قال : لا ، إلا من طين..
HAMZAH HAMZAH
"قال : لا ، إلا من طين.."
وفوائدُ حديث جُريج العابد ..!
جامع الفهد- محايل عسير- د . حمزة آل فتحي..
الحمدُ لله تعالى، وهبَنا العقول لنتفكر، وقصَّ علينا القصصَ لنعتبر ، وجعل في أخبار الأمم مواعظ لنتذكر... { لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب}...
نحمدُه على فواضلِ نعمِه، ونشكره على موانحِ كرمه، له النعمةُ وله الفضل وله الثناءُ الحسن...
أشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
أما بعد :
أيها الناس :
حينما يُعبِّرُ الزاهدُ عن زهدهِ ، ويتباعدُ عن زينة الدنيا وفتنةِ الناس ، يعجبُ كثيرون ويستغربون مثل ذلك، لا سيما في أزمنة اتساع النعم، وغلبة الرفاهية ..!
هنا جُريجٌ العابد ، صالحٌ من بني إسرائيل ، أساءَ له قومه وافتروا عليه، وهدموا صومعتَه ، فلما ظهرت براءتُه قالوا : نبنيها من ذهب ، فردَّ عليهم ردَّ العابدِ الزاهد ، المنشغل بالعبادة ، والمعرض عن الدنيا .." لا ، إلا من طين ".
نعم، .. من طين ...!
فهل الذهب سيُصلح قلبي، أو سيورث لي نشاطا في العبادة .
وهنا درسٌ لنا في ترك المبالغة في الكماليات ، وعدم الافتتان بزهرات الدنيا، وإن كان الذهب محرما علينا في ديننا . ولكننا نحذر الدنيا على العموم . { فلا تَغُرنكم الحياةُ الدنيا ولا يغرنكم بالله الغَرور } سورة لقمان .
وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في تعليم صحابته ، قصُّ القصص، والتذكيرُ بأخبار الماضين، ليُريَهم كيف عاشَ الناس، وكيف ابتُلي أهلُ الإيمان ، وكيفَ احتملوا المتاعب والشقاء، وكيف تمت لهم النجاة ... { فاقصصِ القصصَ لعلهم يتفكرون } سورة الأعراف.
جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : { لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ ؛ عِيسَى. وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، كَانَ يُصَلِّي، جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ : أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي ؟ فَقَالَتِ : اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ . وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ : مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ : مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ ؟ قَالَ : الرَّاعِي. قَالُوا : نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ : لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ ، فَقَالَتِ : اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ. فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ - ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتِ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ. فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ : لِمَ ذَاكَ ؟ فَقَالَ : الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ : سَرَقْتِ زَنَيْتِ. وَلَمْ تَفْعَلْ }.
في هذا الحديث: قصصُ الذين تكلموا في المهد أي الصغر، وبيان لبعضهم، وكيف أن اللهَ يمتنُّ على بعض عباده، كما حصل لعيسى عليه السلام، حتى يُبرئَ أمه الصديقةَ مريم بنتَ عمران{ قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } سورة مريم.
فوقعت عليهم تلك الحادثة كالصاعقة، فكفرَ من كفر ، وأيقنَ أهلُ الإيمان، وأدركوا أنه عبدُ الله ورسوله .
ومنهم صاحبُ جريجٍ العابد: وحديث جريج، ... ونبأ جريج ...
الذي احتوى درسا وعلما، وفيه حكمةٌ وخبر عجيب، تنشد له النفوس، وتصغي إليه الأفئدة .
ومن الفوائد هنا : أن اللهَ على كل شيء قدير ، يُعطي ويمنع، ويَبسطُ ويقبضُ، لا رادَّ لأمره ، ولا معقبَ لحكمه .
وفضلُ العبادة ، وأنها سببٌ للنجاه، ووجوب بر الوالدين ، وخطورة عصيانهم، وإثبات كرامات الأولياء ، وهي ماتنخرق فيه الأمورُ لهم على خلاف العادة، فضلا من الله ونعمة، لا سحرا ولا شعوذة . { ألا إن أولياءَ الله لا خوفٌ عليهم ولاهم يحزنون } سورة يونس .
وفي الحديث : أنّ برَّ الوالدين مقدمٌ على صلاة النافلة ، وفيه خطورة مخالطة أهل المعاصي ، وأنّ رؤيتَهم عقوبة، قالت والدته :" اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ ". أي الزواني الفاجرات .
وهي موعظةٌ لمن يتساهل في النظرات ، ومشاهدة الفساد والخلاعة .
وأن الصلاةَ مفزعٌ عند البلايا والكروب كما قال تعالى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ سورة البقرة . وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ وأهمَّه قام إلى الصلاة ...
وفِي القيام لربي بالصلواتِ... مقامُ عز وحزم واستقاماتِ
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها
أقولُ قولي هذا وأستغفر ....
———
الحمدُ لله رب العالمين ، وأصلي وأسلمُ على سيد الأولين والآخِرين ، نبينا محمد وعلى آلهِ وصحبه أجمعين ...
وبعد :
أيها الإخوةُ الكرام :
ومن فوائدِ هذا الحديث أيضًا : الحذرُ من فتنة النساء، وأن المراةَ سلاحُ الأعادي في النيل والتوريط والتشويه ، وعدمُ الاغترار بالمظاهر ، فكم من ظالمٍ فاسد يُظهر الودَّ والعدل ، غطاءً واستغفالا ، وكم من فقيرٍ بئيس وهو مظلوم ، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره ، فلا تَغُرنّكم المظاهرُ المادية، ولا الصورُ الجمالية المزيفة ...! فاللهُ ينظرُ إلى القلوب والأعمال ، وليس الصور والأجسام...!
وفيه قبحُ الظلمِ والزنا وسوء عاقبتهما، فالطفلُ الصغير ترك ثدي أمهِ ، وقال للجبار :" اللهم لا تجعلني مثله " . واختارَ أن يكون كالمرأة المسكينة التي يجرونها وتقول " حسبي الله"، لأنها تقية صالحة في مجتمعٍ ظالم متجبر، والله المستعان ...
اللهم أصلح قلوبَنا ، وزكِّ نفوسنا ، وطهر نياتِنا ، يا ذَا الجلال والإكرام ..
اللهم صل على محمد وعلى آل محمدٍ...