قبساتٌ من نورِ الفاتحة
راكان المغربي
قبساتٌ من نورِ الفاتحة
الخطبة الأولى
أما بعد:
في حُلْكَةِ الظّلامِ، وغَياهِبِ الدُّجى، يبحثُ المرءُ عن قبساتِ النورِ، وشُعَلِ الضياءِ.
لا يسلمُ كلُّ إنسانٍ في هذه الحياة، من التيهِ في ظلماتِ الدّنيا، فتمرُّ عليه لحظاتُ الحزن، أو يغشاه جحيمُ الكآبةِ، أو يسقطَ في شِراكِ الغِوايةِ.
ومن رحمةِ الله جل وعلا، أنه يسّر لنا سبلَ النجاةِ ودلّنا عليها، فكلُّ ضيقٍ له مخرج، وكلُّ ظلمةٍ فيها بصيصُ النّورِ.
واليوم نقفُ مع نورٍ عظيمٍ أمدّنا اللهُ به ووهبنا إياه ليخرجَنا من الظلماتِ إلى النورِ بإذنه سبحانه.
يقول عبدالله بن عباس -رضي الله عنه-: "بيْنَما جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا -والنقيض هو صوت فتح الباب- مِن فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقالَ: هذا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ اليومَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا اليَومَ، فَنَزَلَ منه مَلَكٌ، فَقالَ: هذا مَلَكٌ نَزَلَ إلى الأرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا اليَومَ، فَسَلَّمَ، وَقالَ: أَبْشِرْ بنُورَيْنِ أُوتِيتَهُما لَمْ يُؤْتَهُما نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بحَرْفٍ منهما إلَّا أُعْطِيتَهُ".
ذلكم هو النورُ الإلهي، إنه نورُ فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ. من تلكم الأنوارِ نقتبسُ شعلَ الضياءِ التي تضيءُ حياتَنا بالنورِ، وتبهجُها بالسعادةِ والسرورِ.
واليوم سنتحدثُ عن نورِ الفاتحةِ، تلك السورةُ التي فَرضَ اللهُ علينا أن نقرأَها في كلِّ يومٍ سبعَ عشرةَ مرة، لأنه يعلمُ سبحانه ضعفَنا وحاجتَنا وحيرتَنا في ظلماتِ الأرضِ، فمدّنا بنورِ الفاتحةِ لنقتبسَ منه ما يضيءُ قلوبَنا، ويصحِّحُ سيرَنا.
فهلمَّ هلمَّ إلى قبساتٍ من سورةِ الفاتحةِ، لعلَّها تكونُ سبباً لأن نخرجَ من الظلماتِ إلى النورِ بإذن اللهِ ورحمتِه.
القبسُ الأولُ هو نورُ التعظيمِ، فهذا أولُ قبسٍ تقتبسُه من نورِ الفاتحةِ، فبِقراءتِك للفاتحةِ يَعْظُمُ اللهُ في قلبِك، ويمتلئُ هيبةً وإجلالاً للهِ العظيمِ سبحانه.
فتبدأ الفاتحة وتقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
والحمدُ هو الثناءُ على اللهِ بمحاسنِه المحمودةِ من أسماءِ وأوصافِ الجلالِ والجمالِ، مع حبِّه وتعظيمِه جل وعلا.
تحمدُ اللهَ وتثني عليه لأنَّه سبحانه ربُّ العالمين. والربُّ هو المالكُ المتصرفُ للإصلاحِ والتربيةِ. فإن كنتَ أنتَ ربَّ أسرةٍ مكوّنةٍ من أفرادٍ محدودين، فإن اللهَ هو ربُّ عالمِ الإنسِ كلِّهم بقبائلِهم وعشائرِهم وأقطارِهم وأجناسِهم وأعراقِهم، وهو ربُّ عالمِ الجنِّ، وعالمِ النّملِ، وعالمِ النحلِ، وعالمِ النباتِ، وعالمِ البكتيريا، وعالمِ الفيروساتِ، وعالمِ الكواكبِ، وعالمِ النجومِ، وعالمِ الذّراتِ. فهو سبحانه ربُّ العالمين أيْ ربُّ كلِّ هذه العوالمِ وغيرِها مما نعلمُ ومما لا نعلمُ، كلُّ هؤلاءِ! اللهُ سبحانه مالكُهم والمتصرفُ فيهِم بالإصلاحِ والتربيةِ والتغذيةِ بنعمِه الجليلةِ.
ثم تواصلُ الثناءَ على اللهِ واستمدادَ نورِ التعظيمِ، وتقولُ بعد ذلك: (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) الذي رحمتُه سبقتْ غضبَه، والذي رحمتُه وسعتْ كلَّ شيء، هو الرحمنُ الرحيمُ في الدنيا، فكلُّ مظاهرِ الرحمةِ فيها إنما هي مستمدةٌ من رحمتِه سبحانه، وأعظمُ رحماتِه تتجلى في يومِ القيامةِ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وتِسْعِينَ جُزْءًا، وأَنْزَلَ في الأرْضِ جُزْءًا واحِدًا، فَمِنْ ذلكَ الجُزْءِ يَتَراحَمُ الخَلْقُ، حتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن ولَدِها، خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ)
ثم تثني عليه سبحانه وتقول: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فتستحضرُ ملكَه في ذلك اليومِ، حين يقدمُ كلُّ جبابرةِ الأرضِ وملوكُها وسادتُها إلى اللهِ صاغرين ذليلين. في ذلك اليوم (يأخذُ الجبارُ سماواتِهِ وأرْضَهِ بيدِهِ، ثُمَّ يقولُ: أنا الجبارُ، أنا الملِكُ، أينَ الجبارونَ ؟ أينَ المتكبِّرُونَ؟). هناك في يومِ الدينِ يتجلَّى ملكُه للعباد، ويظهرُ قهرُه للخلقِ، فالكلُّ حاضرٌ بلا جندٍ ولا مالٍ، ولا سلطةٍ ولا قرارٍ (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).
وبعد هذه الجولةِ من الثناءِ على الله، يخرجُ القلبُ وقد أضاءَ بنورِ تعظيمِ الله، فيتصاغرُ كلُّ شيءٍ أمامَه. فالهمُّ يتضاءَل، والشيطانُ يتصاغر، ولا يبقى في القلبِ إلا اللهَ بجلالِه وعظمتِه، وحينها تتجهُ إلى اللهِ بقلبِك، وتجأَرُ إليه بلسانِك، وتقولُ مستمداً قبساً جديداً من نورِ الفاتحة فتقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
وهذا هو قبسُ الافتقارِ إلى اللهِ، فتعلنُ أنكَ عبدٌ ذليلٌ له، مستسلمٌ بين يديه، خالصُ القلبِ إليه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وخلالَ رحلةِ العبوديةِ، تعترفُ أنكَ محتاجٌ إلى معونتِه، مفتقرٌ إلى مددِه، لا غنى لكَ عنه (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وهذه الآية تنيرُكَ في كلِّ ترديدٍ لها، بغايتِك ووُجهتِك، وزادِك وَوَقودِك، فالغايةُ هي عبوديةُ الله، والوصولُ إليها لا يكونُ إلا بالاستعانةِ به سبحانه. وإذا استحضرتَ ذلك أشرقَ القلبُ بنورِ الافتقارِ، وذاقَ لذةَ القربِ، وعاشَ نعمةَ الوصولِ إلى اللهِ.
وبعد أن أثنيتَ على ربِّك أعظمَ الثناءِ، واعترفتَ له بِذُلِّكَ وفقرِكَ إليه، هنا تَلْمِسُ نورَ الهدايةِ وتقول داعياً متضرعاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)).
نورُ الهدايةِ الذي يقشعُ لكَ ظلماتِ الضلال والغواية، فتسعَدَ في دنياك، كما قال اللهُ لأبيكَ آدمَ يعلمُّه طريقَ السعادةِ: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ). نورُ الهدايةِ الذي يضيءُ لكَ الصراطَ حتى تسير عليه فتدخلَ جنةَ ربِّك كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
حاجتُك إلى نورِ الهدايةِ أشدُّ من حاجتِك إلى الطعامِ والشرابِ، لأنك إن فقدتَّ الطعامَ والشرابَ هَلَكَتْ دنياك، وإن فقدتَّ نورَ الهدايةَ أظلمتْ دنياكَ، وخسرتَ آخرتَك.
الهدايةُ باختصارٍ هي معرفةُ الحقِّ، ثم العملُ بِهِ، ثمَّ الثباتُ عليه حتى الممات.
فكم من حقٍّ لا تعرفُه؟ فأنتَ محتاجٌ إلى الهدايةِ لتعرفَه.
وكم من حقٍّ تعرفُه، ولكنكَ لا تعملُ به؟ فأنتَ محتاجٌ إلى الهدايةِ لتعملَ بِه.
وكم من حقٍّ تعرفُه وتعملُ به؟ فأنت محتاجٌ إلى الهدايةِ، لتثبتَ عليه حتى الممات.
فارفعْ إلى اللهِ حاجتَك، واستمد نورَ الهدايةِ في كلِّ ركعةٍ من صلاتِك، بأن تسألَها اللهَ بقلبٍ حاضر، أن يهديَك صراطَه المستقيم، الذي هو صراطَ الذين أنعمَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداءِ والصالحين، وأن يجنِّبَك اللهُ طريقَ من عرفوا الحقَّ فلم يعملوا به، وهم اليهودُ المغضوبُ عليهم، وطريقُ من جَهِلوا الحقَّ فتاهوا عنه، وهم النصارى الضالّون.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا عبدَ اللهِ:
مما يعينُك على استحضارِ معاني الفاتحةِ واستمدادِ أنوارِها، أن تستشعرَ أنّك تناجي اللهَ سبحانَه فتكلمُه ويكلمُك، وهو اللهُ العظيمُ، وأنت العبدُ الفقيرُ الحقيرُ!
روى أبو هريرةَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ فيما يرويه عن ربِّه: (قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ)
فأبشرْ ثم أبشرْ يا من قرأتَ الفاتحةَ بلسانِك، وعقَلْتَ معانيها بقلبِك، أبشرْ بنورٍ يبدّدُ ظلماتِك، ويُبهِجُ روحَك، ويشرقُ على حياتِك، فاقدُرْ لِهذا النورِ قدرَه، وأعطِهِ حقَّه في كلِّ ركعةٍ من صلاتِك بحضورِ القلبِ ولَهَجِ اللِّسان.
اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين
المرفقات
1725451485_قبساتٌ من نورِ الفاتحة.docx
1725451486_قبساتٌ من نورِ الفاتحة.pdf