في وفاة الأثرياء .. عبرة وعظة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
معاشر المؤمنين ... في صباح اليوم تناقلت رسائل خبر وفاة غني من أثرياء هذه المنطقة وبالتحديد مدينة الدمام. فقلت : سبحان الله ! دوام الحال من المحال.. ما كانه يملكه بالأمس انتقل اليوم إلى غيره. كان بالأمس في قصر وبعد صلاة الجمعة سينتقل إلى قبر. بالأمس قد علا في البناء وبعد صلاة الجمعة سيعلو على الأكتاف محمولاً إلى داره الحقيقي. رأيت مجلسَه الكبير الوسيع وبعد صلاة الجمعة سينتقل إلى مكان ضيق صغير .. أين ملكه! أين ماله ! أين ثروته ! أين تجارته ! قد أصابه الضعف فتعرى في عدم مقدرته على حفظ مكانته التي كان عليها. حي من أحياء مدينة الدمام تسمى باسمه، إنه الرجل عبدالله فؤاد رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ذلك الرجل الذين عُرِف بحبه للخير وأهله. كان موته عبر وعظة .. يذكرنا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر ر ضي الله عنهما حيث قال ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) فالإنسان في هذه الدنيا كالغريب الذي يسكن أرضاً ليست أرضَه، أو ينزل داراً ليست داره، أو يَحُلُّ ببلد ليست بلدَه، فمهما سكن في تلك الدار وأقام في ذلك القطر فإنه سيعود إلى موطنه الأصلي. فأنت أيها الإنسان! أنت غريب وعابر سبيل في هذه الدنيا، وسَتُرَدُّ إلى آخرتك حيث هي دار القرار.
الخليفة هارون الرشيد رحمه الله تعالى؛ ذلك الرجل العظيم الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إلينا خراجك، إن شاء الله تعالى. كان يقول ذلك وهو يشعر أنه ملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملك أطراف الأرض، ولما نام على فراش الموت بكى وقال ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) ثم قال لمن حوله: "أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه". فحملوه إلى القبر فنظر إليه، ثم بكى ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه. هنا أدرك هارون الرشيد وأدرك عبدالله فؤاد رحمهما الله تعالى أن الملك والمال لا يدومان، وأن العز والجاه والسلطان لا ينفع في سكرات الموت، ولا ينفع إلا عمل صالح قدّمه الإنسان المؤمن لمثل هذه اللحظات. فلمثل هذه اللحظات فلْيعملِ العاملون.
لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدريس اشتد عليه الكرب فلما أخذ يشهق بكت ابنته. فقال: يا بنيتي لا تبكي، فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة. كلها لأجل هذا المصرع.
كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". وفي رواية: "وعُدَّ نفسَكَ من الموتى".
إنَّ للهِ عـبـاداً فــطَنـَا *** طَلَّقوا الدُّنيا، وخافوا الفِـتَنَا
نظـروا فيها ولمـّا علـموا *** أنّـها ليسـتْ لِحَيٍّ وَطَـنا
جعـلوها لُجَّـةً واتَّخـذوا *** صَالحَ الأعمـالِ فيها سُـفُنَا
أيها الأخوة ... الدنيا دار صدق لمن صدق فيها، ودار نجاة لمن أعرض عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، فهي مصلى الأنبياء، ومتجر الأولياء، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، ولقد علم أولئك الصالحون أن بعدَ الموت بعثٌ، فعملوا لما بعد البعث. فقال الله ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ).
ونحن - معاشرَ المؤمنين - نَدين الله جل وعلا، ونؤمن بأن حياة البرزخ إما أن يحيا أصحابها في نعيم دائم إلى يوم القيامة، وإما أن يعيشوا في عذاب لا يعلم حدوده إلا الله، نسأل الله أن يجعلنا من أهل النعيم في الدنيا والآخرة.
وبعد حياة البرزخ بَعْثٌ ونشور، فالله جل وعلا قادر على أن يبعثك بعد الموت، لأنه خلقك ولم تك شيئا، هو الذي أوجدك من العدم المحض ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) فبعد البرزخ بعث، وآه من البعث ومشهده! ما أعظمَه وأَجَلَّ شأنه!! فبعد البعث حشرٌ إلى أرض ستقف عليها لتُحاسَبَ بين يدي الحق جل وعلا.
كل ابن آدم يبعث على ما مات عليه، فمنهم من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن يمينه ومن بين يديه، اللهم اجعلنا من أهل الأنوار، ومنهم من يبعث والظلمات تغلّفه وتحيط به من كل جانب ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ )
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية. اللهم! اجعلنا من أصحاب النور ممّن تنوّر قلوبهم وعقولهم وقبورهم. اللهم! نَوِّرْ أفئدتنا وعقولنا وقبورنا بنور الإيمان والعمل الصالح، واجعلنا ممن يلقاك وأنت راضٍ عنه. اللهم! أَحْسِنْ خاتمتنا، واجعل حياتَنا حياةَ السعداء، ومِيتَتَنا مِيتةَ الشهداء، واجعل مَرَدَّنا إليك غيرَ مُخْزٍ ولا فاضح. يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
معاشر المؤمنين ... جاء في حديث حديث عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( يَطْوِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ).
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجـر
فكـم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من صغار يرتجى لهم طول العمر *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبـر
وكـم من عروس زينوها لعرسـها *** وقد قبضت أرواحهم ليلـة القـدر
وكـم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فـمن عـاش ألفـا وألفيـن إنـه *** لابـد من يـوم يسـير إلى القبر
أيها المؤمنون .. إن الله كتب الفناء على كل شيء " كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " ، وحكم بالموت على كل حي " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ، كل نفس يا عباد الله لا بد أن تشرب المنون صغيرة أم كبيرة ، ملكة أم فقيرة ، وزيرة أم حقيرة ، " كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون " .
اللهم تجاوز عن سيئاتنا ، واعف عن زلاتنا ، اللهم ارزقنا الاستقامة على الدين ، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، اللهم هون علينا سكرات الموت ، اللهم يمن كتبانا ، ويسر حسابنا ، وأجرنا من النار ومن فتنة القبر والدجال إنك على كل شيء قدير ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
المشاهدات 2124 | التعليقات 1

بارك الله فيك شيخ إبراهيم على خطبك وحضورك جعلها الله في ميزان حسناتك ونفع ربي بها عباده.