قصة أصحاب الجنة ومنع الحق
عبدالله القاضي
لحمد لله رب العالمين ، أعطى ليميز الشاكرين ، ومنع ليرفع درجة الصابرين . أحمده وهو للحمد أهل ، وأشكره وهو المتفضل عزَّ وجل وأشهد ألا إله إلا الله قسم الرزق وقدر الأجل . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله استعاذ بالله من العجز والكسل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه اجتهدوا في عبادة ربهم وأحسنوا العمل . أما بعد :-
فهذه سورة من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت في مكة في السنين الأولى من الدعوة . ذكر الله في هذه السورة قصة قوم ابتلاهم . ابتلاهم واختبرهم بالعطاء !! فلم يعرفوا قيمة النعمة ، ولم يراعوا حقَّ المنعم . قوم يسكنون جنوب جزيرة العرب ، زمنهم في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . ابتدأ الله قصتهم في سورة القلم بقوله : (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) أي : أن الله ابتلى كفار مكة واختبرهم كما اختبر أصحاب الجنة أصحاب البستان . فما قصتهم ؟؟ هم أبناءٌ ورثوا جنة بستاناً عن أبيهم ، وهم ثلاثة، قاله ابن عباس ، وقيل : أكثر . أما أبوهم فهو رجل صالح . غرس بستاناً بالنخيل والزروع فطاب بستانه ، وكثر نتاجه . فكان يأخذ منه قوت سنة ، ويتصدَّق بالباقي ، وكان ينادي الفقراء وقت الحصاد والصِّرام ، وكان من خبره أنه يبسط بساطاً فكل شيء خرج عنِ البِّساط فهو للمساكين ، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر ، وكل شيء تعداه المنجل وهو المخلب عند قطاف العنب فهو للمساكين . فكان يجتمع من ذلك شيء كثير فانتعش في وقت أبيهم كلُّ مسكين ويتيم وأرملة . فالمحتاجون مغتبطون بصدقته يعيشون في ظل معروفه لا يجدون من مكرمهم مناً ولا أذى وتلك أعلى الصدقة .
وتأتي على هذا المحسن سنة الله في خلقه ، يأتيه الموت غير آسف على دنياه ، مؤملا قبول إحسانه عند مولاه . (وما تنفقوا من خير يعلمه الله) (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً) . يموت الأب المحسن فيرثه أبناؤه . فكيف كان حال هؤلاء الورثة ؟ كان شر حال . كانوا خلف سوء لسلف صالح. قال ابن كثير : فلما مات وورثه بنوه قالوا : لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا . فحينئذ جاءت النية الفاسدة في الليلة المظلمة، وأقسموا قسما آثما، وحلفوا على منع الخير، وعزموا على صرم ثمر بستانهم، من غير استثناء، أي من غير قول: إن شاء الله. فـ (أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون ) عزم مؤكد وشح واستئثار بنتاج بستانهم، وثمرة جنتهم، قاطعين بذلك عادة خير كان عليها أبوهم.
جاء الصباح، فساء صباحهم، وساءت ليلتهم بسوء نيتهم. جاء الصباح !! فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين _ أي قاطعين لثمرة البستان! فانطلقوا مسرعين خشية المشاركين، انطلقوا وهم يتخافتون، يتسارّون وتهامسون، كي لا يسمعهم أحد: يقول بعضهم لبعض: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين!
(وغدوا) أي خرجوا في أول النهار (على حرد) أي على منع وبخل (قادرين) أي يشعرون ويظنونه بأنهم قادرون على ما يريدون، لا يحول دون مرادهم حائل، فسيَجُدَّون الثمار إلى مستودعاتهم، ولكنهم غفلوا عن مراقبة من يعلم السِّر والنجوى ، ومن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
(فطاف عليها طائف من ربك) أي عذاب نزل عليها ليلا، وهي نار أحرقتها، (وهم نائمون) فأبادها وأتلفها فأصبحت كالصريم، أي كالليل المظلم من سوادها وذهبت الأشجار والثمار . كلُّ هذا وهم نائمون وفي مضاجعهم يتقلبون ، وصدق الله (ولا تحسبنَّ الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون) .
(فلما رأوها) سوداء محترقة قالوا من شدة حيرتهم وعظم مفاجأتهم: إنا لضالون، أي أخطأنا الطريق، فهذا ليس بستاننا! ولكنهم سرعان ما أفاقوا من صدمتهم، فلا بدَّ من مواجهة الحقيقة، وإن عظم الثمن، فرجعوا إلي أنفسهم فقالوا : بل نحن محرومون! هنا أفاقوا، وعلموا أن الله حرمهم بستانهم. حرمهم ربُّ العالمين، رب المستضعفين ورب المحتاجين، الذين صممتم على حرمانهم، فكان حرمان الله لكم أسرع، فهي إذن عقوبة (ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد). ومن رحمة الله بهؤلاء أنها عقوبة نافعة، وتنبيه أثر أثره فيهم، فبادرهم أوسطهم -أي أفضلهم- فقال : ألم أقل لكم لولا تسبحون؟! أي تنزهون الله عما لا يليق به، وتتركون ظنكم أنكم قادرون على الحرمان للمساكين ، وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئة الله . فلما ذكَّرهم أخوهم، اعترفوا بذنبهم وتابوا إلى ربهم، قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين. ثم بدأ تلاوم التائبين (وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا ياويلنا إنَّا كنا طاغين) متجاوزين حدود الله التي حدَّ لنا غفلة منا وجهلاً بأنفسنا وبما يعاقب به أمثالنا . فهرعوا إلى ربهم راغبين أن يصلح حالهم وأن يبدلهم خيراً من جنتهم ، ومن دعا الله تائباً راغباً فالله أكرم من عبده فيجيب سؤله ويعفو عن سابقته، اللهم فاجعلنا من التوابين.
أما بعد :- فإنَّ من أعظم دروس هذه القصة وعظاتها التحذيرَ من نية منع صاحب الحق حقَّه . فالغني الذي نوى ألا يعطي الفقير حقه من الزكاة الواجبة، والمستدين الذي نوى ألا يسدد ما اقترضه . وصاحب العمل الذي نوى ألا يوفي العامل أجرته المستأجر الذي نوى ألا يؤدي إلى صاحب العقار حقَّه، أو نوى أن يعطيه البعض وقد بيَّت أنه سيُخلفه في بعض الأجرة، كل هؤلاء متوعدون بعقوبة الله تعالى، والله تعالى يقول: (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر) وإنَّ من أعظم العقوبات التي يعاقب الله بها عبده العاصي عقوبة الحرمان. فالفقر لمن لم يقم بشكر نعمة الغنى عقوبة . وفقد الأهل والأصحاب لمن لم يرع حقَّ الله فيهم عقوبة والمرض بعد الصحة لمن لم يستغلَّ صحته في طاعة الله عقوبة . وهكذا الخوف بعد الأمن ، والشغل المقلق بعد الفراغ، فاحذروا عقوبة الله بالحرمان بعد العطاء . وتعرفوا على نعم الله لديكم لتقيدوها بالشكر.