قصة الخلاف بين أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما

أحمد بن ناصر الطيار
1434/11/19 - 2013/09/25 16:20PM
قصة الخلاف بين أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما 21/11/1434
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
أما بعد: فإِنَّ أصْدقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بدعةٍ ضلالة، وَكُلَّ ضلالةٍ في النار.
عباد الله: لقد جاءت مُصَنَّفاتٌ كثيرةٌ عن آداب الخلاف, وكيف نختلف, وعن صفاء القلوب, وعدمِ التهاجر والتقاطع, فلْنستمع إلى قصَّةٍ لَخَّصت ذلك كلَّه, وهي رسالةٌ إلى كلِّ مُتخاصِمَينْ ومُتهاجِرَيْن, رسالةٌ إلى من بدَرتْ منه زلَّةٌ في حقِّ أخيه المسلم, فإذا لم تُؤثر فيه هذه القصةُ العظيمة, فما الذي سيُؤثر فيه.
أخرج البخاري وغيرُه, عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما مُحَاوَرَةٌ، أي كلامٌ وجدال, فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ, فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ.
رضي الله عن أصحاب محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وجمعنا بهم في جنات النعيم.
فهذان الصحابيان الجليلان, وهما أفضلُ الناس بعد النبيِّين والْمُرسلين, يَحدُث بينهما من الخلاف وسوءِ التفاهُم, بل والغضبِ وإغلاقِ الباب في وجه صاحبه, كما يحدث من جميع الناس, والذي يُميِّزُهم عن جميع الناس, أنَّ هذا الخلاف الشديدَ لا يدوم طويلًا, ولا يُحدث فُرقةً وعداوة, بل لا يزيدُهما ذلك إلا محبَّةً وأُلفةً وصلة.
فهذا الصِّدِّيقُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه, يَطلبُ من الفاروق أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ويُسامحه، فَلَمْ يَفْعَلْ ذلك, بل وأَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ.
فما موقفك أيها الْمُؤمن لو فُعل بك ذلك, ما موقفك لو واجهكَ أخوك أو صديقُك بمثل هذا؟, ربما ستقطعه وتكرهه, ولو اعتذر إليك بعدها وتأسَّف: فلن تقبل عذره وأسفه إلا أنْ يشاء الله, ولو قبِلْتَ عذره: لبقي في قلبك مَوجِدةٌ وحَنَقٌ عليه.
انظروا ما ذا حصل بينهما بعد ذلك, فحينما رأى أبو بكرٍ من عمر رضي الله عنهما هذا الردّ: أصبح مهموماً حزيناً, وكأن الجبال على عاتقَيْه, أتدرون لماذا؟ ليس لما لاقاه من جفاء عمر, بل خوفاً أنْ يكون قد آذاه, أو بَدَرَ منه شيءٌ أساء إلى صديقه, فما كان منه إلا أنْ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ, من شدَّةِ الهمّ والغمّ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» أَيْ خَاصَمَ, فَجاء وسَلَّمَ ثم قَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلاَثًا.
فما كان من عُمَرَ الفاروق, إلا أنْ نَدِمَ على فعله, وأحسّ بحرقةٍ تجاه تصرُّفه.
فلا إله إلا الله, أين من يتكلَّمُ على صديقه أو أخيه, بكلامٍ أو فعلٍ سيِّءٍ, أين مَن يُغضب صاحبه ويُكدِّر خاطره, ثم يَمضي على وجهه كأنَّ شيئاً لم يكن, لا يسأله مغفرةً وعفواً, أو يستسْمحُه ويُطيِّبُ خاطره.
فهذا هو الكِبْرُ بعينه, يعتقد أنَّه إذا اعتذر أو طلبَ الْمُسامحة سيقلُّ قدرُه, وتسقُطُ هيبته, وهو لا يعلم أنه بعدم اعتذاره سيقلُّ قدره عند الله تعالى, وسيمقته الناس جميعاً.
فعندما ندم عمرُ رضي الله عنه, أَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ مهموماً فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فازداد همًّا وغمًّا, فما كان منه إلا أنْ توجّه إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهمومًا حزينًا, فَسَلَّمَ عليه، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ، أي يتغيَّر من الغضب والحنق, حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ على عمرَ رضي الله عنهما، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، بدأ يُدافع ويُحاجج عنه, بل ويحلف بالله أنه كان أظلم, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُون لِي صَاحِبِي؟» قال: فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
ما أعظم قلوب الصحابةِ رضي الله عنهم, وسرعةَ عفوهم ومُسامحتهم للمخطئ, مهما بلَغَ وعظُمَ الخطأ, فالصِّدِّيقُ قبِل اعتذار الفاروقِ رضي الله عنهم, بل وجعل يُدافع ويُنافح عنه.
فما أجمل أنْ نعفوَ عن الآخرين, وأنْ نقبل عذر من اعتذر إلينا, وأنْ نُسامح من طلب المسامحة منا, وكلَّما عفا العبدُ رفع الله قدره, وضاعف أجره, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا». رواه مسلم
والمعنى: أنَّ الله تعالى, لا يزيد العبدَ إذا عفا وتسامح, إِلَّا عِزًّا ورفعةً في الدنيا والآخرة.
وصدق الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
إنَّ هذا الحظ العظيم, لا يستحقُّه إلا مَن علم الله صدقه, وإيثارَ مرضاةِ الله على مرضاةِ نفسه.


اللهم ارض عن أبي بكرٍ وعمرَ, واجمعنا بهم في جنات النعيم, إنك سميعٌ قريبٌ مجيب.


الحمد لله رب العالمين, ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه والتابعين, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: ولقد اسْتنبط العلماءُ من هذه القصة, فوائدَ جمَّة, وأحكاماً عدَّة, وقد ذكرها الحافظ ابنُ حجرٍ رحمه الله, أسوقُها مع التعليقِ عليها, قال رحمه الله : وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ. وهذا ظاهرٌ في هذه القصة وغيرِها.
قال: وَأَنَّ الْفَاضِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ, أَنْ يُغَاضِبَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وهذا إذا كان فاضلاً تقيًّا, لا ينبغي له أنْ يُغَاضِبَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ وأتقى مِنْهُ, فكيف بمن كان جاهلاً فاجراً, يَتطاول على أهل الخير والصلاح.
قال: وَفِيهِ جَوَازُ مَدْحِ الْمَرْءِ فِي وَجْهِهِ, وَمَحَلُّهُ إِذَا أُمِنَ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ وَالِاغْتِرَارُ.
حيثُ أثنى صلى الله عليه وسلم, على أبي بكرٍ رضي الله عنه في وجهه.
والثناء على أهل الخير والصلاح, من علامات الصدق وصفاء القلب, والإمساكُ عن المدح والثناء عليهم, من علامات مرض القلب, والكبرِ والحسد.
قال: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ سُؤَالِ الِاسْتِغْفَارِ, وَالتَّحَلُّلِ مِنَ الْمَظْلُومِ.
أي أنَّ السنّة: أنْ تتحلَّل من كلِّ أحدٍ تكلَّمت عليه, أو صدر منك تجاهه ما يكره, أو ما يُكدِّر خاطره, فتحلَّلْ منه اليوم, قبل أنْ لا يكون دينارٌ ولا درهم, إنما هي حسناتُك أيها المسكين, التي أفنيت عُمْرَك في تجميعها, من صلاةٍ وصيامٍ وصدقة, فتذهب لصاحبك الذي خاصمته وأحزنته.
قال رحمه الله: وَفِيهِ ما طُبِع عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ, حَتَّى يَحْمِلَهُ الْغَضَبُ عَلَى ارْتِكَابِ خِلَافِ الْأَوْلَى, لَكنَّ الْفَاضِلَ فِي الدِّينِ, يُسْرِعُ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَوْلَى, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائفٌ من الشَّيْطَان تَذكرُوا}.
وصدق رحمه الله, فالله تعالى قد طبع فينا الغضب, ولكنَّ الفاضل والمؤمن والتقي: من يُبادر إلى الإصلاح والعفو, وطلبِ الاستغفار والمسامحة..
واجعل هذه الآية العظيمةَ بين عينيك: {إن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائفٌ من الشَّيْطَان تَذكرُوا}.. فها أنت تسمع الذِّكرى فتذكَّر, وها أنت تسمع الموعظة فاتَّعظ, {إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
اللهم حسِّن أخلاقنا, وألِّف بين قلوبنا, وارفع درجاتنا يا رب العالمين..
المشاهدات 1923 | التعليقات 1

ما ذكرته من التوضيح شيخ أحمد هو الواجب الشرعي نحمله لأصحاب الفضل علينا الذين حملوا هذا الدين إلينا وبلغوه.
وعلينا أن نحمل كل قضية صدرت منهم على المحمل الحسن إذ مثلهم ينبغي أن نوسع دائرة حسن الظن كيف وهم أفضل الخلق بعد أنبياء الله ورسله وقد تجلت فيهم تعاليم القرآن وظهرت عليهم آداب سنة المصطفى.
شكر الله لك