قصة أصحاب الأخدود: فداء أحيا أمة ..أ.شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
بما سبق المهاجرون غيرهم؟! ولماذا تمنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يموت شهيداً؟! ولماذا كان للمجاهدين في سبيل الله مائة درجة في الجنة؟!
أسئلة تفضيلية كثيرة من الممكن أن تثور في هذا المقام، جماع الإجابة عليها في كلمة واحدة؛ الفداء والتضحية؛ فالفداء والتضحية مقام يبرهن به العبد على صدق أقواله وأفعاله ومقاماته الإيمانية كلها، وهو أيضا مفتاح نجاح الدعوات والرسالات، وعنوان مجد الأمم الخالدة، ولولا تضحيات الصحابة -رضوان الله عليهم- وسلف هذه الأمة من علمائها ومجاهديها ودعاتها، ما وصل إلينا الإسلام سالماً من الشبهات والآفات التي لوثت الرسالات السابقة، وهذا من تدبير الله -عز وجل- وحفظه لدينه ورسالته من العبث والضياع.
واليوم بحول الله وقوته نعايش واحدة من قصص الفداء والتضحية في تاريخ الدعوات، قصة تميزت عن غيرها أنها جمعت بين النص القرآني المعصوم، والتفسير النبوي المفهوم، فصارت تجمع من درتين، وتحلق بين سماءين؛ إنها قصة أصحاب الأخدود وغلامه، فقد وردت قصة أصحاب الأخدود في القرآن، في حين وردت قصة غلام الأخدود في السنة النبوية المطهرة.
قصة أصحاب الأخدود وغلامه، هي قصة ظلم تتكرر في تاريخ الدعوات، وهي في ذات الوقت قصة فداء وتضحية في سبيل الدين تسطر بدماء الشهداء، ونور يضيء الدرب للمؤمنين، ولعنة تصب على الكافرين والظالمين الغاشمين، وتاريخ ناصع لا يكذب عن طبيعة المعركة بين المؤمنين والكافرين، وبين الطغاة والدعاة، وبين البغاة والهداة.
وردت القصة في القرآن في سورة البروج وهي سورة مكية تميزت بخصائص القرآن المكي الذي كان يركز على قضايا الإيمان والآخرة والثبات والبذل والتضحية وعاقبة المتقين ومصارع المكذبين. وسياق آيات سورة البروج يكشف بجلاء عن الغرض القرآني لذكر قصة أصحاب الأخدود.
إنها قصة تحمل في ثناياها معاني عظيمة، وفوائد جليلة، وأفكارا بناءة، لو ذهبت تستقصيها وتتعمق فيها لاستخرجت منها دروسا مهمة في التربية، والثقة بالله، وتصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة، وتجلية الحقائق التي قد تغيب عن النفس. وقد جاءت تفصيلاتها في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إنها قصة فئة آمنت بربها، واستعلت بإيمانها أمام أعداء جبارين مستهترين بحق الإنسان في التمتع بدينه الحق. وقد جعلت هذه الفئة الناس ألعوبة يلعبون بهم كيفما شاءوا، وأغرقوهم بالسحر والشعوذة، فكانت هداية الجماهير على يد غلام، تمكن الإيمان من قلبه.
قال الله -سبحانه وتعالى- في صدر سورة البروج: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)[البروج: 1-11].
وفي صحيح السنة النبوية تبيين وتفصيل لكثير من مجملات الآيات. فقد أخرج الإمام مسلم والترمذي وأحمد وغيرهم عن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه.
فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي.
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسا للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال :ربي. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ؟. فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى. فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام. فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله.
فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟! قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام.
فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق. " وهذه رواية مسلم، وفي رواية الترمذي زيادات أخرى كثيرة.
دروس وكنــوز من هذه القصة العظيمة:
أولاً: إيهام الزمان والمكان والشخوص
في الحديث إشارة للزمن التاريخي الذي وقعت فيه القصة "فيمن كان قبلكم"، في الأمم السالفة، ولكن دون تحديد لهذا الزمان بعينه. كما نلاحظ حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على إبهام الأشخاص، فلم يحدد لنا اسم القوم، أو المكان الذي وقعت فيه القصة -وما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الأخدود كان بنجران لا يصح فيه شيء مرفوعاً- وذلك حرصا منه عليه الصلاة والسلام أن تنصرف العقول إلى الأشياء المهمة فقط، ألا وهي: العظة والعبرة. وإبهام الأشخاص فيه من الفوائد: أن تتجاوز القصة القيد التاريخي، لأنها قد تحدث في كل زمان وفي كل مكان، فالجبابرة والطواغيت في كل عصر يتفننون في تعذيب الصالحين حتى يصدوهم عن دينهم.
ثانياً: الملوك وحب السيطرة
نلاحظ في القصة الاقتران بين الملك والسحر من جهة السيطرة على الناس، فالملك من مصلحته أن يسيطر على الناس، ومن أجل ذلك يتخذ الوسائل والأدوات التي يمكن أن يسيطر بها على الناس، وكان السحرة –وقتها– من أهم أدوات السيطرة. فلقد استعان الملوك بالسحرة قديمًا مرارًا وتكرارًا، وفرعون لعنه الله استعان بالسحرة، والملك هذا في قصة أصحاب الأخدود استعان بالسحرة، ولا يزالون يستعينون بالسحرة. ولكل زمان سحرته ودجالوه، وسحرة هذا الزمان وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي التي تستطيع أن تنقل الكذبة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب في لمح البصر، وتستطيع أن تقلب الحقائق وتزين الباطل وتروج للشائعات وتنشر الفتن والاضطرابات وتشوه سيرة الصالحين، وترفع من قدر المبطلين والفاسقين، فلا عجب أن يكون الإعلام ساحر الزمان وخادم كل طغيان.
نلاحظ في القصة حرص الساحر أن يعلم غلاما مكانه لأنه كبر سنه، وفي هذا إشارة إلى حرص بطانة السوء أن تبقي الأوضاع كما هي مستقرة ومستمرة لمصلحة الملك، وهذا أمر مشاهد في كل زمان.
ثالثاً: بطل القصة غلام صغير
من أهم مدلولات هذه القصة القرآنية النبوية؛ أن بطل هذه القصة المثيرة هو غلام، و هذا الغلام هو الذي أجرى الله على يديه على الأحداث السابقة الواردة في الحديث و هذا يجعلنا، بل يثير انتباهنا كي نهتم بالأطفال أبلغ اهتمام.
فقد طلب الساحر غلاماً وليس رجلاً ليعلمه السحر، لأنه يريد أن يطول عمر صاحب الباطل، واشترط أن يكون الغلام ذكيًا يستطيع أن يفهم بسرعة، ويتعلم بسرعة، ويكون عنده الوقت حتى يمارس أطول وقت ممكن، وينشأ ويترعرع على الباطل؛ لأن غرس الباطل في نفوس الأطفال سهل، وتنشئتهم عليه يكون في البداية، وفي سن الطفولة له أثر عميق في النفس.
وأهل الحق والخير والدعوة أولى بالاهتمام بالأطفال والصغار من أعدائها الذين يحاربون ليل نهار للسيطرة على عقول أطفالنا وصغارنا. يقول الرافعي -رحمه الله-: "إن الفج اليوم هو الناضج غداً ". فالأطفال اليوم و إن كانوا أطفالاً، فهم في الغد رجال، سيحملون ما يحملون من أفكار، و ربما مجدد العصر يكون بين هذه الأطفال الذين تنهرهم وتطردهم من المسجد إذا جاءوا للصلاة فيه".
إن علاقتنا مع أطفالنا –إلا من رحم الله- علاقة عضوية فقط، علاقة طعام وشراب ونسب، أما علاقة التربية التي يقصد بها تخريج الأجيال المسلمة الموحدة لربها والعاملة بدينها فهي منقطعة، على الرغم من أن التربية مأمور بها الإنسان المسلم لأولاده، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
ولاشك أن هذا إهمال كبير في رعاية الصغار، وللأسف أن يتكرر المشهد في حياة بعضنا حينما نترك أولادنا لقنوات الفسق، ولبعض الألعاب التي تمتلأ بالمخالفات العقدية والسلوكية، بل ونتساهل في متابعتهم عبر الجوال للمقاطع التي قد تكون فيها مخالفات، ولا نكلف أنفسنا حتى التوجيه لهم في ضبط مشاهداتهم.
رابعاً: قدر الله غالب لا محالة
من ثنايا القصة يتضح أنه قد اختار أنبه غلمان القرية وأكثرهم استعداداً لتولي مهمة تعلم السحر وخلافة ساحر الملك في مهمته الأساسية وهي السيطرة على عقول الناس، ولكن سخر الله لذلك الغلام راهبا، ليعلم الناس أن قدرة الله نافذة، مهما خطط الطواغيت وكادوا لأهل الإيمان، فالملك والساحر أرادا للغلام أن يكون ساحرا فاسدا يدافع عن الملك وظلمه، وأراد الله أن يكون الغلام خير داعية إلى الله -تعالى-.
فالله -عز وجل- إذا أراد هداية شخص مهما تكالب أهل الباطل عليه، وكان عنده المعلمون الكبار للكفر، فإن الله إذا أراد أن يهديه هداه، ولذلك يمكن أحيانًا أن يهتدي الشخص في أسوأ الأماكن، فكم من قساوسة ورهبان كانوا معاقل للتحريض ضد الإسلام وتشويهه، ثم دخل نور الإسلام في قلوبهم واضاء ظلمة نفوسهم، فآمنوا وصاروا دعاة وجنداً من جنود الدين، وكم من قادة لجيوش الكفر صاروا جنداً وفاتحين كبار لخدمة الدين، وكم من ساسة وفنانين وراقصات تابوا بعد حياة العهر والفجر ونشر الرذيلة ثم صاروا دعاة وهداة.
قدّر الله -عز وجل- أن يكون الراهب في طريق الغلام إلى الساحر، فيأخذ الله بناصية هذا الغلام ليجلس إلى الراهب الذي على الدين الحق والتوحيد الصحيح، ويسمع منه ويميل إليه، والكلام عن الدين الصحيح تميل له النفوس ولو رفضته في ظاهر الأمر، وهذا واضح من كلام الغلام لما بدأ يلازم الراهب ويرغب في البقاء عنده، وهذه هي الفطرة النقية التي لم تتلوث بالباطل، تجد أنها تحب الحق وترغب في التمسك به.
ولكن السؤال الذي قد يثور في هذا المقام: لماذا كان الغلام حائراً متردداً في أمر الراهب والغلام؟!
الغلام يوميًا كان يتلقى درسًا في الكفر، ودرسًا في التوحيد، يجلس عند هذا الساحر شيخ الكفر والسحر، وعند الراهب شيخ التوحيد والدين والإيمان، إنها ازدواجية في التلقي، ولذلك تنتج حيرة، ولأجل هذا الغلام بقي في نفسه أي الأمرين أحب إلى الله: أمر الساحر، أو أمر الراهب، في حيرة صحيح قد يكون هناك ميل أو ترجيح. ولذلك يجب أن يتلقى أولادنا الحق من طريق واحد، لا يتلقون حقًا وباطلاً، لا يتعلمون إسلامًا وكفرًا، لا يتلقون سنة وبدعة، لا يتلقون حسن خلق وسوء خلق، فالازدواجية مضرة تنتج في النفس انشقاقات، وتجعل الطفل في حيرة واضطراب.
خامساً: التجرد شعار المخلصين
فإخبار الراهب الغلام بأنه أفضل منه يدل على مدى الإيمان الذي يتمتع به الراهب، وتجرده عن حظوظ النفس، وزهده في هذه الحياة الدنيا. وكون الغلام أفضل من الراهب يدل على أن الفضل والمنزلة في الدعوة لا تكون بالسبق وطول العمر، بل بمقدار الإيمان والتقوى، وهذا أمر نلاحظه في المساجد، فتجد الشاب الذي يصلي حديثا لربما صار عنده من الإيمان أكثر من الكبير الذي له عشرات السنوات في المسجد.
ومسألة اعتراف الأستاذ بأن تلميذه تفوق عليه من نوادر المسائل التي لم تعد موجودة في واقعنا المعاصر الزاخر بنماذج من الأنانية وحب الذات والنرجسية. وحتى الآن لم نسمع -إلا نادراً- أن أستاذاً مدح تلميذه وقرظه، وأي تشجيع أعظم من أن يمدح الأستاذ تلميذه ويعترف بجهوده. ولقد كانت إحدى وسائل التشجيع عند النبي -عليه الصلاة والسلام- إطلاق بعض الألقاب العلمية على الصحابة المتميزين كقوله عليه السلام "أقرؤكم أبي وأفرضكم زيد. .".
سادساً: الابتلاء سنة ماضية على طريق الدعوة
سنن الله في الدعوات وفي الخلق عموما لا تتغير ولا تتبدل، والابتلاء من سنن الله الثابتة لعباده المؤمنين خاصة الدعاة والمصلحين، فلابد أن يبتلى العباد ليعلم الصادق من الكاذب، وأهل الإيمان من أهل الزيغ والكفران، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)[محمد: 31]، وتصور دعوة بلا ابتلاء، وإصلاح بلا ثمن، تصور غير واقعي، لم يشهده التاريخ يوماً، إنما شهد على طابور طويل من المصلحين والدعاة والمخلصين الذين قضوا نحبهم على طريق إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، والنصح للأمة.
سابعاً: ربط قلوب الناس بالله سبحانه وتعالى
فقد كان الغلام مما يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي المرضى بإذن الله.. وكان إذا طلب منه أحد الشفاء قال: "أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله –تعالى-، فإن آمنت به دعوته لك فشفاك"؛ وذلك حتى لا تتعلق القلوب بغير باريها وخالقها وإلهها، وحتى لا ننقل الناس من عبادة الفرعون إلى عبادة الكاهن، وننقل الإلهية من الملك إلى الشيخ، وحماية للعقول من أن تنتقل من تعظيم الحق إلى تقديس الشخص، فإذا اهتدى اهتدوا بهداه، وإذا زاغ أو ضل أو زل زاغوا بزيغه وضلوا بضلاله.
وهكذا ينبغي للدعاة أن يعلقوا قلوب الناس بالله -تعالى- وحده وأن لا يسمحوا لأنفسهم أن تطلب حظاً من حظوظ الدنيا من الشهرة والالتفات وتعلقات البشر بها.
ثامناً: الثقة المطلقة بالله عز وجل
فعندما أمر الملك زبانيته بأخذ الغلام وإلقائه من فوق الجبل إن أبى الرجوع عن دينه، فكان دعاؤه: "اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت"، ثقة كاملة بالله، واستغناء كامل بقدرته، وتوكل تام عليه وحده.. فليس هناك أسباب إلا الدعاء، وليس ثمة باب مفتوح أمامه إلا باب الغالب الوهاب، فسلم له النفس ووكل إليه الأمر يدبره بقدرته التي لا حدود لها بالطريقة التي يراها سبحانه.
النجاة تكمن في صدق الالتجاء إلى الله والتوكل التام الذي لا يشوبه أدنى ذرة من شك على فرجه ونجدته لعباده المؤمنين. أما آلية النجاة وكيفيتها فلا تأتي حسبما يخطط له الإنسان، و إنما تأتي على الكيفية التي يريدها الله -سبحانه وتعالى- وما على الإنسان إلا ويحسن الثقة بالله –سبحانه- ويكل الآليات له سبحانه.
تاسعاً: مواصلة الدعوة والإصلاح
فقد أنجى الله الغلام من الموت مرتين، وفي كل مرة يعود إلى الملك بنفسه ليبلغه الحق ويدعوه للإيمان، لم يهرب ولم ينسحب، بل أخبره بنفسه عن السبيل الوحيد لقتله، فأسلم نفسه للموت والقتل من أجل إظهار الحق. إصرار عجيب على الدعوة، وإصرار على إظهار الحق، وإصرار على تحدي الباطل، خصوصا وليس في الميدان غيره، وهي رسالة لرموز الدعوة الكبار، الذين ارتبطت بهم الدعوات وصاروا من سماتها؛ فهؤلاء لا يسعهم ما يسع الصغار والعوام، وهروبهم من الميدان خذلان للدعوة وخسارة كبيرة، وفتنة للمدعوين، ونكوص عن واجب كانوا هم أولى الناس به.
عاشراً: الفداء يحيي الدعوات ويبقي الأمم
الغلام لم يعد مؤمناً أو صاحب كرامة فحسب، ولكنه أصبح صاحب رسالة، وحامل دعوة، ومؤدي أمانة، لقد جعل الغلام عمره وقفا على دعوته، ولذلك بذله في سبيلها، فلم يعد يرى هدفاً له في الحياة سوى هداية البشر وإصلاحهم، لذلك فهو يعود مرة بعد مرة إلى الفرعون ليصل معه إلى الهدف الذي يسعى إليه.
الهدف الذي يسعى إليه أن تصل الرسالة إلى كل شرائح المجتمع، إلى كل أفراد القبيلة، إلى كل هؤلاء الذين يعبدون الفرعون ويألهونه من دون الله، لذلك طلب منه أن يجمع الناس كلهم في صعيد واحد ليروا بأنفسهم صدق الدعوة وبطلان الكفر.
الغلام يدل الملك على قتله ويبذل نفسه لتحيا الدعوة، وهذا أعظم مثال للتضحية في سبيل الله، وهذا ليس من باب الانتحار أبدا، فلم يكن الغلام يائساً يطلب الموت، ولكنه كان يطلب إيمان الناس. فآمن الناس كلهم بعد أن رأوا صدق دعوة الغلام وقدرة رب الغلام، فبقيت الدعوة وجن جنون الطاغية، فأمر بخد الأخاديد وإحراق الناس، فبلغ بهم إيمانهم الغض الطري الذي لم يمر عليه ساعات قليلة، أن يؤثروا على الموت بأبشع طريقة حرقاً على العودة للكفر، ويا له من إيمان تشتاق له اليوم قلوبنا وتتمناه.
الحادي عشر: الانتصار الحقيقي؛ انتصار الحق
الحسابات الأرضية حسابات مؤلمة مليئة بالمنغصات، وحسابات السماء ما فيها إلا الفرح والسعادة للمؤمنين، والعذاب والشقاء للكافرين والمجرمين. والخسارة الحقيقية ليست في موت الداعية والمصلح، وإزهاق الظالمين لنفوس المؤمنين، وإنما الخسارة الحقيقية أن ترتد عن دينك، وأن تنكص على عقبيك، وأن تتخلى عن مبادئك، أو تتنازل عن الحق، أو تهادن الباطل:
كما أن الانتصار ليس في سلامة الأبدان، وصيانة الأموال، وحفظ المراكز، وإنما الفوز الكبير هو أن تعيش إن عشت على الإيمان، وتثبت عند الموت على الإسلام، أن تموت على المعتقد الصحيح، وأن يؤمن الناس بدعوتك حتى وإن كان سبيل إيمانهم أن يمروا على جثتك، لقد مات الغلام ولكن آمن القوم، وقتل القوم وحرقوا ولكن كانوا ثابتين على إيمانهم؛ فأدخلهم الله الجنة، وشهد لهم بأنهم فازوا الفوز الكبير.
الثاني عشر: كرامات الله لأوليائه وأصفيائه
قد أجرى الله الكرامة على يد طفل رضيع تحمله أمه، والنيران مشتعلة أمامها، فتخاف من الوقوع فيها، وصلابة دينها وقوة عقيدتها لا تسمح لها بالكفر. إنها لا تخاف على نفسها من النار، ولكن حنان الأم الذي يجعل حياة الولد مقدمة على حياة الأم، إنه ثمرة الفؤاد.
ولكن ينادي الطفل وينطق بأمر الله في كرامة عظيمة حفظها التاريخ، وتناقلتها الأجيال، ويأمر أمه بالصبر لأنها على الحق، فاجتماع الأهل والأحبة عند ملك الملوك خير من اجتماعهم عند ملك ظالم طاغية جبار، لا يستطيع المؤمن أن يفعل أدنى شعائره الدينية في مملكته.
وقد كان من آخر كرامات الله للغلام أن حفظ جسمه فلا يبلى، ولا تأكله الأرض، وقد كشفوا عنه في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فوجدوه كما هو، وأصبعه على صدغه كما وضعه، صدق الله فصدقه الله.
انتهى تاريخ الصالحين بالإحراق بالنار، وانتهى تاريخ الطغاة بالتعذيب بالنار، ومضت السنوات والتاريخ لايزال يذكر سير المؤمنين الصادقين الصابرين بكل شرف وفخر، وأما أهل الكفر والطغيان فليس لهم إلا الدعوات واللعنات تلاحقهم في قبورهم وجحيمهم.