قصة رضاع حليمة السعدية للنبي صلى الله عليه وسلم

أحمد بن علي الغامدي
1439/10/14 - 2018/06/28 06:46AM

أما بعد :فقد كانت العادة عند الحاضرين من العرب قديما أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر؛ وذلك حتى تقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، ولذلك التمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرضعاء، فاسترضع له امرأة من بني سعد ابن بكر- وهي حليمة السعدية- وزوجُها الحارث بنُ عبد العزى المكنى بأبي كبشة، من نفس القبيلة.

والعلماء رحمهم الله إذا عرّجوا على ذكر حليمة السعدية لا يدخلون بقلمهم في الكتاب، وإنما ينقلون ما قصّته حليمة. فيما نقله عنها محمد بن إسحاق المدني إمام أهل السير.في قصة إرضاعها لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن تحديثَ حليمة بنفسها عن قصة رضاعها للنبي صلى الله عليه وسلم أبلغُ وأفصح من تحديث غيرها.

تَقُولُ حليمة السعدية :إنها خَرَجَتْ مِنْ بني سعدٍ مَعَ زَوْجِهَا، وابنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ، في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ، قالَتْ: وذَلِكَ في سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا، [ كانت سنة قَحْطٍ، وجَدْب لا خُضْرَة فيها لِقِلَّةِ المَطَر]، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانٍ لِي قَمْرَاءَ [تعني على حمارَة أنثى شديدةِ البياض ]، وكان مَعَنَا شَارِفٌ لنَا [شارف :ناقة مُسِنَّة هرمة] وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ [يعني ما يَقْطُرُ منها لبن أبدا ]، ومَا نَنَامُ لَيْلَنَا أجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ منَ الجُوعِ، ومَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، ومَا فِي شَارِفِنا ما يُغَذِّيهِ .ولَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الغَيْثَ، والفَرَجَ، فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أدَمْتُ بالرَّكْب [ يعني أنها أخَّرتْ الركب بسبب حمارها وهزاله وضعفه  ]حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الركب .

حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَتَأْبَاهُ، إِذَا قِيلَ لَهَا أَنَّهُ يَتِيمٌ، وذَلِكَ أنَّا إِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو المَعْرُوف والمالَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ، ومَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أمُّهُ وَجَدُّهُ؟ فكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ . فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الاِنْطِلَاقَ، والعودة لديار بني سعد، قُلْتُ لِزوجي: وَاللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي، ولَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى ذَلِكَ اليَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ.

 فقَالَ زوجها: لا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً.

قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فأخَذْتُهُ، ومَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ.

قالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي، قالت: فَلَمَّا وَضَعْتُهُ في حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ , فَشَرِبَ حتَّى رَوِيَ، وشَرِبَ مَعَهُ أخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَامَا، ومَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا هِيَ حَافِلٌ [كثيرة اللبن ] فَحَلَبَ مِنْهَا وشَرِبَ، وشَرِبْتُ مَعَهُ حتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، ثم قَالَتْ حليمة: فقال زوجي حِينَ أصْبَحْنَا: تَعْلَمِي واللَّهِ يا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قالَتْ: فقُلْتُ واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ، قالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا ورَكِبْتُ أتَانِي، وحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَاللَّهِ لَقَطَعْتُ بِالرَّكْبِ.تقول : مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ .حتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكِ أَرْبِعِي عَلَيْنَا [ارفُقِي وانتظرينا ]، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أتَانُكِ التِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟

فأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاللَّهِ، إنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا.

قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ، ومَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا[ لا نَبَات فيها ] ، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ [ ترجع في آخر النهار ]حِينَ قَدِمْنَا بالقرشي مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا، فَنَحْلِبُ ونَشْرَبُ ما شئنا من اللبن ، وترجع أغنام القوم جياعا هالكة، وَمَا مِنَ الْحَاضِرِ أَحَدٌ يَحْلُبُ قَطْرَةً وَلَا يَجِدُهَا في ضَرْعٍ ، فَيَقُولُ القوم لِرِعَائِهِمْ: وَيْلَكُمْ أَلَا تَسْرَحُونَ حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي حَلِيمَةَ، فَيَسْرَحُونَ فِي الشِّعْبِ الَّذِي تَسْرَحُ فِيهِ . فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ آخر النهار جِيَاعًا هالكة. مَا بِهَا مِنْ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي لُبَّناً حُفَّلاً.

قَالَتْ حَلِيمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُرِينَا البَرَكَة والخير َونَتَعَرَّفُهَا، حتَّى بَلَغَ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَنَتَيْنِ .

قالَتْ حَلِيمَةُ: فَقَدِمْنَا بهِ عَلَى أُمِّهِ زَائِرِينَ لَهَا، ونَحْنُ أحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ، فكَلَّمْنَا أُمَّهُ، وقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتِ بُنَيَّ عِنْدِي حتَّى يَغْلَظَ، فإنِّي أخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ.

قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حتَّى رَدَّتْهُ مَعَنَا.

  ثم عَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة أخرى  إلى بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ.

عباد الله : أقول هذا القول

............

الخطبة الثانية:

فبعد عودته صلى الله عليه وسلم إلى بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ.جرى له أمرٌ عظيم، ومعجزة نادرة،فيها تهيئة من الله تعالى لنبيه لحمل الرسالة العالمية، وهداية الإنسانية، إذ لا تتأتى هذه الغاية العظيمة إلا بنفس أصفى من عذوبة ماء، وروح أنقى من اللآليء، وقلب طاهر مطهر ليس فيه غير الله محبة ورغبة وقصدا.

أخرج أَحْمَدُ في مسنده بسند صحيح، عَنْ عُتْبَةَ بنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم، فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أوَّلُ شَأْنِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ فقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم: كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، فَانْطَلَقْتُ أنَا وابْنٍ لَهَا فِي بَهْمٍ  لنَا، ولَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا، فَقُلْتُ: يا أَخِي، اذْهَبْ فَأْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا، فَانْطَلَقَ أَخِي، ومَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ، فَأَقْبَلَ طَيْرَانِ أبْيَضَانِ، كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي، فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي إِلَى القَفَا، فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي، فَشَقَّاهُ، فأخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ائْتِنِي بِمَاءِ ثَلْجٍ، فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِمَاءِ بَرَدٍ، فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ، فَذَرَّاهَا فِي قَلْبِي،[نَثَراها]  ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حُصْهُ، فَحَاصَهُ [خَاطَهُ]، وخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ.

ثُمَّ انْطَلَقَا وتَرَكَانِي، وَفَرِقْتُ فَرَقًا شَدِيدًا، [خفت وفزعت]، فلمّا عاد أخوه من الرضاعة ورأى ما حصل, رجع مسرعاً لأبويه. وقال لهما، أدرِكا أخي القرشي، فقد جاءه رجلان فأضجعاه، فشقا بطنه.

تقول حليمة: فخرجنا نحوه نشتدُّ، فانتهينا إليه وهو قائم منتقعٌ لونه فاعتنقه أبوه واعتنقته، ثم قلنا: مالك يا بُني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أتاني رجلان عليهما ثياب بياضٍ فأضجعاني، ثم شقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا.

أيها المؤمنون: إن روحاً أراد الله لها أن تكون مهوى لتلقي النورَ المبين والقرآن العظيم، يجدر بها أن تزكو بأعلى مقام، وإن قلبا اختاره الله لتنزل الوحي، ينبغي له أن يبلغ الكمال: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}، لقد ابتدأ الله نبيه بالكمالات، ليختم به الرسالات، ويحسن به المآلات، فطُهِّر القلب الرضيّ بالثلج والبَرَد، وُأخرج حظ الشيطان منه، فلا قلب أصفى من ذلك القلب، ولا روح أزكى من تلك الروح.

قَالَتْ حليمة : فقَالَ لِي أَبُوهُ [تعني زوجها الحارث] يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ .فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ أثر الإصابة عليه.

 قَالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِ مكة على أمّه، فَقَالَت: مَا أَقْدَمَكَ بِهِ يَا ظِئْرُ. وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ، وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَكَ؟

 قَالَتْ: فَقُلْتُ: قَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ، وَتَخَوَّفْتُ الْأَحْدَاثَ عَلَيْهِ، فَأَدَّيْتُهُ إلَيْكَ كَمَا تُحِبِّينَ، قَالَتْ: مَا هَذَا شَأْنُكَ، فَاصْدُقِينِي خَبَرَكَ.

قَالَتْ: فَلَمْ تَدَعْنِي حَتَّى أَخْبَرْتُهَا. فقَالَتْ أمّه : أَفَتَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ نَعَمْ، قَالَتْ: كَلَّا، وَاَللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَإِنَّ لِبُنَيَّ لَشَأْنًا، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ، قَالَتْ: [قُلْتُ] بَلَى، قَالَتْ: رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ، أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، ثُمَّ حملت بِهِ، فو الله مَا رَأَيْتُ مِنْ حَمْلٍ قَطُّ كَانَ أَخَفَّ [عَلَيَّ] وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ، وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْتُهُ وَإِنَّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ، رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السَّمَاءِ، دَعِيهِ عَنْكَ .وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً.

قال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام عن قصة رضاع حليمة السعدية هذا حديث جيد الإسناد.

عباد الله :وعليه فإنّ المتأخرين من أمة أحمد صلى الله عليه وسلم لن يعدموا من بركات حصلت لأوّلهم، إذا هم أخذوا بهدي هذا النبي , ولزموا غرزه، وتخلقوا بأخلاقه، واختلطت أرواحهم بسيرته، هؤلاء الذين هذا ديدنهم هم أهل البركات ومظنة الرحمات، جعلنا الله وأهلينا منهم. بمنه وكرمه وجوده. 

                     صلوا وسلموا على خير خلق الله . محمد بن عبد الله ..

 

المرفقات

رضاع-حَلِيمَة-للنبي-صلى-الله-عليه-وسلم

رضاع-حَلِيمَة-للنبي-صلى-الله-عليه-وسلم

المشاهدات 12842 | التعليقات 0