قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ

مبارك العشوان
1436/06/27 - 2015/04/16 21:14PM
إن الحمد لله... أما بعد: فاتقوا ... مسلمون.
عباد الله: روى الإمام مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ) وقال عَلَيْهِ الصلاة وَالسَلّاَمَ: ( قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ) أخرجه ابن حبان وصححه الألباني. هنيئا للمتحابين في اللهِ نيلُ محبةِ الله، هنيئا لهم يوم يناديهم الله: ( أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي ) رواه مسلم.
الحب في الله؛ عملٌ من أجَلِّ الأعمال وأفضـلِها؛ به تُنالُ وَلَايَةُ الرحمن، وبه تُدركُ محبتُه تبارك وتعالى؛ وبه يُوجَدُ طعم الإيمان وحلاوتُه، الأخوة في الله نعمة امتن الله تعالى بها على عباده؛ فقال: {... وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا }آل عمران103
رابطة الدين ـ أيها الناس ـ أوثق رابطة، وصلته أقوى صلة، فـ ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) رواه مسلم
و: ( الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ). رواه البخاري ومسلم
ما أعظم الأخوة والولاء عندما يقومان لله لا لغيره، وما أجمل الحب حين يكون لله وفي الله وحده.
صحبة المتحابين في الله دائمة، ومودتهم باقية، لا تزيدها الأيام إلا وثوقا وإحكاما؛ وكما هي باقية في الدنيا فهي كذلك إلى يوم القيامة؛ كما قال تعــالى: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } الزخرف 67 . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم: ( صارت كُلُّ خُلةٍ عداوةً يوم القيامة إلا المتقين ).
المحبة الخالصة لله لا تتبدل، أما ما كان لغيره تعالى فسرعان ما يزول ويتبدل، يقوم لغرضٍ ويقعد لآخر؛ علاقات المصالح الدنيوية؛ تدوم بدوامها وتزول بزوالها، تجدُ بين الرجلين من المحبة والتقدير ما يثير العجب، وما ثلبث يسيرا إلا وقد تحولت إلى نزاع وشقاق؛ ولا غرابة في زوالها؛ فإنما بُنيت على أمر زائل؛ بُني لأجل المناصب علاقات، ولأجل التجارة علاقات ولحوائج الدنيا علاقات، وما أن تقضى تلك الحاجة، أو يُقال صاحب المنصب أو يتقاعد، أو يفلس صاحب المال؛ إلا ويتخلى عنهم، ويتنكر لهم كل من صاحبهم لأجل هذه الأمور.
ألا فأخلصوا محبتكم لله؛ تدوم لكم دنيا وأخرى، وتنالوا بها من ربكم عظيم الجزاء.
عباد الله: ثم اعلموا رحمكم الله أن الشريعة جاءت بالحث على ما يقوي المحبة بين المؤمنين، وبالتحذير مما يوقع العداوة والبغضاء والفرقة بينهم.
وإن مما يقوي الروابط بين المسلمين أداء الحقوقِ الواجبة بين المسلمين: فحَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: ( إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ ) رواه مسلم.
إفشاء السلام جالب للمحبة ولا شك، وهو سبب لدخول الجنــــة
كما في الحديث: ( لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّواأَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ) رواه مسلم. وعيادة المريض كذلك جالبة للمودة ومرققة للقلوب، وطريق لكسبِ عظيم الأجور، ففي الحديث: ( مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا ) أخرجه الترمذي. وأخبر عَلَيْهِ الصلاة والسلام أن: ( الْمُســْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ ) رواه مسلم.
ومما يقوي المحبة: الإصلاح بين الناس قال تعالى: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }النساء114. ومن ذلك نصرتك لأخيك المسلم، ووقوفك معه، وتفريج كرباته وستر عيوبه، والذب عن عرضه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه البخاري وقال عليه الصلاة والسلام: ( من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار ) أخرجه الإمام أحمد والطبراني وقال الألباني صحيح .
اللهم أعتق الله رقابنا من النار برحمتك يا أرحم الراحمين.
بارك لي ولكم ... وأقول ما تسمعون وأستغفر الله...


الخطبة الثانية:
الحمد لله...أما بعد: فإن مما يقوي المحبة بين المؤمنين: التسامح بينهم، والتجاوز عن الزلات، يقول الشافعي رحمه الله: مَنْ صَدَقَ في أخُوةِ أخيه قَبِلَ عِلَلَهُ، وَسَدَّ خَلَلَهُ، وغفر زلته.
ومما يقوي المحبة: بذل الهدية وقبولها والمكافاة عليها، ففي الحديث: ( تهادوا تحابوا ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني.
ومن علامات صدق الأخوة ومما يقويها: الدعاء لأخيك بظهر الغيب قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ ) رواه مسلم
ومن ذلك: الإيثار، وهو منقبة جميلة أثنى الله تعالى على أهلها فقال: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الحشر9
ومما يقوي المحبة: إخبار أخيك بمحبتك له؛ وكذا دلالتهُ على الخير، وكفُّه عن الشر؛ دَلَّ على كلِ هذا حديث معاذ رضي الله عنه، لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدهِ وقال: ( يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
ثم الحذرَ من مفسدات المحبة، ومنها ما جاء به حديثُ: ( لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّـامٍ ) رواه البخاري ومسلم. ومن ذلك: النميمة، والسعي بالإفساد بين الناس ـ اللهم أعذنا من النميمة ومن كل خلق ذميم. اللهم واهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم اجعلنا من المتحابين في جلالك، وأظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك. ثم صلوا وسلموا...
المشاهدات 1841 | التعليقات 0