في ظل تضييع المال العام.. وقفة على شاطئ العمرين-2-2-4-1441هـ

محمد بن سامر
1441/04/01 - 2019/11/28 20:29PM
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وليُ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُه الأمينُ، عليه وآلهِ الصلاةُ وأتمُ التسليمِ.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الأعزاء، إنه إذا وقعَ بالناسِ بلاءٌ، يكونُ المسؤولُ العادلُ أولَ المتأثرينَ، وآخرَ المنتفعينَ، وهكذا كان عمرُ-رضي اللهُ عنهُ-.
لما أصابَ الناسَ هولُ المجاعةِ والقَحطِ في عهدِ عمرَ، كان لا ينامُ إلا قليلًا من الليلِ، وما زال به الهمُّ حتى تغيّرَ لونُه، وضَعُفَ جسمُه، وقالَ من رآه: "لو استمرّتِ المجاعةُ شُهورًا أخرى لماتَ عمرُ من الهمِّ والأسى".
جاءته يومًا قافلةٌ من مصرَ، تحملُ اللحمَ والسّمنَ، والطعامَ واللباسَ، فوزّعها على الناسِ بنفسِه، وأبى أنْ يأكلَ شيئًا، وقالَ لقائدِ القافلةِ: ستأكلُ معي في البيتِ، ومنَّى الرجلُ نفسَه وهو يظنّ أنَّ طعامَ أميرِ المؤمنينَ خيرٌ من طعامِ الناسِ، وجاءَ عمرُ والرجلُ إلى البيتِ جائعَينِ بعدَ التّعبِ، فأمرَ عمرُ بإحضارِ الطعامِ، فإذا هو خبزٌ مكسّرٌ يابسٌ والإدامُ زيتُ، فاندهشَ الرجلُ وتعجّبَ! وقال: لِمَ منعتني منْ أنْ آكلَ مع الناسِ لحمًا وسمنًا؟! فقالَ عمرُ: ما أُطْعِمُك إلا ما أُطْعِمُ نفسي، فقال الرجلُ: وما يمنعُك أنْ تأكلَ كما يأكلُ الناسُ، وقد وزّعتَ اللحمَ والطعامَ عليهم؟! قالَ عمرُ: لقد حلفتُ ألا أذوقَ السمنَ واللحمَ حتى يشبعَ منهما جميعُ المسلمينَ.
فللهِ أنتَ يا عمرُ! وللهِ قلبٌ تحملُه! ذلك شاطئُ عمرَ الأولِ، فمنْ عمرُ الثاني؟ إنه حفيدُ عمرَ بنِ الخطابِ، خامسُ الخلفاءِ، وصالحُ الأمراءِ، إنه عمرُ بنُ عبدِالعزيزِ، الذي ضربَ في العدلِ مثلًا لا يكادُ يُجارى، حيثَ بدأَ بنفسِه وخاصةِ قومِهِ.
وليَ عمرُ بنُ عبدِالعزيزِ الخلافةَ فنظرَ في بيتِ مالِ المسلمينَ، ثم نظرَ إلى ما في يدِه، ثم نظرَ إلى ما في يدِ أُمراءِ بني أميةَ، فبدأَ بنفسِه وأهلِه، فدعا زوجه فاطمةَ، ابنةَ الخليفةِ، وزوجةَ الخليفةِ، وأختَ الخلفاءِ، فقالَ: يا فاطمةُ، هذه حُلِيُّكِ، تعلمينَ من أينَ أتى بها أبوك؟ فإن رأيتِ أنْ أردَّها إلى بيتِ مالِ المسلمينَ فعلتُ، وإلا خذيها وفارقيني، فواللهِ لا أجتمعُ أنا وهي في دارٍ أبدًا، فقالتْ: واللهِ لا أريدُها يا أميرَ المؤمنينَ، بل أُريدُ صُحْبَتَك، فردّتْ حُلِيَّها إلى بيتِ مالِ المسلمينَ. فلما ماتَ عمرُ قالَ لها أخوها: يا فاطمةُ، إنْ شئتِ رددْتهُا إليكِ، قالتْ: لا واللهِ! لا آخذُها وقد ردَّها عمرُ.
ثم ثنى بأمراءِ بني أُميةَ، فقطعَ عنهم كلَّ الأموالِ والأعطياتِ التي كانوا يأخذونها، واستردَ منهم العقاراتِ والأراضي التي نهبوها أو امتلكوها بالظلمِ؛ فاستشاطوا غضبًا، فأرسلوا إلى ابنِه عبدِ الملكِ، فقالوا: يا عبدَالملكِ، إِما أنْ تستأذنَ لنا على أبيك، وإِما أنْ تُبَلِّغَه عنا، قال: قولوا، فقالوا: أخبِره أنَّ منْ كان قبلَه من الأُمراءِ يُعطوننَا أُعطياتٍ، ويصلوننا بصلاتٍ، فقطعَها عنَّا، ونريدُ أن يعيدَها إلينا، فأبلغَ عبدُالملكِ أباه قولَهم، فقالَ: ارجعْ إليهمُ فقلْ لهم: إنَّ أبي يقولُ: "إني أخافُ إنْ عصيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ"، لجامٌ ألجمَ عمرُ به نفسَه.
لقد كانت حاجاتُ المسلمينَ حاجتَه، وهمومُهم همَه، لا يستصغرُ حاجةً ولا يَستعظُمها. كتبتْ إليه أمةٌ سوداءُ من مصرَ برسالةٍ، تطلبُ منه فيها طلبًا صغيرًا، لكنه عندَ أهلِ العدلِ عظيمٌ، كتبتْ تقول: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، من فرتونةَ السوداءِ، إلى أميرِ المؤمنينِ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ، أما بعدُ: فإنَّ لي جدارًا حولَ بيتي انهدمَ بعضُه، فأصبحَ الغلمانُ يدخلونَ فيَسرِقُون دجاجي، فأْمُرْ واليَك على مصرَ فَلْيُقِمِ الجدارَ".
إنّ هذا الطلبَ الصغيرَ الذي يوجَّه في رسالةٍ إلى عمرَ، يدلّ على تواضعِه، وأنَّ حاجاتِ المسلمينَ كبيرةٌ عنده، وإنْ كانتْ في ظاهرِها صغيرةً، فكتبَ إليها: "من عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ إلى فرتونةَ، أما بعدُ: فإني قدْ أمرتُ أميري على مصرَ أنْ يُقيمَ لكِ الجدارَ، والسلام".
"وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ: فيا كلَ مسؤولٍ! أنتَ مؤتمنٌ، فكنْ مثلَ عمرَ، أو بعضَ عمرَ، تفزْ في الدنيا بحبِ الناسِ وثنائِهم، وتوفيقِ اللهِ لك؛ وفي الآخرةِ بالأكبرِ: رضوانِ اللهِ وجنتِه.
هذا هو العدلُ، وتلك نتائجُه، ومن كابَر وظلمَ فليحذرْ كلَّ الحذرِ، سألَ الرسولُ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ- أصحابَه، فقال: "أتدرونَ منِ المفلسُ؟"، قالوا: الْمُفْلِسُ فينا من لا دِرْهمَ له ولا متاعَ، فقال: "إنَّ المفلسَ من أمتي منْ يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقدْ شتمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا. فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيتْ حسناته قبل أن يُقْضِى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار".
إنَّ أمامَنا يومًا يجتمعُ فيه الخصومُ عندَ اللهِ فيقضي بينهم بحكمِه، وحكمُه العدلُ-جل وعز-، يقضي اللهُ بالعدلِ، حتى فيما يكونُ بين الحيوانِ، فكيف بظلمِ الإنسانِ لأخيه الإنسانِ؟ قال-عليهِ وآلِه الصلاةُ والسلامُ-: "لَتُؤَدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلِها يومَ القيامةَ، حتى يُقَادَ للشاةِ الجلحاءِ-التي ليس لها قرونٌ-من الشاة القرناء"، وقالَ: "منْ ظلمَ قيدَ شِبرٍ منْ الأرضِ، طُوِّقَهُ من سبعِ أرضينَ"، ولا يغترَ ظالمٌ بظلِمه، فربُنا يـُمْهلُ ولا يُهملُ، قال-عليهِ وآلِه الصلاةُ والسلامُ-: "إنَّ اللهَ لَيمْلِي للظالمِ-يُؤَخِرُ عقابَه-حتى إذا أخذَه لم يُفْلِتْه، ثم قرأ: "وكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ".
ومن غشَّ المسلمينَ أو أكلَ المالَ العامَ ظلمًا فليتذكرْ أنه صائرٌ إلى اللهِ، وأنَّ للمظلومينَ دعواتٍ في ظلامِ الليلِ لا تردُ، ولئن ْكان الظلمُ في المال الخاص ممقوتا، فإنه في المال العام أنكى أثرا، وأشدُ خطرًا، وأبعدُ ضررًا.
أَمَا واللهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤمٌ*وما زَالَ المـُسيءُ هو الظَّلُومُ
سَيُعلم في الجَزَاءِ إذا التَقَيْنَا*غدًا عِنْدَ الإِلهِ مَن المـــَلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمـــْضِي*وعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ
إنَّ أكثرَ نُزولِ البلاءِ بالذنوبِ، وإنَّ رفعَه بالتوبةِ، وإنَّ ما يصيبُ بعضَ الناسِ من شدةٍ وكربٍ، أو ضائقةٍ وخطبٍ تخويفٌ من اللهٍ، لعلهم يرجعون.
ولعلَّ باغيَ الشرِ أنْ يَكُفَّ، ومُروِّجَ الفتنةِ أنْ ينتهيَ، فاللهُ يغارُ، وبطشُه شديدٌ، وإذا أرادَ اللهُ بقومٍ سوءًا فلا مردَّ له، فما أحسنَ أنْ نتوبَ إلى الله دائمًا لننجوَ بها في الدنيا، ونفوزَ بها في الأُخرى.
اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا والمسلمينَ سيِئ الأخلاقِ والأعمالِ، اللهم أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا ووُلاةَ أُمورِ المسلمينِ، وارزقهمْ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، أسألُك لي ولهم من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأُعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ.
المرفقات

ظل-تضييع-المال-العام-وقفة-على-شاطئ-الع-3

ظل-تضييع-المال-العام-وقفة-على-شاطئ-الع-3

المشاهدات 582 | التعليقات 0