قصة السّامري: عبيد العجل عبر العصور أ. شريف عبدالعزيز عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1441/07/07 - 2020/03/02 10:59AM

قد يتبادر إلى الأذهان أن قصة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هي القصة الأكثر ذكراً في كتاب الله، فالقرآن معجزته -صلى الله عليه وسلم-، وحجته في دعوته، ودستوره في بناء دولته، وعليه أنزل، وبه أرسل، ولكن المتدبر في كتاب الله يجد أن قصة موسى -عليه السلام- وبني إسرائيل هي القصة الأكثر ذكراً في كتاب الله، وهذا من كمال إعجاز القرآن الكريم وعالميته وامتداده التاريخي ليكون دستور البشرية جمعاء، ورسالة ختام المرسلين إلى العالمين. ولكن ما الذي جعل قصة موسى -عليه السلام- هي الأكثر ذكراً في كتابه الحكيم؟!

 

الحق أن قصة موسى -عليه السلام- مع بني إسرائيل هي الأكثر ثراءً من حيث الفعاليات والأحداث والعلاقات الإنسانية المتشابكة، والمواقف المغايرة والتقلبات التي تُخرج دخائل النفوس وتظهر معادنها وتكشف حقيقتها. فقد عاش موسى -عليه السلام- حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى -عليه السلام- عاش حياتين؛ عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى -عليه السلام- وبنو إسرائيل في التيه. أيضا في قصة موسى مع فرعون مع بني إسرائيل تجسدت كل المشاهد التي تتكرر عبر العصور، من شعب مقهور، وحاكم مستبد طاغية، وداعية مصلح، مؤمنون ومنافقون، وملأ متكبر وأغلبية صامتة، وسنن وابتلاءات، معجزات وكرامات، إهلاك ونجاة، شكران وكفران، فالقصة إذاً الأكثر ثراءً وترشحاً للتكرار عبر العصور لتوافر أبطالها ومشاهدها في كل زمان ومكان.

 

قصة السّامري:

المتأمل في قصة السامري لابد أن يصاب بمشاعر متضاربة، وتثور في رأسه أفكار كثيرة، ويترجف قلبه مع تتابع قراءة تفاصيل القصة كما وردت في ثلاث سور كبار من القرآن الكريم؛ البقرة، الأعراف، طه. فشخصية السامري شخصية عجيبة ومحيرة للغاية تحتاج إلى علماء نفس لتحليل تصرفها الشائن وجرمهم الأنكر، فهو رجل من بني إسرائيل تعرض لكل ما تعرضوا له، عاش معهم في مصر تعرض للذل والمهانة والاستعباد وسوء العذاب على يد الفراعنة، ثم رأى الآيات والمعجزات التي خوطب بها فرعون، ثم رحل مع موسى -عليه السلام-، وعبر معه البحر الذي انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وشهد غرق عدوهم الأكبر وجنوده في اليمّ.

 

ثم بعد كل ذلك قرر أن يكفر بالله، بل ويضلل الناس بابتداع معبود باطل، ويكذب على الله ورسوله كذبة ما بعدها كذبة، إنها كذبة الشرك والكفر والارتداد بعد الإيمان.

 

إنها حقاً قصة تحتاج إلى التدبر العميق والتأمل الطويل للوصول إلى إجابات مقنعة لأسئلة محيرة من عينة: لماذا فعل السامري فعلته؟ ولماذا استجاب له بنو إسرائيل بهذه السرعة؟ وموقف هارون ثم موسى -عليهما السلام-؟ ثم لماذا كانت هذه العقوبة الفريدة والجماعية المروعة لعبيد العجل؟

 

البداية في الغياب:

بداية قصة السامري مع مواعدة الرحمن لموسى -عليه السلام- وقومه بعد إهلاك عدوهم، قال تعالى:(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)[طه80]، واعد الله -تعالى- موسى -عليه السلام- وبني إسرائيل عند الجانب الأيمن من جبل الطور بسيناء، ولكن موسى -عليه السلام- استبق قومه للقاء الله -سبحانه وتعالى-، فسأله ربه وهو أعلم عم أعجله؟ فقال: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه84]؛ لتزداد عني رضاً، فالمسارعة في الخيرات والطاعة من علامات الإيمان والتوفيق والرضا من الله، ولما سأله ربه وهو أعلم عن قومه؟ قال: (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي[طه84] قادمون سينزلون قريباً من الطور، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه قد فتن قومه بعبادة العجل في أثناء غيابه بسبب السامري وجريمته.

 

فائدة للخطيب: "موسى -عليه السلام- غاب عن قومه أربعين يوماً، فارتدوا وعبدوا العجل من دون الله، وأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- تُوفي نبيهم وقرة عيونهم فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا وثبتوا على الحق وحاربوا على شريعته وسنته، ونشروا الدين في ربوع الأرض وحملوا أمانته من بعده إلى الناس حتى دخلوا في دين الله أفواجاً، لذا فالصحابة هم خير الناس وأفضل الخلق قاطبة بعد الأنبياء والمرسلين".

 

كيف صنع السامري العجل؟

صناعة العجل بالكيفية التي وردت في كتاب الله تشبه نوعاً ما صناعة التماثيل والأصنام الذهبية التي تفنن في صناعتها المصريون القدماء والوثنيون الرومان، فقد قال الله -سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)[الأعراف:148]، كان بنو إسرائيل قد استعاروا من المصريين استعاروا حلياً ومصاغاً فلما هرب بنو إسرائيل أخذوا معهم الحلي؛ وبعد أن نجوا من فرعون وجنوده، حفروا حفرة عميقة ألقوا فيها هذا الحلي والمصاغ الذهبي ظناً منهم أنه مال مسروق، ولم تكن الغنائم قد أحلت لنبي قبل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فجاء السامري وهو رجل اختلف في اسمه، ولا يعنينا اسمه في شيء، والذي يعنينا في مثل هذه القصص العبرة والعظة والاعتبار.

 

السامري كان عنده حفنة من تراب أثر فرس جبريل أخذه يوم هلاك فرعون، فعندما رأي السامري هذا الحلي الكثير والذهب اللامع الذي يخلب لب كثير من ضعفاء النفوس، أوقد عليه نارًا بحجة التخلص منه فلما ذاب الذهب وأصبح يسهل تشكيله جعله على شكل العجل ثم ألقى عليه حفنة التراب من أثر فرس جبريل -عليه السلام-، فصار العجل له صوت خوار -صوت البقر- قال الله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ)[الأعراف:148] فوبخهم ربهم وذمهم وقرّعهم أشد تقريع فقال سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)[الأعراف:148].

قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم، وقال بعضهم وهو الأصح: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج؛ فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان، وقالوا لبعضهم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)[طه:88]، وقد افتتنوا به من عجيب صنعته وبريقه الذهبي وحجمه الضخم، فأحبوه وتغلغل فيهم، فلم يكونوا على استعداد لتركه؛ (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ..)[ البقرة 93] أي تشربت قلوبهم بحبه.

 

فائدة الخطيب: "عندما تنتكس فطرة الإنسان ويألف قلبه المعصية حتى يعتادها ويدمنها، فإنه يلغي عقله وينسى نفسه ويخلف عهده، فيشتري الوهم، ويقدس الخرافة، وينبهر بالتوافه، والمحصلة أن تتغلغل المعصية في سويداء قلبه وتستحوذ على فؤاده وتملك روحه فلا يرى عنها محيصاً ولا يبغي لها بديلاً".

 

عودة موسى ومواجهة الأطراف الثلاثة:

توالت الأحداث في قصة السامري سريعة بصورة تدعو للعجب والدهشة، بداية من إحساس بني إسرائيل أنهم قد أخطأوا في عبادة العجل وذلك قبل مجيء موسى من مواعدة ربه وما تلا ذلك من أحداث، فقد كان على موسى -عليه السلام- أن يواجه ثلاثة أطراف بالسؤال الشديد والتحقيق المديد عما جرى: قومه وأخاه والسامري.

 

عاد موسى -عليه السلام- مغضباً حنقاً، وحق له أن يغضب ويحنق عليهم، فبعد كل سنوات التعب والنصب ومكابدة الأهوال من أجل نشر الإسلام والتوحيد، وبعد كل هذه الابتلاءات والمصاعب التي واجهها موسى وهم معه يقعون في الشرك!

 

أحس موسى -عليه السلام- بالغضب لله ولدينه ولتوحيده، والغضب لجهوده الدعوية التي ذهبت أدراج الرياح وراحت سدى بعد جناية السامري في قومه، فعاد مغضباً ومن شدة الغضب ألقى الألواح المقدسة التي أنزلها الله -تعالى- عليه فيها والتوراة.

 

فائدة الخطيب: "على الداعية والمصلح والخطيب ألا يحزن من رفض البعض لدعوته أو انقلابهم عليها أو عليه، فهو أمر واقع في البشر لا محالة، وليس كل نكوص وارتداد عن طريق الحق نتيجة لضعف الداعية والخطيب أو قلة إخلاصه، ولكن الشطر الأكبر يقع على عاتق النفس البشرية وكيد الشيطان".

 

عاد موسى -عليه السلام- إلى بني إسرائيل وبدأ في تقريعهم وتوبيخهم، فحاول بنو إسرائيل الاعتذار من فعلتهم الشنعاء بأعذار سخيفة سمجة مثل فعلتهم وطريقتهم (قال يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي)[طه: 86] فكانت الإجابة (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)[طه: 87] فكذلك ألقى السامري، هكذا حاولوا أن يعلقوا الأمر على شماعة المُضل الذي في الحقيقة لم يفعل الكثير، هو فقط ألقى ثم أخرج عجله فكان القول بعد ذلك منهم، هم من قالوا (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى)[طه: 88] الفتنة إذا فتنتهم والخيار خيارهم، والضلال ضلالهم أن صدقوا من أرادوا تصديقه، صدقوا السّامري.

 

وبعدها استدار موسى -عليه السلام- لأخيه وخليفته في قومه أثناء الغياب ؛ هارون -عليه السلام-، واشتد عليه في العتاب وكاد أن يفتك به من شدة الغضب، خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: (قَالَ ابْنَ أُمَّ)[الأعراف:150]، يا بن أمي أنا وإياك من بطن واحد (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)[طه: 94] والسبب (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي)[الأعراف:150]، أنا لست قوياً مثلك، فالقوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي (وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي)[الأعراف:150]، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء (فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ)[الأعراف:150]، توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم؛ (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

 

 ثم جاء الدور على الجاني الأكبر ؛ السامري، وبأسلوب نبوي راق من نبي من أولي العزم، بدأ حواره بالاستفهام عما جرى (فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)[طه 95]، وكان موسى ينتقد بسرعة وبحزم للقضاء على هذه الفتنة، ما حملك على ما صنعت؟

 

إجابة السامري لسؤال موسى -عليه السلام- عن حقيقة ما فعل كانت عجيبةً أيضًا، فهي إجابة كاشفة عن من يقف خلف كل هذه الجريمة الشنعاء؛ (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)[طه: 96]، من سول له كل ذلك؟! من المتهم الأول في هذه الجريمة؟! من الذي يتحمل المسؤولية العظمى هاهنا؟! إنها نفسه! تلك النفس التي تعد المتهم الأول في كثير من الجرائم التي وقع فيها البشر منذ بدء الخليقة. فأول جريمة قتل عرفها البشر من المتهم الأول فيها النفس، من الذي طوع لابن آدم تلك الجريمة؟ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ)[المائدة:30]، إنها نفسه أيضًا، وفي قصة المراودة لنبي الله يوسف مع امرأة العزيز؟ هي النفس مرة أخرى، (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)[يوسف: 53]، حتى الوسوسة التي هي من خصائص الشيطان الوسواس الخناس فإنها أيضًا وردت في القرآن منسوبة للنفس؛ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)[ق 16]، والشح أيضا منسوب في القرآن للنفس (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ)[النساء: 128].

 

بعدما اعترف السّامري بجنايته بقى أن يكون جزاؤه من جنس عمله، عقوبة متفردة لم يكن لها نظير في قصص الأنبياء والمرسلين، فكما قلنا إن قصة السّامري وعبيد العجل قصة متفردة لا تتشابه في أي تفصيلة من تفاصيلها مع غيرها من القصص القرآني .قال موسى للسامري: (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ)[طه:97]، كما أخذت ومسست ما لم يكن أخذته من أثر الرسول لتفتن به الخلق، فعقوبتك من جنس عملك أن تقول (لا مِسَاسَ) لا تمس الناس ولا يمسونك فتكون مقبوحاً منبوذاً طريداً كالأجرب المجذوم الذي يفر منه الناس، لا أحد يريدك ولا تستطيع أنت أن تقترب من أحد، هذا غير ما ينتظرك يوم القيامة من العذاب والنكال.

 

(وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ)، ومعبودك هذا الذي فتنت به الناس (الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) ومقيماً على عبادته، (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)[طه:97]، حرقه في النار إذا كان من لحم ودم، أو برده بالمبارد إذا كان من ذهب حتى صار ذرات، ثم أذرى الرماد هذا أو الذرات في هواء في البحر ليفرقه الهواء في ماء البحر فيتلاشى تماماً ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)[طه:97]؛ ليكون حسرة وندامة على من افتتنوا به وعبدوه من دون الله، وسقوطاً وتعرية لكل المعبودات الباطلة أمام المخدوعين والسفهاء.

 

عقوبة عبيد العجل:

على الرغم من شعور عبدة العجل بالمصيبة والجناية العظيمة التي أقدموا عليها وطلبهم المغفرة والرحمة من الله عز وجل (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[ الأعراف: 149] رغم ذلك الشعور إلا إن العقوبة قد وجبت بحق لعظم جنايتهم وسرعة نسيانهم للعهود والمواثيق، فلا ذنوب مجانية، ولا آثام بلا أثمان.

 

العقوبة كانت أشد وأعجب عقوبة في تاريخ القصص القرآني جمعت بين الحزم والرحمة والنكال والمغفرة والعبرة والعظة، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[ البقرة: 54 ].

 

توبتهم كانت في قتل بعضهم بعضاً، قتلاً جماعياً لا يُعفى فيه عن قريب أو بعيد، كل من اشترك في تلك الجناية العظمى بالفعل أو بالصمت وعدم الانكار لابد أن تطاله العقوبة الجماعية.

 

وقد وردت عدة آثار عن السلف -رحمهم الله تعالى-، فمما ورد عن ابن عباس قال: "إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كلما لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. وكذلك جاء أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلة شديدة، أي: أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى بعضهم البعض عند القتل، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل، وتاب الله على القاتل والمقتول؛ لأن القتل كان هو التوبة. وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل. وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فأمسك عنهم القتل فجعله لحيهم توبة، ولمقتولهم هادة.

 

وبهذه النهاية المأساوية التي كانت جزاءً وفاقاً أُسدل الستار على واحدة من أعجب القصص القرآني الزاخرة بالدروس والعبر والعظات، نشير باختصار لأهمها وأبرزها:

1 – النفس البشرية أعدى الأعداء: فالسّامري لم يكن مشركاً أو عميلاً لفرعون أو هامان أو قارون، فهو من قوم موسى وشهد معهم كل الملاحم، وفرعون وهامان وقارون قد لقوا مصارعهم وهلكوا أمام أعين الناس، ولم يكن للسّامري مبرراً لجريمته إلا تسويل نفسه الآثمة كما أقر هو بذلك. فلا يأمنن أحد على نفسه مهما زكاها وبلغ الأدب معها منتهاها، فالسّامري شاهد عيان على الرسالة والمعجزات والآيات، ومع ذلك أهلكته نفسه.

 

2 – خطورة التزيين بالباطل: فالتزيين أحد أهم سبل الشيطان في إضلال بني آدم، وهناك شخصيات أوتيت مقدرة فائقة على تضليل الآخرين بمعسول الكلام وزخرف القول والأفعال الشيطانية، هذه الشخصيات أخطر من إبليس نفسه على الموحدين لأنه يراهم ويرونه، ويسمعونه ويشاهدهم، فالحذر من شخصيات كشخصيات السامري التي عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب القلوب وتحير الألباب، فهؤلاء الأشخاص لا بد من الحذر منهم، ومن عذوبة منطقهم وحلاوة ألسنتهم، أو دقة صنعتهم، فإن هناك كثيراً من يقوم بدور السامري بين المسلمين، على رأسهم إعلاميو هذا الزمان.

 

3 – أن لكل أمة فتنة، ولكل فرد اختبار لابد أن يخوضه من أجل التأكد من صحة إيمانه وقوة يقينه وصدق أفعاله وأقواله، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال".

 

4 – خطورة غياب الدعاة والمصلحين: فموسى -عليه السلام- غاب عن قومه الذين خاضوا معه الأهوال وتعرضوا من أجل إيمانهم للصعاب والمشاق، ورأوا الآيات والمعجزات والكرامات، ومع ذلك لما غاب عنهم أربعين يوماً فقط عبث به مفسد واحد فقط! رجل واحد استطاع بالتزيين والحيل الشيطانية واستغلالاً لغياب وجود الداعية والمصلح والمربي أن يضلهم عن الدين ويفتنهم في عقيدتهم إلى درجة الشرك.

 

5 – السرعة والحسم في مواجهة الباطل: من القواعد الأصولية الشهيرة: "الدفع أيسر من الرفع" فدفع الباطل قبل أن يتمكن ويتجذر في المجتمع أيسر بكثير من محاولة رفعه من موضعه بعد أن يتمكن ويجد له موضعاً ثابتاً.

 

فموسى -عليه السلام- بمجرد أن قال له ربه (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)[طه: 85]، عاد بسرعة وغضب وحنق وقوة دافقة من أجل حسم القضية واقتلاعها من جذورها، فدخل في صلب الموضوع بمجرد وصوله، فاستجوب أطراف القضية بطريقة دورية، بعيداً عن العاطفة، مع عدم الخلط بين المسئوليات والعاطفة عند المحاسبة، فلم يقل موسى: هذا أخي فحصل خير، لأنه أخي فلا أحاسبه، بل حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة.

 

6 – ألف المعصية يورث حبها في القلب، وتغلغلها في النفس، حتى تصل إلى مرحلة العشق والغرام فلا يستطيع مقارفها تركها والبعد عنها ولو قطّعت نياط قلبه، حب المعصية يصل بصاحبه لدرجة العكوف عليها، كالمعتكف المنقطع لطاعة ربه في العشر الأواخر، هو أيضا عاكف على معصيته لا يرى لها في الكون بديلاً. (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)[طه: 91].

 

7 – الباطل لن يكون حقاً أبداً: وهي فائدة مستقاة من قوله تعالى: (فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ)[طه: 88]؛ فلقد حاولت الفئة الضالة إطفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: (هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ)حاولوا إطفاء الشرعية على هذا العجل وأن يجعلوه حقاً لا مراء فيه، وهذه الفائدة لا شك أن لها أثراً في نفوسنا عندما لا نغتر بأي شيء مكتوب على الإسلام، أو هذه القضية إسلامية، أو هذا الشيء إسلامي دون أن نعرف حقيقته، فمحاولة أعداء الإسلام لإطفاء الشرعية على كثير من المناهج المنحرفة وعلى كثير من الكيانات، وعلى كثير من الشخصيات، وعلى كثير من الكتب، محاولات لا شك أن القصد منها تضليل المسلمين.

8 – أثر الاستعباد والذل في النفوس: لا يوجد على النفوس أخطر ولا أضل وأطمس من الاستعباد والذل، قد يكون البدن صحيحاً والعافية تامة والنعمة سابغة ولكن النفوس أسيرة كسيرة مرهقة خانعة من أثر الذل والظلم وطول الهوان والاستبعاد.

 

فبنو إسرائيل تعرضوا للظلم الكبير والاستعباد الطويل والذل المستمر الذي شوه نفوسهم وأعمى قلوبهم وفسدت فهومهم لعهود طويلة، فلما جاءتهم نسائم الحرية والانعتاق من الظلم والذل لم تتحمل نفوسهم الأسنة هواء الحرية النقي، وراحوا يبحثون عن فرعون جديد يعبدونه من دون الله، فما كاد موسى يترك قومه ويبتعد حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار، فلما عبروا البحر وجدوا أناساً عاكفين على أصنامٍ لهم (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)[الأعراف: 138].

 

 اعتادوا الذل والصغار والعبودية فوجدوها في البعد عن منهج الله، اعتادوا الرق والعبودية وعدم تحمُّل المسئولية فوجدوها في العجل، اعتادوا القتل والاجرام النهب والسرقة والزنا والفجور والانحلال والفساد والافساد وأكل الحقوق والرشوة والمحسوبية وقتل المصلحين فوجدوها في العجل، اعتادوا الخيال والأوهام والدجل والأساطير والكهانة وادِّعاء معرفة الغيب، أرادوا أن يصنعوا فرعونًا جديدًا عوضًا عن الهالك فوجدوه في العجل، لم يعتادوا العمل والجد والاجتهاد والكرامة والأمانة والحرية والاستقلالية ففرُّوا إلى العجل.

 

ومن أثر الذل والاستعباد في نفوس بني إسرائيل ظل موسى -عليه السلام- يعاني معهم طوال حياته معهم، فما كان موسى -عليه السلام- ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] ثم عبدوا العجل، ثم قالوا: المن والسلوى لا نريده، نريد بصلاً وثوماً وقثاء، حتى في الأكل مزاجهم منحرف، شخص يترك المن والسلوى ويقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاء -كراث-؟! ثم بعد ذلك يقولون: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)[البقرة:55]، وبعد ذلك قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة، فقالوا: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[المائدة:24] فصار بنو إسرائيل مضرب الأمثال في أثر الاستعباد والذل على تغير النفوس والقلوب وطمسها وانحرافها على الفطرة السوية.

المشاهدات 515 | التعليقات 0