتقار لمن دونهم ومن لم يكن من عائلتهم، ولكن الله رد عليهم هذا الاعتراض المبني على موازينهم الأرضية البشرية بأنه تعيين طالوت وفق ميزان رباني دقيق لا يحابي أحدًا؛ (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ).

ولأن بني إسرائيل مشهورون بتكذيب أنبيائهم وكثرة معارضتهم ولهم في ذلك مواقف مشهودة، فإن الله -عز وجل- حسم مادة الاعتراض المتوقع بأن أرسل آية ربانية تبين صدق الاختيار وأهلية المختار. قال تعالى: (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) يأتيهم التابوت بدون قتال ولا حرب، ستحمله الملائكة وتأتي به إليهم، وهذا دليل على أن طالوت هو الملك من عند الله، والسكينة: هي الراحة والرضا واليقين، وفي هذا التابوت أشياء مادية ورثوها عن آل موسى وآل هارون. ومن أهم الدروس والفوائد للخطباء والدعاة من هذه الآية:

1 – معايير السماء تختلف تماماً عن معايير الأرض، وذلك في كل شيء؛ فالناس يقيمون روابطهم وعلاقاتهم على معايير أرضية محضة من مال ونسب وجاه وسلطان وعشيرة ومصلحة، في حين أن معايير السماء تتجرد من جذبة الأرض وتحرر من لوثة المادة، لتجعل الأفضلية والاختيار على أسس التقوى والعلم والإيمان والإخلاص والتجرد؛ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين)، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ).

 

2 – أولى خطوات الانتصار؛ اختيار القيادة الصالحة المصلحة الكفؤة، ونصر الله للمسلمين وتمكينه لهم في الأرض ونهوضهم وتقدمهم يتوقف على تقديم الأصلح منهم ووضع الرجل المناسب علمًا وأمانة وخبرة وبصيرة وصدقا في المكان المناسب؛ (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)؛ فلا تتحقق المصالح وتزول المفاسد وتدفع المضار إلا بتقديم من قدمه الله. واختيار ما اختاره الله من دين ومنهج وعقيدة وشريعة وطريق.

 

3 – أصحاب الأموال وأصحاب الجاه هم أكثر أعداء الرسل وأكبر من عارضهم من البشر على مر العصور. فالمال والنسب يدفعان دائماً وفق معايير الناس للبحث عن التصدر والبروز والتنافس على السلطة، ومقاومة أي معايير أخرى للقيادة والملك. وهؤلاء عادة يبحثون عن مصالحهم الشخصية وحظوظهم الدنيوية الفردية، فعملهم وسعيهم يكون للصالح الخاص وليس العام، وبالتالي هم يمثلون تعويقاً كبيراً لأي مشروع أممي يهدف لإنقاذ الأمة وإخراجهم من غياهب الجب.

 

4 – معيار العلم والقدرة من أضبط وأعدل معايير الاختيار، وأهم من معايير المال والنسب والجاه والعشيرة والسلطة؟ وذلك لأسباب:

- أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، فهما: كمال حقيقي أن يوجد في الشخص علم وقدرة بخلاف الجاه والمال والنسب والحسب والسلطة.

 

- أن العلم والقدرة من الصفات الذاتية للشخص، بخلاف غيرهما الذي هو أمر منفصل عن الإنسان، فإن الإنسان قد يكون بغير جاه ولا مال ثم يكتسب جاهاً ومالاً، يكتسبه من شيء خارجي، لكن العلم والقدرة صفات ذاتية في الشخص لا تنفك عنه. ولذلك من الأسباب أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، لكن المال والجاه والسلطة يمكن سلبهم عن الإنسان.

 

- العالم بأمر الحروب القوي الشديد على القتال ومكائده وخططه، يحصل الانتفاع به في حفظ الأمة ودفع شر الأعداء أكثر من الانتفاع بصاحب النسب والغني إذا لم يكن عنده علم ولا قدرة على دفع الأعداء.

 

5 – الانتصار يحتاج للتثبيت المادي والمعنوي معاً، لذلك أيد الله -عز وجل- رسله بالمعجزات المادية الحسية والمعجزات المعنوية الشعورية، ليتكامل التأثير ويتحقق المراد. فالله -عز وجل- أرسل التابوت كآية صدق على اختيار طالوت ملكاً على بني إسرائيل، وفي نفس الوقت أرسله وفيه سكينة وطمأنينة لهؤلاء الذين يبحثون عن الانتصار والخروج من أسر الذلة والاستضعاف، وهذا يبين أهمية ربط الحقائق العلمية المعنوية بالأشياء الحسية الواقعية التي تقرب فهم وتصور هذه الحقائق العلمية المعنوية وتقوي اليقين بها والتسليم لها والصبر على حملها والتضحية في سبيل نشرها ونصرها.

 

وللحديث بقية

 

المشاهدات 458 | التعليقات 0