فوائد وعظات من سورة الإخلاص خطبة رائعة للشيخ الثبيتي
عبدالرحمن اللهيبي
هذه الخطبة من روائع الخطب للشيخ الثبيتي أنقلها إليكم بتصرف
الحمد لله الواحد الأحد، أحمده -سبحانه- حمدًا لا حدَّ له ولا عددَ، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، العظيمُ الصمد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أيده ربُه ونصرَه مع قلة العُدة والعدد، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه، الذين كانوا له خير سنَد.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
نتناول في هذه الخطبة سورةً عظيمة، قصيرةَ المباني، بليغةَ المعاني، وهي تعدِل ثلثَ القرآن، قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)
إننا بتدبرنا لهذه السورة وتفسيرنا لها نتعرف فيها على الله ، والعلم بالله أصلُ كلِّ علمٍ، بل هو أجلُّ معلوم ، وأشرف مطلوب وأعظم مرغوب ولا حياة للقلوب ولا انشراح في الصدور إلا بمعرفة الله علام الغيوب، قال مالك بن دينار: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها. قيل له: وما أطيبُ ما فيها؟ قال: معرفةُ اللهِ ومحبتُه" فمن عرَف اللهَ بأسمائه وصفاته أحبَّه، وكلما زاد العبد في الله معرفةً ازداد له محبةً ، وإذا أحبَّ العبد ربه أَنِسَ بذِكْره واشتاق إليه وأحب لقاءه، وأنس بتلاوة كلامه وتلذذ بمناجاته وانشرح صدره بعبادته ووجد حلاوة التعبد في طاعته وترك معصيته ،فعلى قَدْر معرفة العبد بربه، بقدر ما يكون تعظيمه لله وإجلال له وخشيته منه
ألا وإن معرفةَ الله تجعل العبد يستحضر معيةَ الله له في كل أحواله، فيطمئن قلبُه بالله شغفا، وتسكن نفسُه بالله حبا، ويتوكَّل عليه صدقًا، ويركن إليه حقًّا، ويصلي له خاشعا ويذكره خاضعا ويدعوه موقنا
نعم إي وربي مَنْ عرَف اللهَ حقًّا سجَد فالتذَّ في سجوده، وصلَّى فخشَع في قيامه وركوعه وقعوده، من عرف الله وجد حلاوة الإيمان ولذة التعبد.
من عرف الله سيكون ذكره لله مناجاةً وصلاته لله صلةً وتلاوته للقرآن تدبراً (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
فإن قلت يا عبد الله كيف أتعرَّفُ على الله فنقول يُعرف الله بالتفقه في أسمائه وصفاته ومعرفة معانيها وإدمان النظر بها والتفكر فيها .. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، مَنْ أحصاها دخَل الجنةَ"
كما يُعرف الله بالتفكر في مخلوقاته والتأمل في ملكوته والتدبر لآيته وكثرة اللجأ إلى الله بدعائه وحضور القلب عند ذكره
من عرَف اللهَ يستحي منه أن يجدَه ربُه حيث نهاه، وأن يفقده حيث أمَرَه؛ لأنه يستحضر علم الله به ونظرَه إليه وإحاطتَه به ومراقبتَه له، وهو القائل: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)
لذلك كانت هذه السورةُ العظيمة أعني سورةَ الإخلاص رغم قصرها تعدل ثلث القرآن لأنها تعرف قارئها بربه
روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا [أي يراها قليلة] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) .
وروى مسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . قَالَ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ .
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ دَخَلَ ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ : إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنْ السَّمَاءِ ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ .
ولقد كان لها هذا الفضل العظيم بعدلها ثلث القرآن لأن القرآن أُنزل على ثلاثة أقسام : ثلث منها للأحكام ، وثلث منها للوعد والوعيد ، وثلث منها للأسماء والصفات وهذه السورة جمعت الأسماء الصفات فهي سورة تتحدث عن الله جل جلاله
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، أي هو الأحد الذي لا ند ولا شبيه ولا مثيل له ولا شريك معه، فلا إله غيره ولا رب سواه ، هو أحد في صفاته، أحد في ذاته..
أحد فقد تفرد سبحانه بصفات المجد والجلال والمتوحد بنعوت العظمة والكبرياء
(اللَّهُ الصَّمَدُ) ، والصمد هو السيد العظيم الكامل في كل صفاته، فافتقرت إليه جميع مخلوقاته واحتاج إليه كل مخلوق في قضاء حاجاته
فالصمد هو المستغني عن كل أحد، والذي يفتقر إليه كل أحد
فإذا علم العبد معنى اسم الصمد وأيقن به.. علم أنه لا مقصود غير الصمد في إصلاح أمر دينه ودنياه ، ولا مفزع إلا إليه عند النوائب والملمات ، فيتضرع العبد حينها إلى الله في الشدائد والكربات ويستغيث به عند المصاعب والمشقات..
ثم يقول الله في الآية الثالثة من السورة: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ، أي هو الحي الذي لم يسبقه عدم، وهو الباقي بعد فَناء خَلْقه، فهو الأول والآخر ، وهو -سبحانه- الغني عن الولد، ونبرأ إلى الله مما نسب إليه ذلك من اليهود الذين قالوا عزير ابن الله ومن النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله
قال تعالى: ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا )
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا أحدَ أصبرَ على أذًى سَمِعَهُ من الله؛ إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم".
ثم يقول الله في ختام هذه السورة العظيمة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ، وأنَّى يكون له كفو أو مماثل وهو وحده الخالق لكلَّ شيء، والمالك لكل شيء والمدبر لكل شيء والمتصرف وحده في كل شي، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله : إن هذه السورة العظيمة اشتملت على أسماء الله وصفاته ومن قرأها متدبرا لها وهو محبٌ لها لأجل ما اشتملت عليه فإن الله يحبه ففي صحيح البخاريِ ومسلم من حديثِ عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ رجُلاً على سرية فكان يقرأُ لأصحابهِ في صَلاتِهِم فيَختمُ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فلمَّا رجَعوا ذكَّرَوا ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلُوهُ: لأيِّ شيء يصنعُ ذلك؟ "، فسألُوهُ، فقال: لأنَّها صِفَةُ الرَّحمنِ، وأنا أُحبُّ أن أَقرأَ بِهَا، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أخبروهُ أن اللَّه يُحبُّهُ ".
ومن فضائل هذه السورة أن حُبَّها سبب لدخول الجنة فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: "كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَكَانَ يفْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةٍ أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، قَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: يَا فُلانُ، مَا يَحْمِلُكَ أَنْ تَقْرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ".
ومن فضائل هذه السورة ودلائل عظمتها أنها اشتملت على اسم الله الأعظم وأن من دعا بما في هذه السورة استجيب له فقد سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يقول: "اللهم إني أسألكَ بأنكَ أنتَ الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعِيَ به أجاب"
وعن مِحْجَنَ بْنَ الْأَدْرَعِ قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ ، وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " قَدْ غُفِرَ لَهُ ، قَدْ غُفِرَ لَهُ " ثَلَاثًا . رواه أبي داود والنسائي.
ألا وصلُّوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)