قرين التوحيد بر الوالدين

[align=justify]قرين التوحيد بر الوالدين
توحيد الله، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، وتعظيمه، وتمجيده، وتنزيهه عن الند والولد ركن عظيم من أركان الإيمان، وجزء لا يتجزأ من عقيدة المؤمن لربه الملك الديان، ورغم عظم الموضوع ومكانته، وجلالته فلن أحدثكم عنه، وإنما أحدثكم اليوم عن قرينه، عن قرين التوحيد، عن هذه العبادة النفيسة، والباب العظيم من أبواب القربات الشريفة، باب رغم أنف امرئ أدركه ولم يكن له سببًا من أسباب دخول الجنة.
حديث اليوم عن الوالدين، عن الذين قدموا سعادتنا على سعادتهم، وراحتنا على راحتهم، نتكلم عن الوالدين اللذين تعبا، وسهرا، وقدما الغالي والنفيس في سيبل فرحتنا، وبهجتنا، فأي كلمة تنهض بحقهما؟! وأي لفظة تؤدي شكر نعمتهما؟! إن الحروف تعجز، والكلمات تخرس عن وصف مكانتهما وعظمتهما وبيان شأنهما أمام البيان الملكي العظيم من رب العالمين المنزل على أشرف الأنبياء والمرسلين، حيث قال الربُّ جلَّ وتقدسَ في علاه آمرًا نبيَه الكريم صلى الله عليه وسلم وأمتَه من بعده: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). [الإسراء:23، 24].
أرأيتم بيانًا أعظم من هذا؟! أعرفت البشرية خطابًا أجل من هذا في بيان شأن وعظمة الوالدين؟! أرأيتم كيف اقترن التوحيد ببر الوالدين؟! إنها دلالة على عظم شأن الوالدين عند ربِّ العالمين، وأن المخالف لأمر الله جلَّ في علاه واقع في كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟)، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) متفق عليه([1])، فعقوق الوالدين جريمة كبيرة، وآفة خطيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ)([2]).
فأين من قتل أباه ليرثه؟! أين من أخرج أمه من داره؟! أين من حبس أباه في غرفة لا يطعمه ولا يسقيه؟! أهكذا يكون البر؟! إذا كلمة (أف) نهينا عن قولها، فكيف بمن يشتم؟! وكيف بمن يضرب؟! وكيف بمن يطرد؟! وكيف بمن يقتل؟! أنسي العاق من كان سببًا لوجوده في الدنيا؟! أنسي العاق من حمله صغيرًا؟! أنسي من سهر ليله لينام؟! وأنهك بدنه ليقوى؟! هل ذهبت تلك الأيام؟! وهل نسيت تلك السنوات بعد أن اشتدَّ ساعدك وكنت من قبل لا تقوى على الرمي؟!
فيا عَجَبًا لمنْ رَبَّيتُ طفلًا .. أُلقَّمُهُ بأطرافِ البَنانِ
أُعلِّمُهُ الرِّمَايةَ كُلَّ يومٍ .. فلما اشتَدَّ ساعِدُهُ رماني
نعوذ بالله من الخذلان! فلنحذر من العقوق، ولنسارع بالإحسان إلى والدينا بإكرامهما، وحسن صحبتهما، ولا نقل لهم إلا الطيب من القول؛ كما قال سبحانه: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا)، فنتعامل مع الوالدين في خضوع، وخفض صوت، وحسن أدب، وتلمس للحاجات؛ لأننا بهذه الأخلاق ننال رضا الخلاق، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا)، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (بِرُّ الوَالِدَيْنِ)، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)([3]). إن علينا أن نحسن إلى والدينا بالتواضع لهم، ولين الكلام معهم، فلا نقل لهما أف، ولا نتتضجر من طلباتهم واحتياجاتهم، بل نسمع لهما ونطيع كما سمعوا لنا وأطاعونا، ونقوم بحملهما كبارًا كما حملونا صغارًا، ونتوجه إلى الله تعالى بالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة حال حياتهما وبعد موتهما، (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
قال ذو النون رحمه الله: "ثلاثة من أعلام البر: برُّ الوالدين بحسن الطاعة لهما، ولين الجناح، وبذل المال، وبرُّ الولد بحسن التأديب لهم، والدلالة على الخير، وبرُّ جميع الناس بطلاقة الوجه، وحسن المعاشرة"([4]).
أصلح الله قلوبنا، ورزقنا حسن البر بوالدينا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: حين يقوم المسلم ببر والديه فإنه يجني ثمارًا وآثارًا عظيمة، وإن من أعظم هذه الآثار رضا الله سبحانه وتعالى، فمن أراد أن يرضى الله عنه، فليرض والديه، وليسر على منهج الله وشرعه، ففي الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام: (رِضَاءُ اللَّهِ فِي رِضَاءِ الْوَالِدِ وَسَخَطُ اللَّهِ في سخط الوالد)([5]).
ثم إن الله جلَّ جلالة إذا رضي عن عبده أفاض عليه من الخيرات والبركات والنعم ما لا يحصيه إلا هو سبحانه.
ثانيًا: زيادة العمر والرزق، أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)([6]).
ثالثًا: دعاء الوالدين، فالبار يجد من التوفيق والفتوحات في دنياه وآخرته بسبب دعوات والديه له، فكم من أسير فك الله أسره، وكم من مريض شفاه الله، وكم من ذي حاجة قضى الله حاجته بسبب دعاء الوالدين، فَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ)([7]).
رابعًا: أنها سبب من أسباب دخول الجنة، ودونكم هذه القصة التي ترويها الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها حيث قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نِمْتُ، فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)، قَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ)([8]).
فنبه عليه الصلاة والسلام بقوله: (كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ)، على أن من أراد بلوغ هذه المنزلة، فإن من أسبابها برُّ الوالدين.
وفي حديث أبي الدَّرْدَاءِ، تحفيز لنيل هذه الدرجة حيث قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَاحْفَظْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ دَعْهُ)([9]).
فيا خسارة من أدرك أحد أبويه أو كلاهما ولم يدخلاه الجنة، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الخبر حيث قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ)([10]).
هذه يا عباد الله بعض ثمار وآثار البر التي نسأل المولى القدير أن يكرمنا بها، وأن يعيننا على برِّ آبائنا وأمهاتنا.
عباد الله: صلوا وسلموا على السراج المنير، والهادي البشير كما أمركم ربكم بذلك فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].




([1]) صحيح البخاري، رقم (5976)، صحيح مسلم، رقم (87).

([2]) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (2408).

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (5970).

([4]) شعب الإيمان ج6/187.

([5]) رواه ابن حبان في صحيحه، رقم (429).

([6]) رواه أحمد في مسنده، رقم (13401).

([7]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (10196).

([8]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (25182).

([9]) أخرجه أحمد في مسنده، (27552).

([10]) رواه أحمد في مسنده، رقم (7451).


[/align]
المرفقات

قرين التوحيد بر الوالدين.docx

قرين التوحيد بر الوالدين.docx

المشاهدات 1648 | التعليقات 1

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لم أستطع رفع الخطب للأسابيع الماضية نظرًا لما حصل في الموقع من صيانة ونحوه، وبفضل الله وكرمه تم رفع الخطب السابقة وهي:

1. (الرسول القدوة).
2. (إحسان الظن بالناس).
3. (قرين التوحيد بر الوالدين).

تقبل الله صالح الأعمال وجزى الله القائمين على هذا المنتدى خيرًا.