قصة النجاة. خطبة 9 محرم 1439هـ (نص + وورد + بي دي إف).
عاصم بن محمد الغامدي
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لا ند له فيبارى، ولا ضد له فيجارى، ولا شريك له فيدارى، ولا معترض له فيمارى، بسط الأرض قرارًا، وأجرى فيها أنهارًا، وأخرج زرعًا وثمارًا، وأنشأ ليلاً ونهارًا، أحمده سرًا وجهارًا، وأصلي على رسوله محمد الذي أصبح وادي النبوة برسالته معطارًا وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس! فتقوى الله حبل متين، ونور مبين، حبل ما له انفصام، ونور تستضيء به القلوب والأفهام يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
عباد الله:
علوم القرآن ثلاثة، توحيد لله تعالى، وأحكام شرعية عملية، وقصص مليئة بالعبر.
وأكثر الأنبياء ذكرًا في كتاب الله موسى عليه السلام، فقد ورد اسمه فيه أكثر من مئة وثلاثين مرة، وتكرر الحديث عن مواقفه مع بني إسرائيل، وأَمْرِ المؤمنينَ بالاتعاظ بها، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
وقدْرُ موسى عليه السلام عند ربه عظيم، فقد شرح له صدره، ويسر له أمره، وحلَّ عقدة من لسانه، وجعل له وزيرًا من أهله، واصطنعه لنفسه، وألقى عليه محبة منه، فلا يراه أحد إلا أحبه، واختصه من بين جميع خلقه بكلامه، ومنَّ عليه مننًا أخرى.
عباد الله:
إذا رأيتم من أهل الباطل أذىً كثيرًا، فتذكروا أن موسى عليه السلام صبر حتى ظَفَر، وكان عند ربه مشَفَّعًا ذا مكانة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}.
وفي وقت موسى طغى فرعونُ طغيانًا كبيرًا، {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}.
فـ {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
ومع شدةِ كفر فرعون، الذي قال قولاً ما سبقه به أحد، وما قال به من بعده أحد، إذ ادعى أنه رب معبود، وحارب من لم يطعه، إلا أن الله سبحانه لما أرسل إليه موسى وهارون عليهما السلام، قال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
فإذا كان موسى أُمر أن يقول لفرعون قولاً لينًا، فاللين أحرى مع من هو أدنى من فرعون في طغيانه، قال الله جل جلاله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
والداعية إلى الله ينوع في أساليب دعوته، فهو يستخدم القول اللين، والدليل البين، فلما لم يستجب فرعون للقول اللين، جادله موسى عليه السلام بالأسلوب الحسن، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ* قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ* قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
ففي إجابات موسى عليه السلام معانٍ عميقة، تنسف ما في أذهان المبطلين، الذين كانوا يظنون أن الربوبية تنتقل من كل فرعون إلى من بعده، فأخبرهم موسى أن الله تعالى ربهم ورب آبائهم الأولين الذين وجدوا من العدم ثم فنوا، وأن الفراعنة لم يملكوا إلا بلدًا واحدًا، فكيف يمكن أن يقارنوا بالله تبارك تعالى وهو رب المشرق والمغرب وما بينهما؟
وكثير من الطغاة لا يرضخون للحق حتى لو تبين لهم، فلما لم يقبل فرعون هذه الحجج، أبرز له موسى معجزة من رب العالمين، {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}، فأرسل فرعون للسحرة فجاؤوا، {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ* فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُون}.
عند ذلك علم السحرة أن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من السحر في شيء، بل هو معجزة إلهية، خارجة عن القدرة البشرية.
فأعلنوا إيمانهم بالله تعالى دون تردد، وأعلنوا ذلك على الملأ، فما ازداد فرعون إلا طغيانًا وكفرًا، وأصر هو وقومه على الاستمرار في اضطهاد بني إسرائيل واستعبادهم.
وهنا مفارقة عجيبة، فالله سبحانه يهدي من يشاء متى يشاء، فلا ينبغي للداعية استبطاء النتيجة، ذكر بعض السلف رحمهم الله أن موسى عليه السلام دعا فرعون إلى الإسلام أربعين سنة فلم يؤمن به، أما السحرة فآمنوا به في يوم واحد. [تفسير القرطبي 13/99].
عباد الله:
لما استمر كفر فرعون وقومه وأذاهم لموسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل، أوحى الله عز وجل إلى موسى أن يخبرهم بأن العذاب سيحل بهم، لتكذيبهم بآيات الله ورسله، فأصابهم الله بالجدب ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم، فلما وقع عليهم العذاب: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فلما كشف الله عنهم العذاب إذا هم ينكثون عهودهم ومواثيقهم، ثم قرر فرعون ومن معه أن يقتلوا موسى عليه السلام، فأمره الله تعالى أن يسريَ بعباده المؤمنين في الليل، فيتخذ لهم طريقًا في البحر يبسًا، وأنْ لا يخاف من فرعون وجنودِه دركًا، ولا يخشى من البحر غرقًا.
فأتبعهم فرعون وجنوده، حتى خشي بنو إسرائيل من إدراكهم لهم، أما كليم الله عليه السلام فكان ثابتًا، و{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، فأوحى الله تعالى إليه {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي: كالجبل العظيم، فسار عليه موسى ومن معه حتى جاوزوه، ثم تبعهم فرعون فأغرقهم الله تعالى، وجعلهم عبرة لكل معتبر.
أيها المسلمون:
هذه خلاصة قصة نبي كريم من أولي العزم عليهم السلام، فيها عبر لا تنتهي، وعظات لا تنقطع، جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إل يوم الدين أما بعد عباد الله:
فإن أهل الإيمان أولى ببعضهم، وإن اختلفت أنسابهم، وتنوعت بلدانهم، لما قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ رَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وهو يوم العاشر من محرم، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. [رواه البخاري ومسلم].
بل كان يفضل هذا اليوم على كثير من الأيام غيره، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ». [رواه البخاري].
ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى قال: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [رواه مسلم].
عباد الله:
صيام عاشوراء ثلاثة مراتب، الأولى: صيام اليوم العاشر لوحده، والثانية: صيامه مع يوم قبله أو بعده، والثالثة: صيام الأيام الثلاثة، وأفضلها صيام الثلاثة، ثم صيام يوم قبله، ثم صيام يوم بعده، ثم صيامه لوحده، وهنيئًا لصائمه، فقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واعتبروا بنبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شأنه كله، واقتدوا به وتأسوا، وصلوا وسلموا كما أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
المرفقات
النجاة-9-محرم-1439هـ
النجاة-9-محرم-1439هـ
النجاة-9-محرم-1439هـ-2
النجاة-9-محرم-1439هـ-2