قَدِمَ الصَّيْفُ !! 1445/11/23ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : قَدِمَ الصَّيْفُ بِحَرَّهِ وَتَعَبِهِ، وَأَخَذَتْ الْأُسَرُ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّخْطِيطِ لِقَضَاءِ عُطْلَةِ الصَّيْفِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فِي مَصَايِفَ خَارِجَ الْبِلَادِ أَوْ دَاخِلَهَا، وَصَارَ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ يَشْغَلُ أَوْقَاتِ الْأُسَرِ مِنْ وَالدَيْنِ وَأَوْلَادٍ أَكْثَرَ مِنْ انْشِغَالَهِمْ بِالِاخْتِبَارِاتِ الَّتِي أَصْبَحَتْ عَلَى الْأَبْوَابِ.
وإليكُم هَذهِ الوقَفَات :
الْوَقْفَة الْأُولَى: حَدِيثُ النَّاسِ عَنْ الْحَرِّ قَدْ مَلَأَ جُلَّ الْأَوْقَاتِ، وَكَيْفِيَّةِ التَّخَلُّصِ مِنْهُ صَارَ مِنْ أَعْظَمِ الِانْشِغَالَاتِ؛ فَكُلُّ النَّاسِ يَشْكُو قَسَاوَةَ الْحِرِّ، وَكُلٌّ يَتَّخَذُ التَّدَابِيرَ مِنْ وَسَائِلَ وَغَيْرِهَا، لِئَلَّا يُعَانِي مِنْ أَلَمِه، فَمِنْ أَيْنَ هَذَا الْحَرُّ ؟ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، وَخَاصَّةً مَعَ النَظْرَةِ الدُّنيَويِّةِ للحَياةِ الَّتِي تُقَامُ عَلَى حِسَابِ النَّظْرَةِ الشَّرْعِيَّة لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّة ، فَتَسْتمعُ إلَى أَغْلَبِ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَهِيَ تَقُولُ: إنَّهُ مُنْخَفِضٌ جَوِيٌّ مِنْ بَلَدٍ فَلانِي !
وَتَسْتَمِعُ إلَى آخَرِينَ فَيَقُولُون: ثُقْبٌ فِي طَبَقَةِ الأوزون سَبَبُ مِثْلِ هَذَا الْحَرِّ ! وَصَار أَوَّلُ مَا يَدُورُ فِي ذِهْنِ الْعَوَّامِ أَنَّهُ: احْتِرَاقُ غَابَةٍ مِنْ الْغَابَات !
وَلَكِنَّنِي أَدْعُوكَ إلَى أَنْ تَسْتَمَعَ إلَى الْأخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، مِمَّنْ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى الْأَحْوَالِ الجَوِّيَّة .. وَلَكِنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى وَحْيِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ .. خَبَرٌ مُوْقَعٌ عَلَيْهِ:"وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى"..
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ! فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِير ".
وَأَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم ".
عِبَادَ اللَّهِ : تِلْكُم الْحَرَارَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، ذَلِكُمْ الْحَرُّ الَّذِي مَا زَالَ يَفْتَكّ بِالْآلَاف فِي أَقْصَى الْعَالِمَ، إنَّمَا هُوَ مِنْ نَفْسِ جَهَنَّم - أَعَاذَنِى اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ - فَمَا هُوَ حَرّهَا إذْن ؟!
أَوْصَافُهَا فِي الْقُرْانِ وَالسُّنَّةِ تُغْنِي عَنْ كُلِّ الْأَوْصَافِ .. قَالَ تَعَالَى:"إذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا" ، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: "تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ، يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُه " !
لِذَلِكَ كَانَ الصَّالِحُونَ إِذَا شَعَرُوا بِشِدَّةِ الْحَرِّ قَالُوا: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ حَرٍّ جَهَنَّم.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :الْوَقْفَة الثَّانِيَة.. هَذِهِ الشَّمْسُ الَّتِي حَيَّرَتْ الْعُلَمَاءَ، وَأَعْجَزَتْ الْحُكَمَاءَ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ سَعَتِهَا، وَشَدِيدِ عَظَمَتِهَا، حَتَّى أَعْلَنُوهُا بِالرَّغْمِ مِنْهُمْ أَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ الْأَرْضِ بِمِلْيون وَثَلَاثَةَ مِئَةِ أَلْفٍ مَرَّة ! لِشِدَّةِ حَرِّهَا مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَيَاةَ عَلَى كَوَاكِب أَعْظَمَ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا .. وَمَا يَصِلُنَا مِنْ أَشِعَّتَهَا إنَّمَا هُوَ أَدْنَاهَا !يُخْبِرْنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي الْقُرْانِ الْكَرِيمِ قَائِلًا:"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مِنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء".رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ:
" أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ ؟" قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِن فَلَا يُؤَذِّنُ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:"وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم"، هَا هِيَ الشَّمْسُ عَلَى عَظَمَتِهَا، وَسَعَتِهَا، تَرَاهَا تَذِلُّ لِلْوَاحِدِ الْأَحَدِ، فـ:"يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :الْوَقْفَة الثَّالِثَة.. كَمَا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّمْسَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ، فَسَيَجْعَلُهَا مِنْ جُنُودِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ! فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا "، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيه ، عِنْدَئِذ يَشْتَدُّ بِالنَّاسِ الْكَرْبِ، وَيَعْظُمُ بِهِمُ الْخَطْبُ، فَيَأْتُون الْأَنْبِيَاءَ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ تَعَالَى، لِيَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَعْدَ طُولِ انْتِظَارٍ".
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :الْوَقْفَة الرَّابِعَة: هَذِهِ الشَّمْسَ كَمَا تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَرٍّ جَهَنَّم، فَهِيَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى سَعَتِهَا ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ".
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُكَوَّرَانِ فِي نَارِ جَهَنَّم " وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعْذِيبِهِمَا، وَلَكِنْ تَبْكِيتًا لِعِبَادِهِمَا .. فَاَللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ:" إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون" فَإِذَا كَانَتْ الشَّمْسُ أَكْبَرَ مِنْ الْأَرْضِ بِمِلْيون وَثَلَاثِمِائَةٍ أَلْفَ مَرَّةٍ، ثُمَّ تُلْقَّي وَتَكُورُ فِي النَّارِ، فَكَيْفَ هِيَ سَعَةُ جَهَنَّمِ !
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :الْوَقْفَة الْخَامِسَة.. فَهَذَا الْحَرُّ الشَّدِيدُ، إنَّمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ يُمَيِّزُ اللَّهُ بِهِ الصَّالِحِينَ، وَعُقُوبَةٌ وَعَذَابٌ لِلْمُنَافِقِين ، فَلَيْسَ الْحَرُّ عَائِقًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَمَنْ عَاقَه الْحَرُّ عَنْ الطَّاعَةِ فَفِيهِ شَبَهُ بِالْمُنَافِقِين، كَمَا حَدَثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرُّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون" ، أَمَّا الصَّفْوَةُ مِنْ عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ فِي الْحَرِّ غَنِيمَةٌ لَا تُفَوَّتُ ؟ فحِينَ يَخْرُجُ الْمُصَلِّي إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ، فَيَرَى الشَّمْسَ اللَّاهِبِةَ، وَيُحِسُّ بِالْحَرِّ اللَّافِحِ، لَكِنَّهُ يَطْمَعُ فِي رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَدَّخَرُ هَذَا الْمَخْرَجَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلَا بَنُون إلا منْ أتى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ.
المرفقات
1717067797_الحرّ.docx