في رحاب سورة (والليل)
عبدالله محمد الطوالة
إنَّ الْحَمْدُ للهِ، نَحْمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70]..
أما بعد: فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَديِ هَديُ محمَّدٍ ﷺ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ..
معاشر المؤمنين الكرام: القرآن الكريم: هو الصراط المستقيم، وهو الذكر الحكيم، وَهو النُورُ المبِين، لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ اُجِرَ، وَمَنْ دَعَا اِلَيْهِ هُدِيَ اِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، كلما ازدادت البصائر فيه تأمُلاً وتفكُرا، زادها هِدايةً وتبصُرا..
إنه حياةُ القلوبِ، وشفاءُ الصدورِ، وأُنسُ النفوسِ، ورَوْحُ الأرواحِ، ونُورُ البصائرِ، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون} [الزخرف:44]..
القرآنُ الحكيم: نميرٌ عذبٌ.. وموردٌ ثجَّاج.. يُنبِتُ في القلوب مهابةَ اللهِ وخشيتهِ، ويُسكِنُها إجلالَهُ وعظمتَهُ، ويعمُرُها بخوفه ورجائهِ ومحبتهِ، ويزيدُها هُداً وتُقىً وثباتاً.. {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]..
ولا والله ما في الدنيا شيءٌ يفعلُ بالقلوب مثلما يفعلُ القرآن.. فهو يوقظها من غفلاتها، ويُذكِي فيها جذوة الإيمان والتقوى.. ويحركُ فيها كوامِن الخير والهدى.. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].. لذلك يقول الإمام ابن القيم: ليس شيءٌ أنفعُ للعبد في معاشه ومعاده، من تدبُّر القرآنِ وإطالةِ التأمُّلِ فيه، وجمعِ الفكرِ على معانيه.. ولو علم النَّاسُ ما في قراءة القرآنِ بالتَّدبُر, لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإنَّ قراءةَ آيةٍ واحدةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ، خيرٌ للقلب وأنفعُ, من قراءة ختمةٍ كاملةٍ من غير تدبُّرٍ ولا تفهُّمٍ..
فتعالوا بنا أحبتي في الله، تعالوا لنعيش لحظاتٍ نافعةٍ ماتعة، مع سورة من سور القرآنٍ مباركةٍ رائعة، نتأملُ معانيها، ونتدبرُ مراميها، وننهلُ من معِينها، ونستنزِلُ بركتَهَا، ونسترشدُ بأنوارها، ونستلهِمُ هِدَاياتِها.. سورةٌ من قِصار السورِ المكية، ذاتِ عباراتٍ موجزةٍ عميقة، وصورٍ متقابلةٍ أنيقة، وإيقاعٍ قويٍّ سريع، سورةٌ مباركةٌ عظيمةٌ، جليلةٌ كريمة، تهز القلوب الغافلة، وتحرك العقولَ الجامدة، سورةٌ تبشرُ وتنذر، وتأمرُ وتحذِّر.. وتوضحُ الفرقَ الهائلَ بيْنَ حالِ المؤمِنِ وحالِ الكافِر، ومصيرِ كلٍّ منهما في الدارين.. فما هي هذه السورةِ العجيبة؟..
إنها سورة الليل يا عباد الله.. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:1]..
وتأمل كيف استفتح اللهُ هذه السورةِ المباركة بالقسم، فأقسمَ سبحانهُ أولاً: بالليل حين يُغطي بظلامه كلَّ شيء, وأقسمَ ثانياً: بالنهار حين يُشِعُ ويُسفِر، ويُبددُ ظلمات الليل بضيائه, وأقسمَ ثالثاً: بخلق الزوجين: الذكرَ والأنثى، وفي كلِّ هذا إشارةٌ لا تخفى، فكما أنَّ الليلَ والنهار, والذكر والانثى, على طرفي نقيضٍ من التباين والاختلاف، فإنَّ أعمالكم أيها الناسُ مختلفةٌ كل الاختلاف، ما بين مُحسنٍ ومسيء، وما بين مجتهدٍ ومهمل، وما بين من يعملُ للدنيا، ومن يعملُ للآخرة..
ولا يفوت المتأملَ أنَّ اللَّيلَ والنَّهار هما زَمانُ السَّعْيِ والعمل، وأنَّ الذَّكَرَ والأُنثى، هما من يقومُ بالسعي والعمل، فجوابُ القسم: إِنَّ أعمالكم متفاوتة مختلفة كما يختلف اللَّيلُ عن النَّهارُ، وكما يختلف الذَّكَرُ عن الأُنثى.. وكما أنه سبحانه لم يُسَوِّ بيْن اللَّيلِ والنَّهارِ والذَّكَرِ والأُنثى.. فأنَّه سُبحانَه لا يُسَوِّي بيْن جزاءِ الكافرِ والمؤمن، ولا بين المسيء والمحسن..
هكذا يُقسِم الحقُّ جلَّ وعلا، ثلاثة أقسامٍ مُتتابعة، وجوابُ القسم: أنَّ سَعْيَكُمْ أيها الناس وأعمالكم في هذه الحياة, متفاوتة وبينها اختلافاتٌ شَتَّى، فمِنكم المؤمِنُ ومنكم الكافِرُ، ومنكم البر ومنكم الفاجر، ومنكم المطيعُ ومنكم العاصي، ومنكم المخلِصُ ومنكم المُرائي، ومنكم المحسن ومنكم المسيء.. كما قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [آل عمران:152]، وقال جل وعلا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].. وقال تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].. وفي الحديث الصحيح: " كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها"..
نعم: فالناس مشاربٌ شتى، وتوجهاتٌ مختلفة، فمن الناس مَن يَغْدو ليعتق نفسهُ ويكرمها، ومنهم من يغدو ليُوبق نفسهُ ويُهلِكها.. منهم مَن همَّتهُ في الثَّرى، ومنهم من همتهُ في الثُّريَّا، والله عزَّ وجلَّ وحده, هو الذي يعلمُ ما في القلوب، فمن الناس من نيته في الخير حاضرة، حريصٌ أن يقومَ بعمله خيرَ قيام، مجتهدٌ أن يسيرَ في حياته بما يرضي ربه من الامانةِ والاخلاص والاتقان، ومن الناس من نيته في الشرّ حاضرة، ليس عنده من التصرفات والأعمال إلا ما فيه إفسادٌ واعتداء وشرور، واساءةٌ إلى الناس..
ثم إنك إذا تأملت في هذا الاختلاف الكبير بين أعمال العباد، رأيت أنه ناتِجٌ من اختِلافِ الهِممِ والارادات.. فكُلَّما صَحتْ العزِيمةُ، وعظُمتْ الِهمَّةُ، ازدادَ سعيُ الانسانِ وطلبهِ لمعالي الأمورِ.. والعكس بالعكس، فتَفاوتُ النَّاسِ واختلافهم إلى مراتب ودرجاتٍ شتى، إنما هو بقدر تفَاوتِ هِمَمِهِم وإرادَاتِهم.. وهل يُقاسُ المرءُ إلا بهمَتِهِ وعزيمته، فمن صَلُحَتْ همَّتهُ وصَدَقَ فيها، صَلُحَ لهُ ما وراءَ ذلكَ من الأعمَالِ.. ورُبَّ هِمَّةٍ، أوصلت صاحبها للقمة..
ومع اختلاف السعي وتفاوته، فإن كلَّ انسانٍ مسؤولٌ عن نفسه وسعيه، فهو الذي يكسِبُ عمله، ويكتبُ قصةَ نجاحه أو فشله، (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون) [الجاثية:29].. فعليكم يا عباد الله بالصدق، والتشمير عن ساعد الجد.. فـ(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة) [المدثر:38].. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد) [آل عمران:30]..
وفي قولِه تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}، إيجاز وإجمالٌ, يُشوقُ السامعَ إلى التَفصيلِ، وتفصيل الله رائعٌ وجميل: تأمل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5].. فتَفصيلُ (شتَّى): هو انقسامُ الناسِ إلى فَريقينِ: فَريقٌ مُيسَّرٌ لليُسْرى، وفَريقٌ مُيسَّرٌ للعُسْرى؛ كقولِه جل وعلا: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:6]..
ولنتأمل أكثر: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) [الليل:5]، فمهمة الانسان في الدنيا هي أن يُعطي، يُعطي مما أُعطي، مما هو قابلٌ ونافعٌ للعطاء، فيعطي من ماله، ويعطي من جاهه، ويعطي من جُهده، ومن وقته وعلمه وخبرته، يُعطيه لمن؟.. يُعطيهِ لكل من هو مُستحقٌ للعطاء..
وتنبه أيها المسلم، فهذا العطاءُ لا ينفعُ إلا بالتقوى، وإرادةُ وجهِ المولى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110].. (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل:5]، يعني آمنَ وصدَّقَ بما وُعد المتقونَ من حُسن الجزاء في الجنَّةِ.. كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88].. والإنسانُ لا يُعطي ولا يتقي, إلا إذا آمنَ وصدَّقَ بالحُسنى.. وتلك هي الاستقامة، ومن استقام على أمر الله, فلا يضلُّ ولا يشقى، بل يُيسره الله لليسرى، ويجنبهُ الشرورَ والعسرى..
وإذا عُلِمَ أنَّ الدِّين يقوم على ثلاثِة قواعِدَ: فِعْلُ المأمورِ، وترْكُ المحظورِ، وتصديقُ الخبرِ، فإنّ هذه الآيات الكريمة قد تضَمَّنَتْ ذلك كله؛ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل:5]، فالإعطاءُ: يشملُ فعلَ المأمورِ، والتَّقْوى: تشملُ ترْكَ المحظورِ، والتَّصديقُ بالحسنى: يشملُ تصديقَ الخبَرِ، فانتظمَ ذلك الدِّينَ كلَّه، وأكمَلُ النَّاسِ مَن كَمَلَتْ له هذه المراتبُ والقواعد الثَّلاثُ.. والذي يُعطي ويتقي ويُصدقُ بالحسنى: فإنه يكونُ قد بذلَ أقصى ما في وسعه ليتزكى ويترقى.. وعندئذ يستحقُ عونَ اللهِ وتوفيقهِ لليسرى.. فَيُسَهِّلَ عليه عمَلَ الخَيرِ الذي يوصِلهُ بفضل الله إلى جنَّةِ المأوى.. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وشحَّ بما يستطيعُ من العطا، واستغنى بما عنده ولم يَرغَبْ في طاعة المولى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، دارَ الجزاءِ الأخرى.. فَسَيُيَسَّرُ لِلْعُسْرَى، ويُسَهَّلُ عليه عمَلُ الشَّرِّ الموصِلِ إلى النَّارِ الكبرى..
وهكذا فالمكلف إذا لم تحرَّكهُ نفسهُ المطمئنة للسعي في كسب الحسَناتِ، فستحركهُ نفسهُ الامارةُ بالسوء للسعي في كسب السَّيِّئاتِ، والنفْسُ إنْ لم تَشْغَلْها بالخير شَغَلَتْك بضده.. وفي محكم التنزيل: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر) [المدثر:37]..
ولَمَّا كان أهلُ الدُّنيا إذا وَقَعوا في وَرطةٍ تخَلَّصوا منها بأموالِهم، ردَّ الله على الكفار بقوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11]، أي: ولن يَنفَعُه مالُه الَّذي بَخِلَ به، وأعرَضَ عن اللهِ بسَبَبِه، إذا احاطت به خطيئته، وهوى في جَهنَّمَ..
ونكمل ما تبقى من السورة في الخطبة الثانية بإذن الله..
أقول ما تسمعون ..
.
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى..
أما بعد فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب) [الزمر:18]..
معاشر المؤمنين الكرام: يقول الحق جل وعلا: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:12].. يقول جلَّ وعلا: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى): فنبين لكم طريقَ الحق، ونرشدكم (لَلْهُدَى)، قطعاً للأعذار، ولكي لا يكونَ لأحدٍ بعد ذلك حُجَّةٌ علينا.. ثم قال جلَّ وعلا: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل:13]، أي: أنَّ لنا وَحْدَنا مُلْكَ الآخِرةِ والدُّنيا، ولنا مُطلق التَّصَرُّف فيهما بما نشاء.. وفي ذلك إشارةٌ مهمةٌ، أنَّ هذا الإرشادَ الرباني والهُدى لطريق الحق، إنما هو كرمٌ من الله وفضْلٌ، وإلَّا فلهُ سبحانه على خلقه الحُجةُ البالغة، والآخِرةَ بكل ما فيها مِلْكُه، كما أنَّ الدنيا بكل ما فِيها ملْكُه أيضاً.. و(لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) [الأنبياء:23]..
كما أنَّ هناكَ إشارةً أخرى، وهي أنَّ أمورَ الابتلاء في الدنيا، وأمورَ الجزاءِ في الأُخرى، تَجري على مراد اللهِ ومشيئته، ووفقَ عدلهِ المطلقِ وحِكمته.. فـ{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [فصلت:46].. ولهذا جاء بعدها (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) [الليل:14]، أي: (فَأَنْذَرْتُكُمْ) أيها الناس وحذرتكم (نَارًا) عظيمةً تتوقدُ و(تَلَظَّى).. لا يَدخُلُها فـ(يَصْلَاهَا)، ويُقاسي شدة عذابها إلَّا المعاند (الْأَشْقَى).. الشديد الشقا، الَّذِي (كَذَّبَ) بالحَقِّ لما جاءه (وَتَوَلَّى)، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.. وفي المقابل فسيُبعَدُ عن هذه النَّارِ الكبرى، (وَسَيُجَنَّبُهَا) وينجو منها المطيعُ (الْأَتْقَى)، الشديد التَّقوى، الَّذي خافَ مقامَ ربه ونهى النفس عن الهوى، و(الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ)، صدقةً في سبيل الله، ليترقى في الدرجات و(يَتَزَكَّى)، وتتطهرُ نَفْسهُ من الشحِ والرذائلِ واتباعِ الهوى، وكل ذلك لا لينالَ شيئاً من الدنيا، ولا ليردَّ معروفاً قُدم له، فما (لِأَحَدٍ) من الناس (عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ) سابقةٍ (تُجْزَى)، وما من عملٍ يعمله، (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى)، وطمعاً في دخول جنة المأوى، (وَلَسَوْفَ) يكرمه الله تعالى كرماً عظيماً فيسعدُ و(يَرْضَى)..
يرضى فيطمئن قلبه، وتأنس روحه، وينشرح صدره، يرضى تمام الرضى، فلا يقلق ولا يضيق، ولا يستثقلُ العبء، ولا يستطيل الطريق..
(وَلَسَوْفَ يَرْضَى).. فيا له من جزاءٍ.. ويا لها من نعمةٍ كبرى.. فالرِّضا هو أعلى دَرجَاتِ العَطاء.. وفي الحديث الصحيح يقول المولى جلَّ وعلا لأهل الجنَّةِ: "اُحِلُّ عليكم رِضواني فلا اسخَطُ عليكم أبداً"..
فعلى المؤمنِ إذا أغناه اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يكونَ شاكرًا للنعمى، قائمًا بما أوجَبَ اللهُ عليه مِن البَذْلِ والعطا، في كل مجالٍ يحبهُ الله ويرضى.. عسى أن يوفق للخير وييسر لليسرى، ويحظى بالقبول والرضا، فيسعد في الدنيا والأخرى، سعادة لا حزن معها ولا شقى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء..
ويا بان آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صل على محمد ...