في بناء المساجد و عمارتها

الأولى: في بناء المساجد و عمارتها



[font="] الحمد لله النّاشر في الخلق فضله، و الباسط فيهم بالجود يده، نحمده أن جعل المساجد بيوتا للعبادة، و رغّب في عمارتها و العناية بها عبادة،و جعل ذلك من صفات المؤمنين الآخذين بأسباب السعادة.. نحمده و نشكره و نوحّده و نثني عليه، و نسأله إمداده و توفيقه و إرشاده، ونعوذ به من سيّئات الذنوب و لا راد لما أراده، بيده الخير و منه الخير يفعل ما يشاء وهو على كلّ شيء قدير.[/font]
[font="] [/font]
[font="] و نشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض و إذ أنتم أجنّة، فَضلُهُ عظيمٌ و جُودُهُ عميمٌ و له على كلّ شيء سواه الفضل و المنّة، فلا إله إلاّ الله تشدو باسمه الألسن و تستغيث و تلهج و تنادي، و لا إله إلاّ الله بذكره تطمئنّ القلوب و تسكن الأرواح، و لا إله إلاّ الله تهدأ برحمته المشاعر و تَبْرُدُ الأعصاب و يثوب الرشد و يستقرّ اليقين.. و نشهد أنّ سيدنا محمدا عبده و رسوله الذي أجارنا به من الفتنة، و خلّصنا به من المحنة، و أرسله إلينا بخير شريعة و أفضل سنّة. اللهم أَعْلِي على بِنَاءِ البانينَ بِنَاءَهُ، و أكرم لديك نزله و شرّف لديك منزلته، و آته الوسيلة و أعطه السناء و الفضيلة و احشرنا في زمرته غير خزايا و لا نادمين و لا ناكبين و لا ناكثين و لا ضالين و لا مضلّين و لا مفتونين. فاللهم صلّ عليه و على آله و أصحابه و سلّم سلاما كثيرا إلى يوم الدين.[/font]
[font="] [/font]
[font="] عبادُ الله، عمارة المساجد من شعائر الدين، و العناية بها من أوصاف المتدينين، الذين يسارعون إلى مغفرة من ربّهم و جنّة عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السرّاء و الضرّاء، و الكاظمين الغيظ و العافين عن النّاس و الله يحبّ المحسنين. و ما ينفق من مال في بناء المساجد و ما تحتاج إليه من الإمامة و التأذين، و فراشها و مصابيحها، و تسهيل ماء الوضوء و الغسل فيها و تنظيفه للمتطهرين، لا يفعله إلاّ الأغنياء الذين يصدّقون بيوم الدين، و كذلك الفقراء و المساكين الذين يجودون باليسير و هو عند الله كثير، و كل شيء أحصيناه في إمام مبين. و الحق تبارك و تعالى يقول: " إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر و أقام الصلاة و آتى الزكاة ولم يخشى إلاّ الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ". فطوبى لمن رزقه الله مالا يعمر به المساجد و المدارس و المستشفيات، و يطعم به القانع و المعترّ و البائس الفقير. و طوبى لمن اصطفاه الله لخدمة بيوته و الاعتناء بها أو التأذين فيها بإقامة الصلوات.[/font]
[font="] [/font]
[font="] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " إنما يلحق المرء من عمله و حسناته بعد موته علما علّمه و نشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورّثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته و حياته تلحقه من بعد موته ". و قال عليه الصلاة و السلام: " ابنوا المساجد و أخرجوا القمامة منها، فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنّة ". فقال رجل يا رسول الله : و هذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ قال نعم و إخراج القمامة منها مهور الحور العين. و قالت السيدة عائشة رضي الله عنها " أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ببناء المساجد و أن تنظّف و تطيّب ". و عن أبي أمامة و أبي الدرداء و وائلة ابن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جنّبوا مساجدكم صبيانكم و مجانينكم و شراءكم و بيعكم و خصوماتكم و رفع أصواتكم و إقامة حدودكم و سلّ سيوفكم، واتّخذوا على أبوابها المطاهر و جمّروها في الجمع ". و هكذا ينبغي أن تكون بيوت الله في غاية النزاهة و النظافة و التطهير.و يعني الحديث ببناء المطاهر و تأمين النظافة و التطهير، ببناء الميضة و الاعتناء بها للوضوء و الاغتسال و تنظيف بيت الصلاة من النجاسة و غيرها، و تطهير قلوب المصلين من الحقد و الحسد و النميمة و الغيبة و الكره و البغضاء فيما بينهم، و إن كان هناك اختلاف ما بين شخصين أو أكثر فليتناسوا ذلك حال دخولهم إلى المسجد و ليسعى الجميع إلى التدخل لفكّ ذاك الخلاف و محو الضغينة التي أسكنها الشيطان في قلوب المؤمنين. فلا يقبل الله تبارك و تعالى من أحدكم تكبيرة إحرام واحدة، وهو يحمل في قلبه بذرة غلّ أو ضغينة لأخ مؤمن.. و خصوصا المسؤولين على تسيير شؤون البيت، يجب أن يكونوا قدوة، مثالا يحتذى به، و لا يمكن بأيّ حال أن يكونوا هم المتسبّبين في إحداث أي نوع من الخصومات في المسجد أو خلق جوا متوتّرا يشغل السير العادي لأكبر عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله.. و من يقدم على إيتاء مثل هذه الأفعال التي نهى عليها سيد الخلق،من رواد المسجد أو الإطار المشرف، فإن بقاءه ببيته أفضل له من أن يكون سببا في زرع الخلافات و إحداث الخصومات و عرقلة المصلين على أداء عباداتهم.[/font]
[font="] [/font]
[font="] أخوة الإيمان، كانت المساجد للصلاة و الاعتكاف و تلاوة القرآن و ذكر الله و مجالسة الأخيار، و أول مسجد بني في الإسلام هو مسجد المدينة المنورة الذي شيده رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده الكريمة و أيدي المهاجرين و الأنصار. و ما زالت عناية المسلمين بالمساجد معروفة إلى اليوم ينفقون عليها الألوف المؤلفة، و ما لا يدخل تحت عدّ و لا مقدار، فلقد أنفق الوليد بن عبد الملك على المسجد الدمشقيّ أكثر من ثلاثمائة ألف دينار، و جامع قرطبة الذي بناه عبد الرحمان الناصريّ يعدّ أثرا من الآثار، و فيه من العجائب و الغرائب ما يبهر النظّار، و يسرّ المسلمين و يغيظ الكفّار، و جامع الزيتونة بتونس و جامع عقبة بالقيروان أوّل مسجد في إفريقيا و الأزهر بمصر، لا نظير لهم في سائر الأقطار، و في الهند جامع عظيم معروف بمسجد الجزّار، فعمارة مهمة و أوقاف جمّة، و نفقات تدلّ على علوّ الهمّة، و لله في خلقه أسرار، يقول الحق تبارك و تعالى: " آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم و أنفقوا لهم أجر كبير ".[/font]
[font="] [/font]
[font="] إخواني في الله، إذا رزق الله عبده الصالح مالا صالحا و سلّطه على إنفاقه في وجوه البرّ و الإحسان فقد وفّقه للخير و هداه إلى صراط الذين أنعم عليهم الله من أهل الإسلام و الإيمان، و لا غبطة إلاّ في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فهو يقول به هكذا و هكذا، و يخدم به الدين و الأوطان، و يواسي به المعوزين من الأهل و الخلاّن، و الأصحاب و الجيران، و رجل آتاه الله حكمة القرآن، فهو يقوم به أناء الليل و أناء النهار، و يعلّمه الناس إيمانا و احتسابا، و يرغم به أنف الشيطان، و قد ذهب أهل الدّثور بالأجور يصلّون كما نصلّي، و يصومون كما نصوم و يتصدّقون بفضول أموالهم، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، و هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان، " فأما من أعطى و أتقى و صدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى، و أمّا من بخل و استغنى و كذّب بالحسنى فسنيسره للعسرى ". و صدق الله تعالى إذ قال: " لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون " و قال تعالى: " و إنّما يتقبّل الله من المتقين " و قال سبحانه: " إليه يصعد الكلم الطيّب و العمل الصالح ". و حين سمع أبو طلحة الأنصاري هذه الآية قال: إنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حاء و قد جعلتها في سبيل الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه و سلم: " بخ، بخ ذلك مال رابح ". و جاء عثمان بن عفان لجيش العسرة بألف دينار و حمل على مائة فرس و ثلاثمائة بعير في سبيل الله، فقال له النبيّ صلى الله عليه و سلم: " ما ضرّ عثمان ما صنع بعد اليوم ". و هنيئا لأهل المال سعيهم المشكور و عملهم النّاجح. و كان الرجل من المسلمين يجود بماله كلّه في سبيل الله حتى مدحه الله بقوله تعالى: " و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى و لسوف يرضى ". فبورك الممدوح و تبارك المادح.[/font]
[font="] [/font]
[font="] و أنتم اليوم تملكون مئات الألوف و تدعون إلى الخير، فمنكم من يجود بالكثير و نفسه مطمئنّة و قلبه متأثّر بالدليل الواضح، و منكم من يبخل بالقليل و يكره النصيحة و النّاصح، و إذا قيل له تصدّق و كن من الصالحين، حرّك رأسه و اضطربت منه الجوارح، و كاد قلبه يفرّ من بين الجوانح، و ما عندكم ينفد و ما عند الله باق و هو الجواد الوهّاب المانح " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلاّ وعد الله الحسنى و الله بما تعملون خبير ".[/font]
[font="] [/font]
[font="] يا مسلما، لا ينبغي لك أن يكون خرجك في سبيل الشيطان كثيرا، و في سبيل الله قليلا، و أنت تعلم أن الله شاكر حليم، و أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما جاء ذلك في الذكر الحكيم. قال تعالى (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم )) و لم تكن بالله حاجة حين طلب منك القرض و وعدك عليه بالأجر الجزيل و الثواب العظيم، و لكن ليبلوكم فيما آتاكم (( و من يقرض الله قرضا حسنا يضاعفه له و له أجر كريم. وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا و أعظم أجرا و استغفروا الله إن الله غفور رحيم )) و ما أرخص الجنة التي وعد المتقون إذا كان ثمنها الدنانير.[/font]
[font="] [/font]
[font="] إذا بنيت يا عبد الله مسجدا تريد به وجه الله، كان لك من الأجر مثل أجر من تعبد فيه بالاعتكاف و الصلاة و تلاوة كتاب الله، و إذا كان في البلد مسجد يسع الناس فالعناية به أعظم عند الله من إنشاء مسجد آخر لا حاجة له، و لا خير في المفاخرة و المباهاة. و كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحذر من بناء مسجدين في بلد واحد يضار أحدهما الآخر، و تلك صفة المنافقين الذين ذمهم الله بقوله تعالى (( و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و أرصادا لمن حارب الله )) و ربكم يعلم من عبده ما أبداه و ما أخفاه مما عمله أو نواه (( هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن و الله بما تعملون بصير )) .[/font]
[font="] [/font]
[font="] عمارة المساجد ليست بزخرفتها و تزيينها الألوان، بل عابت الصحابة رضي الله عنهم ذلك على أمير المؤمنين عثمان، لولا أنه قال: بيوت الله أحق بذلك من معابد الأوثان، و إنما تعمر المساجد بعبادة الملك الديان، و بما يكون فيها من التعليم والبيان لعلوم السنة و القرآن. و ما أحسن المسلمين و هم في بيوت الله قد وقفوا صفوفا كالبنيان، يبتغون من الله سبحانه الفضل و الرضوان. فاعمروا مساجدكم أيها المسلمون ولا تعرضوها للهوان، ولا تشمتوا بدينكم الحنيف أهل سائر الأديان، وقولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.. [/font]
[font="] [/font]
[font="]أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي و لكم ولوالدي ولوالديكم وللمسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..[/font]
[font="] [/font]
[font="] الشيخ محمّد الشاذلي شلبي[/font]
[font="] الإمام الخطيب[/font]
[font="] جامع الإمام محمّد الفاضل ابن عاشور[/font]
[font="] بالزهور الرّابع - تونس[font="] [/font][/font][font="] [/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="][/font]
[font="] [/font] [font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
المشاهدات 5647 | التعليقات 0