قصة سبأ
فهد عبدالله الصالح
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له, إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغر المحجلين، وعلى جميع من سار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله: حديثنا اليوم عن مدينة من المدن التي قص الله قصتها علينا لتكون لنا عظة وعبرة، لقد كانت من أجمل قرى ذلكم الزمان ولكنها باتت قاعاً صفصفا لا ترى فيها خضرة ولا نضرة، حديثنا عن قصة قرية سبأ إنها مملكة سبأ التي سادت ثم بادت وأصبحت أثراً بعد عين، قد ذهب سلطانها، وذبلت قوتها، وغدت رواية تروى وحكاية تحكى، يعرض القران قصتهم ويسجل نهايتهم في آيات إلى يوم القيامة تتلى ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾، لقد كانوا في أرض خصبة وثمرة يانعة وجنات عن يمين وشمال رمز ناطق بالخضرة والجمال والرخاء والمتاع، قال قتادة رحمنا الله وإياه: (كانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل فتساقط الثمار فيه من غير حاجة إلى كلفة أو قطاف لكثرته ونضجه واستوائه) وقد وهبهم الله ذكاء ودهاء، فتحكموا في القطر النازل من السماء فبنو سداً عظيماً عرف بسد مأرب الشهير، فكانوا يرتعون فيه ويسقون زروعهم ومواشيهم في نظام متقن بديع، لقد كانت حياتهم حياة الرفاهية بكل ما تحمل الكلمات من معان ولم يكن في بلادهم شيء من البعوض أو الهوام، لاعتدال الهواء وسلامة الأجواء وعناية الله بهم ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾, بلدة طيبة معطاء آمنة مطمئنة رخاء ورب غفور جواد رحيم، فأي عذر بقي لأولئك يحول بينهم وبين حسن المقصد والعمل؟
ترى يا عباد الله: ماذا كان يضير سبأ لو أطاعوا ربهم؟ الذي أحاطهم بكل عناية وشملهم بكل رعاية فأطعمهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم بلا حد ولا حساب، ماذا يضير سبأ لو عرفوا للخالق الوهاب حقه، لو أدركوا إن ما يتمتعون به من النعيم المقيم هو فضل من الله ومنة؟ فلم التجبر والطغيان قال الله لهم ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾.
فاعرضوا.. فهنا مكمن الخطأ, وبداية النهاية وبوادر الكارثة، فأعرضوا عن شكر النعم، وإجابة المرسلين، ورضوا لأنفسهم بالذلة والهوان يوم استبدلوا بعبودية الله عبودية غير الله يا لخيبتهم وتعاستهم، إعراض تبعته سنة الله التي لا تتغير ولا تتحول ﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾، سيلاً يقتلع أشجارهم ويفسد ثمارهم ويقوض ديارهم ويطمس زهرة حياتهم.
لقد كان سيلاً مهولاً يحطم كل شيء ويدمر كل شيء ويفسد كل شيء يحمل في طريقه الصخور العاتية لتحطيم السد العظيم فينهمر طوفانا جارفاً ليضيف إلى المصيبة مصيبة والى النقمة نقمة قال تعالى: ﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾.
سبحان الله؟ هكذا في ساعة من نهار إذا بالجنان الفيحاء والحدائق الغناء تنقلب صحراء قاحلة وقلاعاً منهارة لا تمسك ماءً ولا تنبت كلا! وإذ بالثمار الناضجة والظلال الوارفة تتحول إلى شوك حاد وأثل يابس وشيء من سدر قليل, فأصبح السدر غاية من تجود به مزارعهم الخاوية مع لوعة في القلب موجعة وحسرة في الصدر كامنة ودمعة في العين حارقة ما أهون الخلق على الخالق حين يعصون أمره! حين يتجاوزون حدودهم وتغرهم قوتهم وأموالهم وتعجبهم كثرتهم ويتمادون في ظلمهم.
والكبر والبطر والغطرسة - أيها الإخوة - أمراض تبتلى بها الأمم كما يصاب بها الأفراد ولقد أنعم الله على قوم سبأ بنعمة الأمن إضافة لنعمة قوة الاقتصاد كما قال سبحانه ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾.
لقد كان طريق سبأ من اليمن إلى خارجها طريقا مأمون الاتجاهات محدود المسافات وعلى جانبي الطريق قرى متلاصقة لا يكاد المسافر يخرج من قرية إلا ويدخل في الأخرى فلا يحتاج في هذه الحالة إلى حمل زاد أو طعام ولكن غلبت الشقوة على الأشقياء وغلب الكبر على ضعيفي الإيمان ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾، أي: اجعل بين أسفارنا مسافات بعيدة ومفاوز شاسعة حتى نشعر بعناء السفر ومشقته! يا للسفه والجنون! يا للحماقة والطيش! أناس هيأ الله لهم قرى متشابكة، وطرقاً آمنة فإذا بهم يطلبون المسافات البعيدة والقرى النائية، فكان لا بد من وضع حد لكبرياء القوم وغرورهم وتجبرهم وطغيانهم، فقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، فإذا بالجموع المتماسكة والبيوت المتلاصقة والأسر المتقاربة تنفرط سبحتها وتتمزق وحدتها وتتقوض سلطتها ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
فيا أيها المسلمون: فحين يحدثنا الله من أخبار سبأ ويقص علينا من أنبائهم وأنباء غيرهم، فحاشا أن يكون ذلك بمقصد التسلية أو شغل الفراغ ولكنه يخاطبنا بخطاب مفهوم ورسالة واضحة, إنه لا فضل لنا على سبأ ولا لسبأ علينا، ولا فرق بيننا وبينهم إلا بالإيمان والتقوى، فالأصل واحد والأب واحد والله لا يحابي أحداً، فمتى حصل الكفر والطغيان والبطر والأشر والعدوان وظلم الناس، فالعقوبة جاهزة والنقمة حاضرة وما ربك بظلام للعبيد، لقد ختم الله قصة سبأ بقوله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾.
فما يعي الدروس ولا يستلهم العبر إلا من اتصف بالصبر والشكر أما الصبر: فهو توطين النفس على طاعة الله وكفها عن محارمه، وبذل النفس والنفيس لإرضاء الخالق جل جلاله.
وأما الشكر: فهو وجدان وشعور قلبي وعمل وسلوك واقعي وثناء جميل على المتفضل بالإحسان جل في علاه.
إن الشكر الذي تدوم به النعم ويصنع سياجاً واقياً أمام الكوارث والنقم يكون بالعودة الصادقة إلى الكتاب والسنة علماً وعملاً وتحاكماً.
وشكر النعم: يكون بتطهير الأموال من الحرام وتنقية المكاسب من الشبهات, ورد المظالم إلى أهلها والأخذ على يد السفيه والفاسد.
شكر النعم: يكون بحفظ الناشئة من الفساد وصون المرأة عن الفتن والميوعة والتهتك والخلاعة.
والشكر مفهوم عظيم ومعنى كبير ولكن كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾، وكما قال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك).
وبعد أيها المسلمون: الطاغية النمرود بن كنعان استكبر وطغى فأرسل له بعوضة فقتلته، والطاغية فرعون قال لقومه أنا ربكم الأعلى فأهلكه الله بالماء، وقرية سبأ أغضبوا الله فما حاربهم الله بجيش ولا أنزل عليهم ملائكة، لأنهم أصغر وأذل، غضب الله عليهم فأرسل عليهم جرذا فنحت السد فهوى السد فاجتاحهم الماء فصاروا شذر مذر وعبرة لمن اعتبر وحديثاً يتناقله البشر.
اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمتك الذاكرين لعظمتك السائلين هدايتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين, اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا وردنا إلى الحق رداً جميلاً.