في ظلال اسم الرقيب (2)

شايع بن محمد الغبيشي
1445/02/13 - 2023/08/29 08:58AM

في ظلال اسم الرقيب (2)

إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ : فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

عباد الله أُخبر رجلٌ أنه مراقبٌ في جميع تصرفات في كل مكان في بيته في الشارع في العمل في السوق في كل أسفاره وتنقلاته، وأن تقارير يومية تسجل عنه، لقد تغير حال صاحبنا فأصبح رجلاً مثالياً فهو حسنة التعامل مع زوجه وأولاده وموظف منضبط في عمله مؤدٍ له على أحسن حال، وهو حسن التعامل مع جيرانه، وقد ترك كثيراً من الموبقات، لقد سُل أكثر من مرة ما الذي غير حياتك؟ ماذا جرى لك لقد أصبحت كأنك شخصٌ آخر؟ ودار الحديث بين أقرانه ما الذي غيره؟ لعلكم عباد الله عرفت سبب تغير حياته إنه الرصد والمراقبة له، فكيف لو علم كل واحد منا أنه مراقبٌ رقابة أشد من رقابة صاحبنا، كيف لو تذكر قول الله:{إنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } الله الرقيب الذى يرى أحوال العباد ويعلم أقوالهم، ويحصى أعمالهم، ويحيط بمكنونات سرائرهم، إنها رقابة ترصد ما تخفيه الصدور وتكنه القلوب قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} وقال جل وعلا: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ماذا إخوة الإيمان لو استشعر الإنسان مراقبة الله عز وجل له مراقبة تحصي حتى ما يدور في الصدور ماذا لو استشعر الإنسان أن معه ملكان : {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } تسجل في كتابه كل صغيرة و كبيرة : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } إنها مراقبة تحيل الأرض التي تمشي عليها شاهدة عليك {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} مراقبة تحيل جوارح العبد شاهدة عليه، قال تعالى: ( وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) هذا هو القسم من أقسام المراقبة: مراقبة الله عند إرادة لمعصية أو الوقوع فيها ،قال ابن الأعرابي: " آخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد ".

ماذا لو استشعر المؤمن هذه المراقبة كيف سيكون حاله عباد الله ماذا لو تذكر موقفه يوم القيامة قال النبي صلى الله عليه وسلم: { لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً }، قيل: يا رسول الله صفهم لنا، جلّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ قال: { أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني

عباد الله إن مراقية الله عز وجل عند إرادة المعصية وتذكر أن الله يطلع على العبد ويراه سبحانه يورث ثمرات عظيمة منها:

أولاً: الحياء من الله عز وجل أن يستحي العبد من ربه أن ينظر إليه وهو يبارزه بالعصيان {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} عن سعيد بن يزيد الأنصاري: «أن رجلا قال: يا رسول الله أوصني، قال: «أوصِيكَ أنْ تَسْتَحِي مِنَ اللهَ - عز وجل - كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا مِنْ صَالِحي قَوْمِكَ» رواه الإمام أحمد وصححه الألباني

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء». قال: قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله، قال: «ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» رواه الترمذي وحسنه الألباني.

كان وهيبُ بن الورد يقول: «خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك».

وقال له رجل: عِظني، فقال: «اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ الناظرين إليك».

وأنت تنظر إلى معصية الله تذكر أن الله ينظر إليك وأنه هو الذي أنعم عليك بالبصر وأنه لوشاء أن يسلبك هذه النعمة لفعل ولكنه لطيف بعبده رحيم به

وإذا خلوت بريبة في ظلمة ...   والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني

اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، اللهم اجعلنا ممن يستحي منك حق الحياء يا حي يا قيوم.

الخطبة الثانية:

 الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد: عباد الله ومن ثمرات استشعار مراقبة الله حال المعصية:

ثانياً: الإقلاع عن المعصية فإن الحياء من الله يوجب للعبد أن يقلع أذا استشعر أن ربه جل وعلا مطلع عليه وفي قصة صاحب الغار الذي اطبقت عليه الصخرة مع صاحبيه قال صلى الله عليه وسلم:

«وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ: لَا تَنَالُ ذَلِكَ منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتِ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ ‌الْخَاتَمَ ‌إِلَّا ‌بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قَالَ: فَفَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلُثَيْنِ» رواه البخاري ومن رحمة الله عز وجل أن من هم بمعصية فلم يفعلها حياء من الله كتبها الله له حسنة كاملة منّة منهً وفضلاً.

ثالثاً: من الثمرات مراقبة الله حال المعصية التوبة إلى الله عز وجل عند الوقوع في الذنب والندم على ذلك والإقبال على الله جل وعلا {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } ([1])  

عباد الله علينا أن نستشعر مراقبة الله لنا واطلاعه علينا وأن نعلم أن من أخطر الذنوب هي ذنوب القلوب من الغل والحسد والحقد والشحناء والرياء والكبر والعجب فإن الله ينظر إلى قلوبنا ويطلع عليها سبحانه فلنطهر قلوبنا لربنا ولنحذر من فسادها فالقلب السليم سبب نجاة العبد يوم القيامة { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ([2])  

ومن فساد القلب التفكير في المعصية والعزم والاصرار عليها ولنتذكر أننا نستطيع أن نختفي عن أعين الناس لكن الله ينظر إلينا ويطلع على أعمالنا  

وﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﺧﻠﻮﺕ ﺍﻟﺪﻫﺮ ﻳﻮﻣﺎ ﻓﻼ ﺗﻘﻞ     ﺧﻠﻮﺕ ﻭﻟﻜﻦ ﻗﻞ ﻋﻠﻲ ﺭﻗﻴﺐ

ﻭﻻ ﺗﺤﺴﺒﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﻐﻔﻞ ﺳﺎﻋﺔ          ﻭﻻ أﻥ ﻣﺎ ﺗﺨﻔﻴﻪ ﻋﻨﻪ ﻳﻐﻴﺐ

رابعاً: استشعار لطف الله ورحمته بعباده حيث وهبهم النعم ثم يراهم يبارزونه بالعصيان بتلك النعم التي أنعمها عليهم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } ([3]) مع ذلك لا يسلبهم تلك النعم ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يحلم عليهم ويدعوهم إلى التوبة والرجوع إليه، وذلك يوجب علينا عباد الله أن نحب ربنا، وتتعلق قلوبنا به سبحانه، ويوجب لنا الإنابة والأوبة والفرار إليه.

اللهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ ‌فِعْلَ ‌الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِنا وَتَرْحَمَنِا، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ، فَتَوَفَّنا غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَنسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِنا إِلَى حُبِّكَ "

 

 

 



([1]) ـ [آل عمران: 135، 136]
([2]) ـ [الشعراء: 88، 89]

 
([3]) ـ [النحل: 53]

المرفقات

1693288709_في اسم ظلال الرقيب 2.pdf

المشاهدات 216 | التعليقات 0