فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ 1443/5/13هـ
عبد الله بن علي الطريف
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ 1443/5/13هـ
أما بعد: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس...
أيها الإخوة: روى أَهْلُ السِير أَنَّ رَسُولَ اللّهِ ﷺ أَقَامَ بقُباءٍ وَأَسّسَ مَسْجِدَهُ، وكَانَ ﷺ أَوّلَ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي قِبْلَتِهِ ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ إلَى حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ ثُمّ أَخَذَ النّاسُ فِي الْبُنْيَانِ...
ثم خرج ﷺ متوجها إلى المدينة... وما وازن موكبُه ﷺ بيتاً من بيوتات الأنصار إلا اعترضوا طريقه وقالوا يا رسول الله: أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ فيقَولَ ﷺ: خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ لِنَاقَتِهِ فَيخَلّون سَبِيلهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ ﷺ وَهُوَ يَوْمئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النّجّارِ، فَلَمّا بَرَكَتْ وَرَسُولُ اللّهِ ﷺ عَلَيْهَا لَمْ يَنْزِلْ وَثَبَتَ فَسَارَتْ غَيْرَ بِعِيدٍ وَرَسُولُ اللّهِ ﷺ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لا يَثْنِيهَا بِهِ ثُمّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا، فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوّلَ مَرّةٍ فَبَرَكَتْ فِيهِ ثُمّ تَحَلْحَلَتْ وَزَمّتْ وَوَضَعَتْ.. فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ ﷺ وأَمَرَ بِهِ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدًا وهو مسجده، وَنَزَلَ ﷺ عَلَى أَبِي أَيّوبَ رضي الله عنه حَتّى بَنَي مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ وكان ﷺ يعَمِل فِيهِ لِيُرَغّبَ الْمُسْلِمِينَ للْعَمَلِ فِيهِ..
أيها الإخوة: إن المتأمل لفعل النبي ﷺ ومبادرته ببناء المساجد عند نزوله أي دار من دور الإسلام ليعلم علم اليقين أهمية المسجد ودوره المهم في الأمة، فلقد كان المسجد منطلقا لكل خير وموضعا لكل قرار ينظم شئون الدولة الفتية.. ولذلك تضافر الكتاب والسنة في بيان أهميته، ورتب رسول الله ﷺ الأجور الكبيرة للمهتمين بالمساجد والمترددين عليها، وخصهم بمنح عظام لا تكون إلا لهم...!
نعم أيها الأحبة: نقول هذا ونؤكده في زمن زهد بعض الناس في ذلك وعدوه من السنن المجردة وهذا بلا شك خطأ نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يوفقهم للعدول عن هذه الأقوال التي لسنا بحاجة لمثلها الآن وإنما نحن محتاجون لكل ما يرغب الناس بالاجتماع والتعاون والتآزر..
قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. [النور:36-38] أي: يتعبد لله فِي بُيُوتٍ: عظيمة فاضلة، هي أحب البقاع إليه، وهي المساجد. أَذِنَ اللَّهُ أي: أمر ووصى أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسة والأذى، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله. وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: يدخل في ذلك الصلاة كلها، فرضها، ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع الذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والمذاكرة فيها، والاعتكاف، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، وذكر منهم، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ. رواه البخاري وغيره. قَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ شَدِيد الْحُبّ لَهُ أَوْ الْمُلازَمَة لِلْجَمَاعَةِ فِيهِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ دَوَام الْقُعُود فِي الْمَسْجِد، وقال ابن رجب: أي يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فِيهِ، فإذا خرج مِنْهُ تعلق قلبه بِهِ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ..
أيها الأحبة: المساجد بقاع أرضية تُنَظِّرُها الأنوار السماوية، وترفُّ عليها الملائكة بأجنحتها، إنها أفضل البقاع عند الله، أماكن المنافسة في الخيرات، أماكن اجتماع المؤمنين، وأداء العبادات، ونزول الملائكة والرحمات، هذه الأماكن التي تُغسل فيها القلوب، وينجلي صدؤُها، هذه الأماكن التي يجتمع المؤمنون فيها معاً، طاعة لله عز وجل، وتتساوى الرؤوس مع الأجساد القائمة لله تعالى ركوعاً، وسجوداً، وقياماً وخضوعاً.
يفرح الباري سبحانه برُوْادِها المترددين إليها وكأنهم من ترددهم استوطنوها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاةِ وَالذِّكْرِ إِلا تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ.(أي تلقاه بالبر والتقريب). رواه ابن ماجة وأحمد وصححه الألباني وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قال: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ. والنُّزُل: هو ما يُعدُّ للزائر عند قدومه. وعن سلمان رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ: مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَهُوَ زَائِرُ اللَّهِ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِرَ. رواه الطبراني وصححه الألباني.
هنا السماوات تبدو قُـرب طالبها
هنا الرحـاب فضاء حين يُلتـمس
هنا الطهارة تحيــا في أماكنها
لا الطِّيب يبلى ولا الأصداء تندرسُ
ولقد بلغ حب المسجد في نفس رسول الله ﷺ منزلة كبيرة حتى أنه كان يُخرجُ به يُهادى بين رجلين من أهله في مرَض موته، تقول عائشة: لما وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً (أي في المرض الذي قبض فيه) قَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجْلاهُ تَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ.
أخي الحبيب: إذا خرجت إلى المسجد فأنت في خير كثير وحظ وفير من الأجور نذكر شيئاً منها، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لا يَنْصِبُهُ إِلا إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، وَصَلاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلاةٍ لا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ. رواه أبو داوود وقال الألباني: حديث حسن.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّه،ِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً. رواه مسلم. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ.؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ. رواه مسلم. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. روه مسلم. وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مُنْتَظِرُ الصَّلاةِ مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ كَفَارِسٍ اشْتَدَّ بِهِ فَرَسُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى كَشْحِهِ (أي: عدوه) تُصَلِّي عَلَيْهِ مَلائِكَةُ اللَّهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَقُومُ وَهُوَ فِي الرِّبَاطِ الأَكْبَرِ. رواه أحمد، وقال الشيخ الأرناؤوط: إسناده حسن.
المساجد أيها الأحبة: أحب البقاع إلى الله تعالى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا. رواه مسلم.. أسأل الله أن يدلنا على خير.. وصلى الله..
الخطبة الثانية:
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أيها الإخوة: بشر رسول الله ﷺ الذاهبين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة فعن عدد من أصحاب رسول الله رضي الله عنهم أن رسول الله ﷺ قال: بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رواه أبو داود والترمذي حديث صحيح...
ومن الفضائل التي تغيب عنا ما رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ، بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ. رواه الترمذي وقال الألباني: حسن. وإدراكها بأن يكون المسلم قائماً في الصف حين يُكبِّر الإمام تكبيرة الإحرام، وأن تُكبِّر معه مباشرة، وقد جرّب بعض الناس ذاك فوجد فيه من النعيم العظيم والسكينة والهداية شيئاً كبيراً.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. رواه مسلم..
لقد أدرك سلف الأمة هذا الفضل وهذه بعض أخبارهم قال سعيد بن المسيب: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد. وقال ربيعة بن يزيد: ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً. وقال يحيى بن معين: لم يفت الزوال في المسجد يحيى بن سعيد أربعين سنة. اللهم لك الحمد...