قصة شعيب عليه السلام

فهد عبدالله الصالح
1439/02/06 - 2017/10/26 08:19AM

عباد الله : لقد أرسل الله تبارك وتعالى رسلاً إلى البشرية عبر تاريخها الطويل(رسلاً مبشرين ومنذرين) مبشرين بصراط الله المستقيم وبجنات النعيم ومنذرين من الشر والهلاك من الجحيم المقيم , ورسل الله كثير منهم من قص الله علينا خبرهم في كتابه الكريم , ومنهم من لم يقصهم علينا ولله الأمر من قبل ومن بعد , فربنا العليم الخبير عالم الغيب والشهادة يعلم ما ستقع فيه هذه الأمة من شرور إلى قيام الساعة , فذكر الله قصص الأنبياء التي جرائم أقوامهم ستقع فيها أمة الإسلام , وقصة نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام واحدة من هذه القصص القرآنية .

أيها المسلمون : كان أهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم (مدين) من أرض معان من أطراف الشام , وكانوا يكفرون بالله ويشركون به اذ عبدوا الأيكة من دون الله , والأيكة هي الفيضة التي تنبت الشجر  وصاروا يبخسون الناس أشياءهم , إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أوزانهم يبخسون , فبعث الله فيهم رجلاً منهم رسوله شعبيا – عليه الصلاة والسلام – وأيده بالمعجزات والبينات (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط , ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ثم ذكرهم عليه السلام بنعمة الله عليهم إذ كثرهم بعد قلة وأغناهم بعد فقر , وخوفهم عليه السلام – بزوال نعمة الله وبحلول عذابه إن لم يستقيموا على شرع الله , وذكرهم بمصارع الأمم التي قبلهم قائلاً لهم (ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) وطلب منهم شعيب عليه السلام – أن يتراجعوا عما هم فيه ليبدءوا صفحة جديدة مع ربهم وقال لهم (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) هذه هي مجمل دعوة شعيب عليه السلام لقومه .

أيها الإخوة : إن العقيدة إذا صلحت عند الإنسان فإنها كفيلة بإصلاح تصوراته وسلوكه وأخلاقه وسائر تصرفاته , ولما فسدت العقيدة عند قوم شعيب وقعوا في الظلم وبخس الناس أشياءهم وذلك من خلال التطفيف في الكيل والوزن وقد كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون قطع الطرق على القوافل وفرض ما يشاءون عليها ،  وبخس الناس أشياءهم – فوق أنه ظلم – فإنه يشيع في نفوس الناس مشاعر الألم والحقد وعدم التقدير , وكلها مشاعر تفسد جو الحياة وتشغل القلوب عن طاعة الله .

انك يا أخي المسلم : لو اشتريت بضاعة من السوق فوجدتها مغشوشة لاشتعل قلبك ألما وغيظاً , لأنها أساءت إليك وسوء معاملة معك واستغفال لك ولذا حرم الله الغش في المعاملات وقال صلى الله عليه وسلم(من غش فليس منا) وفي رواية (من غشنا فليس منا) وقال تعالى (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) إن المال الحلال مبارك وإن قل والحرام ممقوت وإن كثر(قل لا يستوي الخبيث والطيب وإن أعجبك كثرة الخبيث), ولقد قال نبي الله شعب عليه السلام لقومه(بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) والأعمال ـ أيها المؤمنون ـ ينبغي أن يقصد بها وجه الله تعالى ولذا قال لهم نبيهم (وما أنا عليكم بحفيظ) أي افعلوا ما أمركم به ابتغاء لوجه الله ورجاء ثوابه.

ولكن القوم أيها الإخوة : كانوا قد عتو عن أمر ربهم ومردوا على الانحراف فردوا على نبيهم شعيب عليه السلام بتهكم وسخرية واستهزاء (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد أباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) لقد أرجع القوم نصائح شعيب المزعجة لهم أرجعوها إلى تدينه وإلى صلاته , وما علم هؤلاء الغافلون أن الصلاة هي من مقتضيات العبودية لله وأنها تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر, ويسخر أهل مدين من شعيب عليه السلام فيقولون (إنك لأنت الحليم الرشيد)يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء والتهكم , وهذا ديدن كل منافق وكافر  يستهزئون بالدعاة والمصلحين , وماذا كان رد شعيب عليه السلام على قومه : لقد رد عليهم بتلطف ولين , تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه مشعراً لقومه أنه مشفق عليهم وأنه معه هدى من ربه وأنه ليس له مكاسب شخصية من وراء دعوته , لم يكن لينهاهم عن شيء ثم يفعله هو, لم يكن لينهاهم عن بخس الناس أشياءهم لتخلو له السوق , لقد أبان لهم أن دعوته هي دعوة الإصلاح لهم وله وللناس عامة (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب), ولكن القوم ما زالت قلوبهم فاسدة , ومن مظاهر فسادها أنها لا تتسع لسماع الرأي الآخر(قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول), ومن مظاهر فساد قلوبهم ـ أيضا ـ أنهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس المادة عندما قالوا(وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز), وعندما سمع شعيب عليه السلام مقولة القوم أخذته الغيرة على جلالة ربه ووقاره, إنها غضبة العبد المؤمن لربه ، إن شعيباً عليه السلام لم يتلذذ بسماع القوم يخافون عشيرته ولكنه غضب لما أسيء الأدب مع ربه ، فعصبية المؤمن ليس للرهط  والقبيلة وإنما هي لله ودينه وللمؤمنين(قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب).

أيها المسلمون: ومع هذا العناد والتكذيب من قومه فإن شعيباً عليه السلام ظل واثقاً من ربه ومن دعوته مستمراً في القيام بمهمته فآمن به نفر قليل ولكن الملأ من قومه لم يتركوا هؤلاء النفر القليل فهلعت نفوسهم خوفاً من شعيب والذين آمنوا معه , أن يعظم أمرهم وينتشر دين ربهم فهددوهم بالطرد من المدينة أو العودة إلي الجاهلية القديمة (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك أو لتعودن في ملتنا) فما كان من نبي الله شعيب إلا أن صدع بالحق ودافع عن نفسه وعن القلة المؤمنة مستبعداً العودة إلى مستنقع الشرك والظلم بعد أن ذاقوا طعم الإيمان وخالط نفوسهم رد عليهم شعيب (قال  أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها).

ولا يأبه شعيب عليه السلام لتهديد طواغيت قومه ووعيدهم بل يتجه إلى مولاه المتوكل عليه الواثق به يتجه اليه يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق قائلاً عليه السلام (على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين), استجاب الله دعاء عبده ورسوله وآزره بنصره وابتلاهم الله بالحر الشديد فكان لا يروى ظمأهم ماء وليس لهم ظلال ولا تقيهم المنازل ففروا هاربين وخرجوا من ديارهم مسرعين ولكنهم فروا من قدر إلى قدر الله فرأوا سحابة فأسرعوا إليها لتقيهم من حر الشمس حتى إذا تكامل عددهم رمتهم بشرر وشهب وجاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض ولم يكادوا يحسون ما حل بهم حتى أزهقت أرواحهم وهلكت نفوسهم (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها).

رأى شعيب ما حل بقومه فأعرض عنهم يثقله الحزن على ما أصابهم ولكنه ذكر كفرهم بالله وظلمهم للناس واستهزاءهم بمن آمنوا معه ومخالفتهم نصيحته , فخفف ذلك من وجده وتولى عنهم (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسي على قوم كافرين).

وهكذا تطوى صفحة من صفحات التاريخ المعبرة , صفحة قوم شعيب عليه السلام بالمفارقة والانفصال من رسولهم الذي كان أخاهم ثم افترق طريقه عن طريقهم فافترق مصيره عن مصيرهم , فالصلة الباقية هي صلة الدين لا صلة الأنساب والأقوام لقد تبين بجلاء من هم الخاسرون ؟؟ هل هم الذين اتبعوا شعيباً وبما معه من الحق عندما هددهم الملأ بقولهم (لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون) أم إن الخسارة كانت من نصيب قوم آخرين (الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين).

فاتقوا الله يا أمة الإسلام – واعتبروا من الأمم المكذبة الظالمة الهالكة واعبدوا الله حق عبادته وإياكم وظلم الناس وبخسهم أشياءهم والحذر الحذر من التطفيف والغش في البيع والشراء وسائر المعاملات .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).    

المشاهدات 1457 | التعليقات 0